شهادات ومذكرات

بداياتهم: الشاعر عبد الستار نور علي

رغم مرور اكثر من ستين حولا على بدايته إلا أن هذا الهرم الشعري المتسامي في فضاء الشعر لازال ينظر إلى تلك البداية العفوية البسيطة بفرح طفولي وإعجاب شيخ عجنته السنين وخبرها وجاب بوادي الشعر وهضابه واعتلى قممه وزرع حقولا شعرية خضراء يانعة السنابل والقوافي .. انه الشاعر الكبير عبد الستار نور علي، الذي يحدثنا عن بدايته قائلا :

بدأت بواكير شغفي بالأدب والشعر منذ زمن الدراسة الابتدائية، وخاصة في مادة اللغة العربية والمحفوظات، فقد كانت نصوص كتاب (المطالعة) والمحفوظات تتضمن آيات من القرإن الكريم والحديث النبوي الشريف والنصوص الأدبية من قصص (كليلة ودمنة) وغيرها، ومن قصائد قديمة وحديثة لكبار الشعراء، أذكر أنني حفظت أبياتاً من قصيدة المتنبي فضلّتْ عالقةً في ذاكرتي:

وزائرتي كأنَ بها حياءً

فليسَ تزورُ إلا في الظلامِ

فلْنتصوّرْ! المتنبي في الإبتدائية إلى جانب كبار الشعراء المعاصرين حينها: ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، وإيليا أبي ماضي.. وغيرهم. كانت أسعد وأبهى لحظة لي حين كان معلم اللغة العربية المرحوم (محمد علي البنا) يختارني لإلقاء قصيدة في رفعة العلم صباح كل خميس، وأنا ألقيها بصوتٍ عالٍ جهوري ليسمع الطلاب والمعلمون المصطفون حول العلم في الطابق الأسفل، وأنا في الأعلى. ما زالت ذكرى أحدى تلك المناسبات الخميسية تنبض في ذاكرتي، إذ ألقيتُ قصيدة الشاعر (ميخائيل نعيمة) وبحماس زائد:

أخي ! إنْ عادَ بعدَ الحـربِ جُنديٌّ لأوطانِـهْ

وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ

فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطـانِ خلاّنَا

لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهمْ

سوى أشْبَاح مَوْتَانا

كنتُ أستعير من مكتبة المدرسة الصغيرة مجلات الأطفال وبعض القصص للمنفلوطي وجرجي زيدان، وكتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. كنتُ أيامها وبعدها من مراحلي الدراسية مغرماً أيضاً بقصص (أرسين لوبين) و (روكامبول) وروايات (أجاثا كريستي) البوليسية، وما يترجم من قصص عالمية في مطبوعات (كتابي)، إلى جانب روايات مشاهير الروائيين العرب والأجانب، خاصة الرواية الروسية والأوروبية الأخرى، مع نتاج الشعراء العراقيين والعرب، ثم المُترْجَم من الشعر العالمي لكبار شعراء العالم قديماً وحديثاً. واستمر هذا الشغف معي في مراحل الدراسة المتوسطة والإعدادية. فاستمريتُ في تزويد ذائقتي ومحفوظاتي بكل مجالات فنّ الأدب شعراً ونثراً، حتى تخصصي الجامعي باللغة العربية بكلية الآداب/ جامعة بغداد.

دراستي المتوسطة كانت في (مدارس كلية بغداد) وهو الاسم الرسمي للمدارس التابعة للكنيسة اليسوعية الأمريكية في بغداد في العام الدراسي 55/1956 . كانت الدراسة فيها باللغة الإنجليزية للمواد الدراسية اضافة الى العربية. أما الإعدادية فكانت في (الثانوية الجعفرية/الفرع الأدبي) إذ لم يكن هناك فرع أدبي في (مدارس كلية بغداد) وقد اخترتُ هذا الفرع بسبب شَغفي بفنِّ الأدب.

ومِنْ نِعَم دراستي في تلك المدارس أنّني تزوّدتُ بالأدب الغربي وبلغته الإنجليزية، إذ كانت حصة المطالعة في مادة الإنجليزية تتألف من قراءتنا لكتاب المطالعة في المدارس الأمريكية ( Prose and poetry) ويحتوي على نصوص شعرية ونثرية – قصص ومقالات وسير ذاتية -لكبار الكتاب الناطقين بالإنجليزية، وهو ما زوّدني بثقافة أدبية إضافية الى جانب العربية، مما شحذ لغتي ومنحها غنىً وسعة في بواكير حياتي الدراسية والإنشائية (التعبير)، وأنا على عتبة دخول عالم الكلمة.

ومما زادَ منْ شغفي بالأدب، والثقافة عموماً، هو التشجيع الذي كنْتُ ألقاه منْ ابن عمي الشيوعي جعفر صادق ملا نزار (أبو دلير)، الذي كان يشجعني على القراءة والتثقيف الذاتي ومتابعة الأنشطة الثقافية. وكانت مكتبته مصدراً لي في قراءاتي. إضافةً الى متابعتي الليلية للبرنامج الثاني الثقافي في إذاعة القاهرة منذ انطلاقه عام 1957، لما كان يقدمه منْ روائع الأدب العالمي مُترجَماً الى العربية، مع تقديم المسرحيات العالمية مُمثلةً منْ أكابر الفنانين المصريين. فكان كل ذلك زاداً دسماً وتغذيةً روحيةً وعقليةً، ومصدراً ثقافياً مهماً، وتمتيناً لأسلوبي في الكتابة، ورسماً لطريق المطالعة واختيار اٍسماء الكُتّاب والكتب الجيدة النافعة. ومِنْ أمثلة تشجيع ابى عمي لي في التزوّد منْ الفنون أيضاً - الراقية منها طبعاً - أنّه أعطاني بطاقة شرف حصل عليها لحضور العرض الأول للفيلم العالمي المهم، الذي نال عدداً من جوائز الأوسكار (عربة اسمها الرغبة A Streetcar Named Desire) المأخوذ عن مسرحية الكاتب المسرحي الأمريكي العظيم (تينيسي ويليمز 1911-1983) وإخراج المخرج الكبير (إيليا كازان 1909 - 2003) اليوناني الأصل. وكان الفيلم من بطولة مارلون براندو وفيفيان لي وكارل مالدن، ومنْ انتاج عام 1951 . عرض في بغداد، وكنتُ حينها في الصف السادس الابتدائي. كانت فرحتي بالبطاقة وحضور العرض كبيراً ذا أثرٍ بالغ في نفسي. أذكر أنه عُرض في سينما ميامي في الباب الشرقي، وكانت القاعة غاصةَ بالرواد، فاتخدْتُ مكاناً شاغراً في الطابق العلوي وفي الصفوف الأخيرة.

أمّا فيما يخصّ أوائل ابتدائي في قول الشعر هما بيتيان يت، يمان قلْتُهما مع نفسي، وأنا صغيرٌ عائدٌ منْ سينما الفردوس في ساحة النهضة بشارع الملك غازي والقريبة من دارنا في باب الشيخ:

قلبٌ تعلَّقَ بالهوى

ويهيمُ ليسَ لهُ دَوا

ما لي أراه يُفتِّشُ

عنْ قلبِهِ بينَ النَوى؟

طبعاً نصٌّ مُضحِكً وساذج، أليسَ كذلك؟

لكنَّ أولَ قصيدةٍ منْ بواكير الإعدادية كانت التالية، مع أنّني لم أنشرْها في حينها، احتفظتُ بها لنفسي، وبعد سنوات أُذِيعَتْ من إذاعة بغداد عبر برنامج (براعم على الطريق) التي كانت تقدّمُها الشاعرة الفلسطينية سائدة الأسمر كلَّ مساء أربعاء في تمام الساعة السابعة، وفي بداية ستينيات القرن المنصرم، وكانت بعنوان (الدرب القديم):

ماتَتْ شموعُ الحبِّ، وانطفأ النهارْ،

وتردّدَتْ اصداءُ أغنيةِ السِفارْ

كلماتُها دمعٌ ونارْ،

يا حلوتي،

لمَ قد نسيتِ اليومَ حُلْمَ الأمسِ

في الدربِ الطويلْ؟

وقتلْتِ قلباً قد تعشّقَ في العيونْ

وَهَنَ الليالي والسنينْ،

وكآبةً سحريةً خلفَ السوادْ

وضبابَ أحلامٍ يمزّقُها السهادْ،

يا حلوتي،

هل تذكرينَ لقاءَنا وسطَ الزحامْ

فتلاقتِ النظراتُ، فارتعشَتْ رموشْ؟

وهربتِ منْ دربي وأرجعَكِ الزحامْ،

خَدَرٌ لذيذٌ قد سرى في جانحي

وتعلّقَ الوجهُ الكئيبْ

في القلبِ في أعماقِ أغواري،

يا حلوتي،

كم قد بنينا في الأعالي فوق أعمدةِ السماءْ

أملاً يعيشُ مدى الليالي والدهورْ،

ولقيتُ في عينيكِ أحلامَ المساءْ

ورديةً ترنو إلى الأملِ البعيدْ،

حُلُمي السعيدْ،

**

وصرخْتِ:"لا ،

لنْ أقبلَ الوعدَ الثمينْ!"

وظننْتُ أنّكِ تمزحينْ،

أوّاهِ! يا حلمَ السنينْ،

لا... حرّقتْ قلبي وأعصابي

ودنيايَ القديمْ،

لا... أوصدتْ في الوجهِ أبوابي

وأطلقتِ الشجونْ،

ورجعْتِ عن حلمِ قتيلٍ تسألينْ!

أوَ تجرؤينْ؟!

يا حلوتي،

ماتتْ شموعُ الحبِّ وانطفأ النهارْ،

فأنا نسِيتُ القلبَ في الدربِ القديمْ....

فهل هي قد المقام، كما يقول أخوتنا المصريون؟

هذه هي المرة الثانية تُنشَر فيها بعد قراءتها في البرنامج المذكور، أعلنها للعامة.

ثمّ توالى بعدها النشر وبغزارة في الصحف والمجلات العراقية والعربية، ولحدّ اللحظة. وللعلم تخرّجتُ منَ الإعدادية عام 1960، ومنَ الجامعة 1964 .

***

راضي المترفي

في المثقف اليوم