شهادات ومذكرات

ما قبل النشر (1)

قضيتُ وقتاً طويلاً وأنا أعدّ أفكاري للكتابة عن التجربة السياسية للشيعة في العراق بعد عام ٢٠٠٣، وقد نصحني بعض الأصدقاء بأن أقوم بالنشر على سلسلة حلقات قبل طباعة الكتاب أو على الأقل نشر أقسام منه، وهذا ما استحسنته.

سأكون في غاية الشكر والامتنان لكل من يصحح لي الخطأ بالوثيقة والدليل، وسيجدني ان شاء الله، اعتمد الصحيح بعد أن أراه صحيحاً. وأتراجع معتذراً عن الخطأ عندما يظهر لي ذلك.

ما أنشره تمتزج فيه مذكراتي ومشاهداتي ومعلوماتي التي حصلت عليها من مصادر اقتنعتُ بأنها موثوقة. وهي مصادر متعددة بعضها من مشاركين في الوقائع وبعضها من اشخاص مطلعين على الوثائق والتفاصيل وبعضها لشهود على الحدث مباشرة.

سأعتمد نفس المنهج الذي سرتُ عليه في مقالاتي خلال السنوات الماضية، لا تحاصرني القيود، ولا تحيطني الحدود، فالكتابة عندما تكون متجهة نحو التاريخ فانها تُركّز على المواقف والأشخاص، وتمر على تفاصيل دقيقة بين مفردات الوقائع. وحسب قناعتي في هذا النمط من المشاريع التدوينية، فإن الكاتب إما أن يكون صريحاً مباشراً فيكتب، أو يترك الكتابة في هذا المجال ويتجه لتناول قضايا أخرى.

عامل آخر يدفعني للصراحة أكثر وللمباشرة أكثر، ففي وقت متأخر من العمر، يسمع الكاتب نداءً خفياً يلاحقه بإلحاح.. نداء يشبه الصفير، يحذّره من الكتمان، فيدفعه الى قول الحقيقة التي يعرفها ويراها بلا تردد ولا خوف. فالعمر حين يصبح رخواً يزول التردد وتتلاشى المحاذير.

لقد عُرفتُ بين المتابعين والقرّاء الكرام بكتاباتي النقدية للمسؤولين والقادة السياسيين والحكومات المتعاقبة. وقد بدأت ذلك من خلال تأسيس موقع (الملف)، ومن بعده موقع (الوسط) الذي كان وقتها الموقع الأول في نقد الطبقة السياسية حتى توقف عام ٢٠١٤ حين أعاقني الظرف الصحي عن الاستمرار.

كانت معظم كتاباتي نقدية ضد حكومات المالكي والعبادي وعادل عبد المهدي. وتناولتُ بالنقد الأشهر الأولى من حكومة الكاظمي وأشهرها الأخيرة، أما وسطها فقد توقفت عن الكتابة نتيجة وضع صحي حرج تعرضتُ له ودام شهوراً عديدة، قضيتها على أسرة المستشفيات وسرير المرض في البيت.

لم أعتمد المنهج النقدي في كتاباتي لحبي فيه، إنما لأن الوضع العراقي قد بدأ حياته الجديدة في العملية السياسية على مجموعة من الأخطاء، راحت تتعاظم مع الوقت، وكان أخطرها الفساد المالي الذي عصف بالدولة فحولها الى كنزٍ منهوب من قبل المسؤولين في كل الدوائر والمؤسسات والوزارات والمواقع.

كانت تجربة ما قبل السلطة، صعبة مريرة بحكم السجون والاعدامات والخوف والهجرة والغربة وغيرها، لكنها كانت تقف على ساقين ثابتتين وقامة منتصبة وهامة عالية. كانت التجربة مفخرة على النضال الوطني والإسلامي من أجل الشعب والمبادئ والقيم. وكان المؤمل أن تستمر كذلك وتشتد سمواً عندما وصلت الى السلطة، لكن الحال كان صادماً، فسرعان ما بدأ الانهيار وتعمّق، فتشوهت الصورة واحترق التاريخ وتناثرت المبادئ بين الأقدام.

دراسة التجربة وتسجيل الوقائع وتفريغ أجزاء من الذاكرة على الورق، مسألة مهمة يعيشها الكاتب، وهي ضاغطة عليه بشكل ثقيل، وتبقى كذلك حتى يكتبها ليستريح.

***

سليم الحسني

في المثقف اليوم