شهادات ومذكرات

منظرو الاقتصاد (32): لورنس كلاين

(1920 – 2013) Lawrence Klein

هو الاقتصادي الامريكي الاستاذ في جامعة بنسلفانيا لأكثر من ثلاثة عقود، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1980  لريادته في تصميم وبناء النماذج الرياضية-الاحصائية الأولى التي شكلت بواكير نظرية الاقتصاد القياسي من ناحية، والتي عالجت قضية التنبؤ بتغييرات الاقتصاد الكلي من ناحية اخرى. ولذلك فقد وصفه البروفسور مارتن فلدستين الاستاذ في جامعة هارفرد بأنه الاقتصادي الأول الذي غامر في بناء الموديلات القياسية لتجسيد النظرية الكينزية. والاجمل من ذلك فإن تلك الموديلات ما زالت تستخدم الى اليوم ويعوّل على دقتها البنك الاحتياطي الفدرالي في تحليلاته الاقتصادية الهامة. لكن أبلغ وأجمل ماعُرف به الاستاذ لورنس كلاين هو تنبؤه الجرئ ابان الحرب العالمية الثانية الذي كان مخالفا تماما لكل التنبؤات الاقتصادية في حينه حول حالة الكساد الاقتصادي الذي سيعقب الحرب. فقد تنبأ الاقتصادي الشاب بأن القوة الشرائية الاضافية التي سيجلبها الجنود العائدون من الحرب ستوسع السوق الاقتصادية وستؤدي الى اقتصاد مزدهر. وفعلاً،  كانت نبوءته صحيحة كما اثبت واقع حال اقتصاد مابعد الحرب.

ولد لورنس كلاين عام 1920 في أوماها-نبراسكا لعائلة متوسطة الحال، وهو الابن الأوسط لثلاثة اطفال. دخل المدارس المحلية العامة، وكان لزمن الكساد الاقتصادي العظيم أثر كبير على نشأته، كما قال في ملاحظاته عن سيرته الذاتية التي قدمها الى لجنة جائزة نوبل. حيث اعتبر الاوضاع الاقتصادية القاسية خلال سنوات الكساد هي التي اشعلت فيه جذوة الرغبة لدراسة الاقتصاد وفهم تغيراته الكمية.  وهذا ما قاده الى الاهتمام بأدوات الاقتصاد التحليلية التي وفرها تعليمه الجامعي في ظروف الحرب العالمية الثانية، خاصة ذلك الذي تلقاه في كلية لوس أنجلس ثم جامعة كاليفورنيا في بركلي التي تخرج فيها حاصلا على بكالوريوس في الاقتصاد والرياضيات عام 1942. انتقل بعد ذلك مباشرة الى معهد ماسچيوستس MIT لدراسته العليا حيث اصبح الطالب الأول لپول سامولسن وتخرج على يده حاصلا على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1944.

بعد حصوله على الدكتوراه، التحق  مباشرة بمركز كاولز Cowles للبحوث الاقتصادية الذي كان تابعا آنذاك الى جامعة شيكاغو. هناك انضم الى فريق العمل في الاقتصاد القياسي تحت اشراف الاقتصادي الهولندي جان تنبرگن، الحائز على أول جائزة نوبل في الاقتصاد،  فکانت فرصته الاولى لصياغة النماذج الرياضية - الاحصائية مستخدما بيانات الاقتصاد الكلي وساعيا للوقوف على امكانية التنبؤ بالتغييرات المستقبلية في أرقام ومديات النمو الاقتصادي ونشاط الشركات الانتاجي والمالي وتأثير السياسات الحكومية على تلك التغييرات.  وهناك ايضا كان نموذجه الاول الذي طوره بموجب عمل تنبرگن الرائد حيث جاءت صياغته له كاملة استطاع من خلالها التنبؤ بالتغييرات التي ستطرأ على مديات الانفاق الحكومي والضرائب والمشروعات العامة. 

یصف کلاین مشاعره الطيبة عن البيئة الاكاديمية التي عاش في كنفها خلال عمله فی جامعة شیکاغو، فيقول في سيرته الذاتية لدى لجنة جائزة نوبل:

" في شيكاغو وجدت جواً اكاديميا رائعا وسعدت وسط مجموعة من النجوم الساطعة في سماء الاقتصاد آنذاك وكذلك اولئك الذين أثبتوا نجوميتهم فيما بعد مثل جالي كوبمنز وكينث أررو وليونيد هورووتز وهربرت سايمنز وآخرون الذين كانوا ينغمسون في نقاشات علمية رصينة تعلمت منها الكثير، خصوصا في حقل الاقتصاد الكلي والمعالجات الرياضية والقياسية لمشكلاته".  ويواصل:

" في مؤسسة كاولز اتسعت معرفتي الاكاديمية باتساع دائرة علاقاتي مع زملائي واصدقائي الاقتصاديين، ولعل أهم حدث كان لقائي بسونيا أدلسن وارتباطي بها بعلاقة حب تطورت الى زواج. وقد سافرنا معا الى أوربا للقاء الكثير من اصدقاء المهنة والعمل معهم. ففي طريقنا الى أورپا توقفنا في أوتاوا- كندا للعمل في أول سلسلة من النماذج القياسية التي كلفتنا بها الحكومة الكندية .  في أورپا التقينا باصدقاء كثيرين اذكر منهم راگنر فرش وتَري هافلمو في النرويج، وأرك لندبرگ وأرك لندال وهرمن وولد في السويد، اضافة الى رچرد ستون في انگلترا".

بعد عودة كلاين من الرحلة الأورپية، دعاه زميله آرثر برنز في المركز الوطني للبحوث الاقتصادية NBER لقبول وظيفة بحث لما بعد الدكتوراه Post-Doc للعمل في اولى النماذج القياسية لدالة الانتاج التي فتحت الطريق فيما بعد الى تطوير دوال الانتاج الاخرى، والتي قال عنها كلاين في أواخر سنوات حياته بانها موضع فخره واعتزازه لانها ما تزال تستخدم الى اليوم.

في عام 1947 وخلال عمله في شيكاغو، انتدب للعمل على تقدير آثار الوفرة في السيولة النقدية على الادخار وسلوك المدخرين والمستهلكين. کان ذلك في مشروع مشترك مع مركز البحوث الاقتصادية في جامعة ميشگن، حيث استخدم البيانات التي انتجها جورج كاتونا والتي عرفت باستبيانات المستهلك المالية.  وقد اطرى خلال العمل في ذلك المشروع على الفائدة التي استخلصها من عمل زميل آخر كان مهتما بنفس الاهتمام هو جيمس مورگن. كما عمل ايضا مع تلميذه آرثر گولدبرگر في مشروع هام كانت حصيلته النموذج المعروف باسم نموذج كلاين وگولدبرگر  Klein-Goldberger Model  الذي تطور فيما بعد الى سلسلة  من النماذج التي سميت بنماذج مشيگن.  بعد مضي أربع سنوات في العمل بهذا المشروع المشترك، أي في عام 1954،  استحق كلاين التثبيت الجامعي Tenure في وظيفته الاصلية في جامعة شيكاغو لكنه لم يحصل عليه بسبب انتماءه للحزب الشيوعي الامريكي لفترة قصيرة!  فتحت ضغوط الحملات المكارثية الشرسة التي شنتها التيارات اليمينية والدينية على نطاق واسع، أذعنت ادارة الجامعة لاستبعاد كل من انتمى للحزب الشيوعي او اتهم بالميول اليسارية والتقدمية.  وعلى أثر ذلك لم يكن بداً من كلاين إلا ان يغادر الولايات المتحدة الى بريطانيا حيث استقبلته جامعة أوكسفورد بالاحضان.

وهكذا ذهب الى أوكسفورد بدعوة خاصة من المعهد الاحصائي البريطاني للعمل على بناء نموذج قياسي للاقتصاد البريطاني مستخدما البيانات الكثيرة التي كانت جاهزة حيث عمل المعهد على جمعها وتبويبها من قبل.

أمضى كلاين أربع سنوات في أوكسفورد، وفي عام 1958 عاد الى الولا يات المتحدة ليستلم تعيينه كأستاذ مثبت Tenured في جامعة بنسلفانيا. وبعد ذلك حصل على اللقب التشريفي العالي للاستاذية المعروف بـ Benjamin Franklin Professor من مدرسة وارتن للبزنس الذائعة الصيت Wharton Business School  والتابعة للجامعة. وبذا فقد أصبحت جامعة بنسلفانيا  مستقره الاكاديمي كاستاذ للاقتصاد والمالية الذي بنى النماذج القياسية التي عرفت فيما بعد بنماذج وارتن للتنبؤات الاقتصادية. فبقي هناك لحين تقاعده عام 1991 بعد 33 عاما من خدمته الاكاديمية فيها.

لدى استقراره في جامعة بنسلفانيا تمكن من توسيع دائرة نشاطه الاكاديمي وتعزيزعلاقاته بالمؤسسات الاخرى المحلية والدولية بمشاريع مشتركة وتعاون مهني.  فقد بدأ، على سبيل المثال،  بتصميم نماذج تنبؤ اقتصادية قياسية لشركات القطاع الخاص والعام مستخدما عوائد عمله لدعم الدراسات العليا في قسم الاقتصاد وتطوير نطاق البحوث فيه،  حتى انه تمكن من توسيع هذا الجانب من نشاطات قسم الاقتصاد ليصبح شركة قائمة بذاتها تدعى شركة وارتن للتنبؤات القياسية. 

في عام 1961 ترأس مشروع بروكنگز Brookings Project  لتنبؤ معدلات النمو في الاقتصاد الامريكي في الأمد القصير. تبع ذلك باطلاق مشروع وارتن القياسي الذي استخدم فيه نماذجا متقدمة للتنبؤ بمعدلات الانتاج والاستهلاك والاستثمار والتصدير مع تقدير التغيرات التي ستطرأ عليها تبعا لتغيرات الاسعار والانفاق ومعدلات الضرائب. في عام 1968 قاد المشروع الدولي الأكبر المسمى لنك LINK لتوسيع نماذج الاقتصاد الامريكي وتطبيقها على اقتصادات الدول الاخرى، اضافة الى الاشتراك في تصميم وبناء نماذج التنبؤ القياسية لبلدان التخطيط المركزي، خاصة الاتحاد السوفيتي والصين، وفي هذه المناسبةتجدر الاشارة الى ان الفضل يعود الى لورنس كلاين،حسب بعض المصادر، في ادخال علم الاقتصاد القياسي لجامعات الصين الشعبية. كما انه قاد جهود البحث المشترك مع جامعة أوساكا اليابانية الذي تمخض عن نشر عدد من المقالات الهامة  التي قادت الى تأسيس مجلة (جورنل) اقتصادية جديدة هي International Economic Review على غرار الجورنل الاقتصادية الشهيرة المعروفة بـ AER أو  American Economic Review.

في عام 1976 اختاره جمي كارتر ليكون المستشار الاقتصادي لحملته الانتخابية الرئاسية. وحين تحقق الفوز، كان الرئيس المنتخب كارتر مستعدا ان يوليه منصبا عاليا في حكومته ، لكن كلاين رفض قبول أي وظيفة رسمية في الحكومة وفضل ان يبقى اكاديميا مستقلا عن السياسة، فانتخب في العام اللاحق، عام 1977 رئيسا لجمعية الاقتصاديين الامريكيين.

وفي عام 1980 فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد لدوره الرائد في تصميم وبناء نماذج التنبؤ للاقتصاد الكلي وتفسير وتعزيز دورها في التحليل الاقتصادي، وتطوير وترسيخ حقل الاقتصاد القياسي التطبيقي في علم الاقتصاد.

خلال حياته الاكاديمية، حصل البروفسور لورنس كلاين على عدد كبير من الشهادات والدرجات الفخرية من أكثر من 30 جامعة ومعهد اكاديمي. وأُنتخب عضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم، والاكاديمية الامريكية للفنون والعلوم،  والاكاديمية العلمية البريطانية وجمعية الفلسفة الامريكية، وهو المؤسس لحركة "الاقتصاديون للسلم والأمان"، والمؤسس لمعهد پن Penn للبحوث الاقتصادية Penn Institute for Economic Research

واخيرا فان للبروفسور كلاين ثلاث بنات وولد من زوجته الاقتصادية سونيا التي تزوجها أيام العمل في شيكاغو.  توفي عام 2013 عن عمر 93 عاما.

فيما يلي عدد من اهم مؤلفاته:

- الثورة الكينزية 1947

- تقلبات الاقتصاد الامريكي 1921 – 1941

- نموذج قياسي للاقتصاد الأمريكي 1955

- نموذج وارتن القياسي للتنبؤات الاقتصادية

- الاقتصاد القياسي – تكستبوك 1973

- نموذج بروكنكز 1975

- أداء النموذج القياسي 1976

- مقدمة في التنبؤ القياسي 1980

- النماذج القياسية كدليل لصنع القرارات الاقتصادية 1982

- اقتصاديات العرض والطلب 1983

- الاقتصاد والاقتصاد القياسي 1995

- الصين والهند: العملاقان الآسيويان والفرق بينهما 2004

***

ا. د. مصدق الحبيب

في المثقف اليوم