شهادات ومذكرات

الحلم يتجدد.. اليوبيل الذهبي لمهاجر

قيل خمسون عاما، نصف قرن، خلت تركت العراق للدراسه طوعا قارئي الكريم. كان كما هو الان في مساء يوم خريف تشريني توجهت مع عائلتي وبعض من الاقارب والاصدقاء المقربين من الكرادة الشرقية في الرصافة إلى المحطة العالمية في الكرخ للسفر بقطار الشرق السريع المتجه صوب تركيا لاكمال دراستي الجامعية.

البحث عن عشب الخلود يتطلب الكثير واحيانا نصارع حنفيش الذي ينتصر في نهاية الامر ويسرق العشب منا. انها سفر يطول بين باكورة حلمنا ألذي لا يعرف اين تكون المحطة الاخيرة.

 تلك السفرة استمرت لثلاث ايام قبل أن اصل إلى أنقرة عاصمة تركيا عام ١٩٧٢ (عام تاميم النفط في العراق).

 كان معي في مقصورتي طلاب من البان كوسوفو من جمهوريات يوغسلافيا السابقة وممن كانوا يدرسون العلوم الدينية في النجف الاشرف. هؤلاء الطلبة كانوا فرحين ويغنون اتذكر احدهم واسمة (جمال بيرام) كان يدق على البزق يشاركه الآخرون بالغناء.

كان رجال الجمارك والشرطة في الحدود العراقية التركية يفتشون كل شي وأحيانا يصادرون ما يشتهون هذا ممنوع وذاك كذلك وتكرر هذا حين وصلنا بالقطار إلى سوريا ثم عدنا مرة أخرى إلى تركيا. اخيرا بعد عناء ثلاث ايام سفر وصلت محطة قطار أنقرة. وقفت على الرصيف وحيدا بعد ان غادر معظم المسافرين ابحث عن وجه صديق فلم أجد أحدا حيث كان من المفروض ان ينتظرني اخي الكبير رحمه الله (علي) في المحطة و الذي كان قد سبقني للدراسة في تركيا بعام.طبعا على نفقة الخاصة اي من جيب الوالد الف تحية لروحه الطيبة انار الرحمن قبرة بقبس من عنده الى يوم الدين. اقول وانا في حيرتي تلك وإذا بشابين يقتربان مني وفي يدهم صورة فوتوغرافية لي فقلت لهم هذه صورتي. كانا رفيقان لاخي الذي لم يتمكن هو بنفسه ترك الجامعة واستقبالي. كان أحدهم واسمه (عثمان اوجمان) كردي من مدينة اورفا (الرها) يدرس في جامعة أنقرة فرع الآثار الذي اصبح لاحقا اي ابو عمر مدير لمتحف مدينة مانيسا في تركيا والاخر كان المرحوم المهندس نامق قوجه قصاب رحمة الله عليه و رضوانه صديقنا من اربيل. المهم قارئي الكريم استقلنا سيارة اجرة (تكسي) واتجهنا إلى مركز المدينة خسث بناية (قزل ئاي، الصليب الأحمر) من المؤسف ان تلك البناية قد غيبت تخت زحف العمارات الشاهقة التي غزت مركز المدينة اليوم. هناك حيث شقتنا في الطابق العاشر من عمارة وسط العاصمة (زرت أنقرة قبل عشر سنوات مع زوجتي لاسترجاع بعض الذكريات فوجدتها قد تغيرت جذريا) العمارة التي سكناها قبل خمسون عاما لا تزال قائمة ولله الحمد في حين بناية الجامعة هدم .

ذلك اليوم الخريفي بدأت رحلتي مع الحياة في المهجر ولم تنتهي ما عدا سنوات الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياط، فها انا اسافر من بلد لآخر وأقيم فيها سنوات واتعلم لغاتها التي وصلت العشرة وثقافاتها الواحدة بعد الاخرى ومنذ ذلك اليوم.

كنت قد حصلت على قبول من كلية الطب في أنقرة لكن المرحوم اخي علي نصحني أن ادرس اللغة التركية أولا ثم الاستمرار في الدراسة الجامعية وذلك لوجود فارق كبير بين اللغة التركمانية اللهجة الكركوكية التي اجيدها وبين اللغة التركية الاستانبولية المستخدمة في الدراسة الجامعية. ومن لا ينصاع لمشورة أخيه الكبير . وبذلك سجلت نفسي في جامعة أنقرة كلية الآداب لدراسة اللغة التركية التي استمرت عاما دراسيا كاملا. تعرفت على بعض الأصدقاء وتاقلمت مع الحياة في العاصمة التركية. وكنت احضر دروسي يوميا وقد أضافت مدرسة اللغة التركية نكهة خاصة للدروس حيث لم نكن قد تعودنا أن تدرسنا سيدة في العراق.

قدمت الى اكاديمية المعمار سنان في استانبول باني العديد من جوامع تركيا وبعد امتحان اليوم الاول وكان على شكل رسم من الخيال لفنجان قهوة مقلوب على طرف صحن صغير. والسؤال الثاني كان كتابة انشاء لقول احد الفلاسفة وفي اليوم التالي كانت المقابلة. رجعت بعد الامتحان الى الفندق في في منطقة بي اوغلو العريقة. رن التلفون في منتصف الليل واذا بصوت اخي يطلب مني التوجه فورا الى انقرة لاني قبلت في كلية الصيدلة كنت قد اجريت العديد من الامتحانات القبول في العديد من الجامعات. حصلت القبول في جامعة انقرة فرع السومريات. هكذا منتصف الليل كان علي اترك استانبول واتوجه الى العاصمة انقرة بالباص الذي يقلع حاملا المسافرين وباستمرار من محطة الباصات الى معظم المدن التركية. وصلت صباحا الى انقرة وتوجهت الى الجامعة فرحا كي اسجل في الجامعة. المفاجأة كانت تنتظرني حيث ان اسمي حذف من القائمة المقبولين وحل محلها اسم اخر (سعيد قلنجي) واسمي بقى في قائمة الاحتياط. ولاسباب سياسية كما قيل لي لاحقا. بهذا فقدت كذلك مقعدي في كلية المعمار سنان في استانبول.

اصبت بكابة وقنوط وقررت العودة الى الوطن. وانا على حالي تلك وانا اتمشى في احد شوارع العاصمة واذا بي التقي بصديق وقريب لي وهو المرحوم الدكتور اكرم بامبوخچي فاستفسر عن حالي واحوالي. شرحت له بالتفصيل الممل ما حل بي. قال ممازحا بسيطة. الان نذهب الى الجامعة واسجلك في احد الدراسات العليا واذا رغبت تتمكن العام القادم من تبديل فرعك. شكرته على الممازحة. فرد علي بانه جدي في حديثه. وفعلا ذهبنا وقابل عميد الكلية المرحوم البروفيسور حيدر قرال الذي قابلني برحابة بهيئته الوقورة الابوية. وطلب مني المجيئ لاداء امتحان القبول في بداية الاسبوع. المهم بدات بالدراسة واستمريت الى لن انهيت دراستي الجامعية دون ان اغير الكلية والجامعة.

خلال الخمسين عاما خلت سكنت عدد من الدول من جمهوريات وملكيات ومن اشتراكية الى راسمالية وتعلمت لغاتها وجمعت من علومها وثقافتها.لي صديق ورفيق هنا وهناك. لكني بقيت صادقا لسنوات شبابي وملاعب طفولتي وصباي بين كركوك و بغداد واصدقاء طفولتي لا ازال اراسلهم بين الحين والاخر. اسال عن كل وجه قابلته يوما ساعدني في سفرتي الطويلة وادعوا للجميع الصحة وراحة البال.

تحية إجلال واحترام إلى كل فرد ممن قابلته والى اساتذتي في سفري الخمسيني هذه. والى أرواح من رحلوا عنا جميعا السكينة والطمأنينة والف سلام. الشكر والف شكر لجميع المدرسين والمدرسات والاداريين اللذين علموني كيف يغدو المرء انسانا في سفري الطويل هذه.

 تلك كانت احدى المحطات وتليها محطات اخرى في المستقبل انشاء الرحمن ولقاء يجمعنا معكم بعد حين.

***

د. توفيق آلتونچى

في المثقف اليوم