شهادات ومذكرات

لماذا رفض سارتر جائزة نوبل؟

لم تنته بعد ردود الافعال حول جائزة نوبل للاداب لعام 2022، والتي فازت بها الفرنسية "آني إرنو" وبجدارة. في في كل حديث عن الجائزة، تثار مسألة لرفض الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر للجائزة. البعض يعتبره موقفا شجاع، والبعض الآخر يحيل الأمر الى انزعاج سارتر من منح الجائزة الى البير كامو قبله بسبع سنوات. كان سارتر قد علق عندما منح كامو الجائزة عام 1957 بان كامو يستحقها ولمح الى ان كتابات كامو تتلائم مع الوضع القائم.

عندما حصل كامو على جائزة نوبل، كانت العلاقة بينه وبين سارتر قد تدهورت بسبب الردود على كتابه "الانسان المتمرد" وعندما طرح عليه سؤال في المؤتمر الصحفي للجائزة في ستوكهولم عن علاقته بسارتر قال: رائعة، لأن أفضل العلاقات هي تلك التي لا يرى فيها احدنا الاخر".

يتذكر كامو في دفاتر ملاحظاته التي صدرت ترجمتها العربية – ترجمة ماري طوق - بثلاثة اجزاء، ان علاقته بسارتر بدأت العام 1938 حين اكتشفه بالصدفة بعد ان اهداه صديق جزائري رواية: "الغثيان"، ما ان اغلق الصفحة الاخيرة من الرواية حتى قرر الكتابة عنها، آنذاك كان ينشر مقالات متفرقة في الصحف الجزائرية الناطقة بالفرنسية، يظهر المقال تحت عنوان "درس في الادب": "هذه اول رواية من كاتب لنا ان نتوقع منه كل شيء، يالها من سكينة طبيعية جدا عند الحدود البعيدة للفكر الواعي، ويالها من مؤشرات دالة على مواهب غير محدودية، ونرى في كل هذا اساسا مكينا لكي نرحب بالغثيان باعتبارها اول الغيث في عقل اصيل مفعم حيوية ونشاطا، ما يجعلنا نتحرق شوقا الى الآتي من دروسه". ومثلما حولت "الغثيان" سارتر من فيلسوف مبتدئ الى واحد من اشهر كتاب فرنسا، استطاعت الرواية نفسها وبعباراتها المثيرة ان تستفز الشاب كامو ليصدر بعد عامين روايته "الغريب" التي عجلت بحصوله على نوبل عام 1957، قبل ان يحصل عليها معلمه سارتر عام 1964، وقد قيل انذاك ان احد أسباب رفض سارتر لها ان القائمين على الجائزة قدموا تلميذه عليه.

كان عرض كامو لرواية "الغثيان" ينطوي على اعجاب كبير، ومثلما تحكي رواية سارتر الشهيرة تحطم الحياة الهادئة لبطلها روكتان، فإن "الغريب" تتناول عبء الحياة اليومية على بطلها ميرسو، يكتب كامو في دفتر ملاحظاته: " انه فكر مليا ببطل الغثيان ووجده قريبا الى نفسه، انها اول رواية تعبر عنا بالصور الذهنية ".

بعد وفاة كامو في حادث سيارة عام 1960، كتب سارتر في رثائه قائلا: "بالنسبة لكل من أحبوه، هناك سخافة لا تطاق في موته " واضاف:" لم يتوقف كامو أبدا عن كونه أحد القوى الرئيسية لنشاطنا الثقافي، فهو يمثل بطريقته تاريخ فرنسا وتاريخ هذا القرن."

وقبل خمس سنوات من وفاته، سُئل سارتر مرة أخرى عن علاقته بكامو. فكان جوابه: " ربما كان صديقي العزيز الأخير".

في ظهيرة يوم التاسع عشر من تشرين الاول عام 1964 كان سارتر يجلس في زاوية من زوايا مطعم فندق الاورينتال يتناول الغذاء مع سيمون دي بوقوار عندما انتبه الى مجموعة من الصحفيين يحاصرونه وهم يصرخون بصوت واحد " لقد نلت جائزة نوبل ".

قبل هذا التاريخ باشهر قليلة نشرت صحيفة الفيغارو انباء عن نية الاكاديمية السويدية منح سارتر الجائزة هذا العام .. الأمر الذي دفع سارتر ودي بوفوار مناقشة الامر مع اعضاء هيئة تحرير مجلة " الازمنة الجديدة " الذين وجدوا في الجائزة تتويجا لمسيرة مفكرهم، إلا ان عضوة في الحزب الاشتراكي الفرنسي كانت مقربة من سارتر ودي بوفوار كتبت رسالة تشرح فيها وجهة نظرها، وكيف ان الجائزة تُستغل احيانا لاغراض سياسية كما حصل عند منحها الى لويس باسترناك بغرض احراج الاتحاد السوفيتي. كان سارتر قد سافر الى موسكو عام 1962 للمشاركة في مؤتمر السلام العالمي. وكان يطمح آنذاك الى تعزيز الروابط الثقافية بين الشرق والغرب، وقد اتهم سارتر آنذاك بمولاة الشيوعية، وكان قد اعلن ان السياسة السوفيتية الخارجية هي سياسة دفاعية، في حين وصف السياسة الامريكية الخارجية بالعدوانية. عمل بنشاط في حركة السلام العالمي. واستمر الامر حتى يوم الرابع والعشرين من تشرين الاول عام 1956 عندما شاهد على شاشة التلفزيون الدبابات الروسية تقتحم بودابست، اصيب بدهشة، جعله يعلن ان الاتحاد السوفيتي يخلف بوعده..، أعلن رأيه بصراحة: " ادين العدوان الروسي تماما من دون تحفظ " وقال في تصريح صحفي انه قطع علاقته مع اصدقاءه السوفيت لانهم عجزوا عن التنديد بالغزو و اضاف " ان الولايات المتحدة لم تكن بريئة.انها سعت ايضا الى اعاقة بناء الاشتراكية في بلدان اوربا الشرقية

عندما تلقى سارتر خبر فوزه بجائزة نوبل للاداب وضع سكينه وشوكته وقال للصحفين انه سيرفضها.

لماذا ؟ ساله احد الصحفيين.

قال: ليس لدي شيء لاقوله الآن. احتفظ بتبريراتي للصحافة السويدية، ثم عاد ليكمل طعامه. في المساء اعلنت الصحافة رفض سارتر للجائزة

في الليل اتصلت به والدته له لتفول ان هناك حشدا من الصحفيين امام البناية. في الوقت نفسه كان هناك مجموعة اخرى من الصحفيين تقف امام شقة سيمون دي بوفوار.. الكل كان يبحث عن الكاتب المشاغب. وفي النهاية خرج لهم ليقول:" ينبغي على الكاتب ان يرفض ليتحول رفضه الى عُرف. واضاف يقول انه لم يقصد الاساءة للاكاديمية السويدية ".

كانت الأكاديمية السويدية قد قالت في بيانها انها تمنح الجائزة لجان بول سارتر تقديرا لعمله "الغني بالأفكار والمترع بروح الحرية والبحث عن الحقيقة الذي مارس تأثيرا بالغاً في عصرنا". لكن مؤلف "الوجود والعدم" كان له رأيا آخر يرى بان "على الكاتب الذي يتخذ مواقف سياسية أو اجتماعية أو أدبية ألا يعمل إلا بوسائله هو، أي الكلمة المكتوبة، وان كل ما يناله الكاتب من تكريم، يُعرِّض قراءه الى ضغط لا اعتبره مرغوبا".

أستند سارتر في رفضه للجائزة حسب قوله الى نوعين من الاسباب: اسياب شخصية لم يفصح عنها، واسباب موضوعية سطرها في بيانه الشهير الذي جاء فيه:" ان جائزة نوبل تعتبر في المرحلة الراهنة امتياز يمنح لادباء الغرب وللادباء الثائرين في الشرق. وانه لمؤسف ان تُمنح الجائزة لباسترناك قبل ان تمنح لشولوخوف " واضاف:" لقد كنت مستعدا لقبول جائزة نوبل مع كامل الامتنان اثناء حرب الجزائر حينما وقع واحد وعشرون كاتبا عريضة تطالب باستقلال الجزائر. لو منحت الجائزة لي في ذلك الوقت لكانت شرفا وتقديرا للحرية التي كافحت من اجلها، ولكن شيئا من هذا لم يقع ".

بعدها يقدم سارتر اسباب اخرى يلخصها بالقول:" ان الامر يتعلق بمفهوم الحرية في الغرب حيث يتحدثون عن حرية عامة. اما انا فأقصد حرية واقعية اقل تجريدا، قوامها الحصول على اكثر من زوجين من الاحذية وعلى الطعام الوفير، ويبدو لي ان رفضي الجائزة اقل خطورة من قبولها، لان قبولها معناه انني ارتضيت لنفسي ما ساسميه (بالاستعادة الموضوعية). ولست اقصد بهذا ان جائزة نوبل برجوازية، ولكن هذا هو التفسير البرجوازي الذي ستعطيه لها دون شك بعض الاوساط التي اعرفها جيدا ".

لكن سارتر قال إنه تعرض لتأنيب الضمير بسبب المبلغ المالي الذي تمنحه الجائزة:" لقد اوقعني هذا المشكل في حيرة بين أن اقبل الجائزة واقدم المبلغ المالي الذي ساتلقاه كمساعدة مني لبعض الحركات والمنظمات التي اقدر اهميتها، وبين ان ارفض الجائزة للاسباب العامة التي ذكرتها واحرم هذه المنظمات من المساعدة التي قد تكون بحاجة اليها. لكنني اظن انه ليس هناك في الواقع مشكلة، إذ لا يمكن ان يتقدم الانسان برفض 250 الف كرونة سويدية، من اجل مبادئ ليست مبادئه وحده وانما يشاركه فيها كثير من الاصدقاء. وهذا ما جعل كلا من القرارين عسيرا بالنسبة لي: قرار منحي الجائزة، وقرار الرفض الذي اجد نفسي مضطرا لاتخاذه ".

ظل سارتر يرفض التكريم الرسمي، فقد رفض وسام جوقة الشرف الفرنسي، ولم يكن يرغب في دخول الكوليج دي فرانس، وقال انه سيرفض جائزة لينين إذا عُرضت عليه. وذكر أن قبول الكاتب لمثل هذا التكريم يعني ربط التزاماته الشخصية بالمؤسسة المانحة، وقبل كل شيء، لا ينبغي للكاتب أن يسمح لنفسه بأن يتحول إلى مؤسسة.

على مدى عقود اعتادت باريس على منظر سارتر الذي كان ديغول يناديه بـ" الاستاذ العزيز " رغم ضيق سارتر بالرئيس الفرنسي. بملابسه البسيطة، مرة يوزع المنشورات، ومرة يساعد منظمة ماوية في بيع صحيفتها.فقد ظل سارتر يعترف ان الكلمات هي حياته " لقد استثمرت كل شيء في الادب " كما يعترف بان الكلمات كانت تعني بالنسبة له اكثر من حروفها ومعانيها، انها كائنات حية:" كنت اشعر بصوفية الكلمات، محاولا ان اعرف ماذا يعني الكلام ".

في كتابه "ما الادب" يكتب سارتر: " فليكن المؤلف كاتب رسائل او مقالات او هجاء او قصصيا، وليقتصر حديثه على عواطف فردية او ليهاجم نظام المجتمع، فهو في كل احواله الرجل الحر، يتوجه الى الاحرار من الناس، وليس له سوى موضوع واحد، هو الحرية ".

فهل يحق لنا ان نرى ان ظاهرة سارتر لاتزال حاضرة في الثقافة والمواقف، وانها ظاهرة فريدة من نوعها، لانها وقفت في وجه كل التحديات.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم