شهادات ومذكرات

ما قبل النشر (4): النصرة والخذلان في تجربة المرجع الحكيم

بعد اتهام السيد مهدي الحكيم رحمه الله بالاشتراك في مؤامرة لقلب نظام الحكم في العراق عام ١٩٦٩، ذهب وفد من قيادة حزب الدعوة الإسلامية الى مقر إقامة المرجع الكبير السيد محسن الحكيم. ضم في عضويته عبد الصاحب دخيل والسيد حسن شبر والسيد فخر الدين الشوشتري وآخرين رحمهم الله.

عرض الوفد القيادي على المرجع الحكيم، وقوف حزب الدعوة الى جانبه، وأنه يطلب منه الإذن بتحشيد أعضائه للقيام بتظاهرات احتجاجية ضد السلطة البعثية.

شكر السيد الحكيم موقف القيادة لكنه رفض قيامهم بهذه الخطوة، موضحاً أن هذا النظام قمعي وأن الاحتجاجات ستكشف حزب الدعوة أمام أجهزته الأمنية وتعرضه لضربة قاضية.

كان موقفاً مبدئياً رائعاً من قيادة الدعوة في الوقوف الى جانب المرجع الأعلى وعدم تركه وحيداً بعد أن انفضت الجماهير المؤيدة من حوله وبقي وحيداً في محل إقامته مع عدد قليل من المقربين. وقد أخبرني الدكتور صاحب الحكيم بأن المرجع الحكيم عاد الى النجف الأشرف ومعه سيارتين من مقربيه، كان الدكتور صاحب الحكيم يقود إحداها، وهو من آخر الأشخاص الذين بقوا على قيد الحياة ـ أطال الله عمره ـ من الذين كانوا مع المرجع الحكيم.

احتجب السيد محسن الحكيم في بيته في الكوفة ولم يخرج الى صلاة الجماعة في صحن الإمام علي عليه السلام. وخلال فترة الاحتجاب بدأت العشائر تتوافد على منزله وهي تهتف غاضبة ضد السلطة البعثية.

أخبرني القيادي الكبير المفكر السيد هاشم الموسوي رحمه الله، بأن لجنة تنظيم البصرة أرسلت الشيخ مجيد الصيمري رحمه الله الى الكوفة لاستجلاء الموقف ونقل صورة الغضب الجماهيري في البصرة، لكنه لم يحصل على موقف من بيت المرجع الحكيم إلا ورقة صغيرة كتب عليها قوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا).

لم يقتنع المرجع السيد الحكيم بالثورة الجماهيرية ضد نظام البعث، وقد كانت الفكرة التي يحملها، أن طبيعة الناس تنسحب من المواجهة في الظروف الحرجة عندما تشتد المواجهة.

ومن ناحيتهم، فأن الشيعة بعشائرهم وجماهيرهم، لم يتدربوا على قيادة عليا تخاطبهم مباشرة وتتصرف بعنوان سياسي ظاهر لكي يلتفوا حولها وينسجموا مع توجهاتها. لقد اعتادوا من المرجعية على أخذ الإذن منها في كل موقف، وعلى التحرك وفق فتوى شرعية يصدرها المرجع. وبغير ذلك فانهم لا يتحركون.

وبين قراءة المرجع الحكيم للحالة الاجتماعية وبين طريقة الجمهور الشيعي في انتظار التوجيه، تراجعت القوة الشيعية أمام النظام البعثي، وتمكّنت السلطة من تصعيد قمعها بعد ذلك وخصوصاً بعد وفاة السيد الحكيم عام ١٩٧٠.

إن التحرك الجماهيري مسألة معقدة، وصناعة الثورات مهمة صعبة، حيث تدخل فيها عوامل كثيرة هي خليط من الطبيعة الاجتماعية والمزاج العام والعاطفة والظرف المعاش. فالجمهور الذي يقف خاملاً في فترة ما، تراه نفسه يتحرك بقوة في فترة أخرى، وتجارب العراق تشهد على ذلك.

***

سليم الحسني

٢٨ تشرين الثاني ٢٠٢٢

 

 

في المثقف اليوم