شهادات ومذكرات

وجوه الطب النفسي (1): تيم كرو ومرض الإنسانية

هذه مقالة حول أهم بحوث الطبيب النفسي (تيم كرو)، وقد قسمنا المقالة لقسمين، الأول للبحوث المذكورة في الكتب المنهجية للطب النفسي، وسنركز في النصف الثاني منها على إحدى أهم مقالاته التي عنوانها (هل الفصام هو الثمن الذي يدفعه الانسان العاقل مقابل تطويره لقدراته اللغوية؟)، فتلك المقالة مذكورة بدون تفصيل في الكتب الأكاديمية، وهو يقدم فيها فهماً للفصام لم يسبقه إليه غيره، علماً أن نفس هذه المقالة سبق وان قدمت كمحاضرة في قناة يوتيوب تخص كاتب المقالة وتجدونها في اليوتيوب بنفس العنوان (تيم كرو ومرض الانسانية).

القسم الأول: بحوث (كرو) المذكورة في الكتب المنهجية

كان (تيم - مختصر تيموثي -  كرو) قد شارك منذ السبعينات مع طبيبة نفسية شهيرة اسمها (إيف جونستون) في عدد من البحوث الأساسية لفهم الفصام، أهمها ثلاث: الأول حين اكتشفوا وجود توسع في تجاويف الدماغ لدى مرضى الفصام1، وفي الثاني تأكدوا من وجود العديد من الاضرار العضوية الجسمانية لدى مرضى الفصام2، والبحث الثالث هو ما يعرف بدراسة (نورثويك) التي وضعت نسباً للتنبؤ بمسار الفصام3 (ثلث يستجيب للعلاج بشكل تام ويرجع للوظيفة، وثلث يتحسن على العلاج بنسبة بسيطة، وثلث لا يستجيب للعلاج).

ولـ(تيم كرو) بحوث حول اضطرابات الذاكرة لدى مرضى الفصام ووجد انها تبلغ أحياناً من الشدة بحيث انها تشبه ما يحصل في الخرف4، وركز في أحد البحوث على عدم قدرة الكثير من مرضى الفصام تحديد اعمارهم، بحيث انهم يرتكبون أخطاءاً ذات فوارق كبيرة، أكثر من خمس سنين5.

وله كذلك دراسات عن اضطراب الارادة والمبادرة والدافعية لدى مرضى الفصام.

وكان (كرو) قد صنف الفصام إلى صنفين6، 7: نوع رقم (١) ونوع رقم (٢). في النوع رقم (١) يبدأ الفصام بشكل سريع حاد، وتكون الأعراض من النوع الموجب، وفي هذا النوع يستجيب المرضى بشكل جيد للدواء ويرجعون لوظيفتهم في العادة. أما في النوع رقم (٢) فيبدأ الفصام بشكل تدريجي، وتسود الاعراض السالبة، ولا يستجيبون بسهولة للعلاج، ولا يرجعون في العادة لوظائفهم بعد ذلك.

رغم اننا اليوم لا نستخدم هذا التقسيم لكننا نستخدم نفس هذه المعلومات حين نتحدث عن العوامل المنبئة لمسار المرض، فنقول مثلا ان من العوامل المنبئة بأن مريض الفصام سوف يستجيب للعلاج وانه سوف يرجع لعمله هو ان الاعراض لديه تكون من النوع الموجب وان يكون المرض قد بدأ لديه بشكل سريع وحاد. وهي نفس المعلومة التي قالها (تيم كرو) لكننا صرنا اليوم نصيغها بطريقة اخرى.

القسم الثاني: (هل الفصام هو الثمن الذي يدفعه الانسان العاقل مقابل تطويره لقدراته اللغوية؟)

لكن ربما أهم ما قدمه (تيم كرو) هي فرضية علاقة الفصام باللغة وبتجانب الدماغ 8Lateralization، ومختصرها أنه يظن أن التغييرات الجينية التي تسبب الفصام، هي نفسها تلك التي تسبب تجانب الدماغ (عدم تناظر فصي الدماغ)، وهي نفسها التي تجعل البشر قادرين على انتاج لغة معقدة.

ويمكن عد مقالته التي نشرها في مجلة (بحوث الفصام) عام ١٩٩٧، وكان عنوانها (هل الفصام هو الثمن الذي يدفعه الانسان العاقل مقابل تطويره لقدراته اللغوية؟)9، المقالة الأكثر توضيحاً لفكرته تلك، وسوف نحاول تلخيصها وشرحها.

نقرأ في بداية تلك المقالة أن الفصام يمتاز بنسبة حدوث ثابتة في مختلف المجتمعات، وعبر مختلف الأزمنة، وذلك لا يشبه حال بقية امراض مثل السكري وامراض القلب وامراض الأورام والعدوى، التي تكثر في بعض المجتمعات وتقل في غيرها، وتزداد نسبة حدوثها في نفس المجتمع في زمن ما، ثم تتراجع، بل أن بعض الأمراض تختفي. فالفصام ظهر منذ زمن بعيد جداً، وبقي يحدث بنسبة ثابتة: لم يزدد ولم يقل، ولم ينقرض. والحقيقة أن للفصام كل الصفات التي تؤهله للإنقراض فهو يبدأ عادة بعمر النضوج الجنسي، ولا يتزوج المصابون به عادة، ولا ينجبون أطفالاً، فكيف يا ترى بقيت تلك الجينات التي تسببه؟ كيف صارت تنتقل من جيل لآخر؟

يكتب (تيم كرو) في بحثه بأنه أينما وجد الانسان وجد الفصام معه وبنسبة ثابتة، بحيث أنه ممكن أن نطلق عليه (مرض الانسانية). كأن تلك الجينات التي تسبب الفصام قد ورثها كل البشر بنفس النسبة، كأنهم توارثوها حين نشأوا أول مرة، حين أتوا من أصل واحد، وحين كانوا في مكان واحد. يبدو أنها جينات قد ورثها البشر حين كان يتشكل نوعهم الذي ميزهم عن بقية الكائنات. ويضيف (كرو) بأنه لا بد من أن تكون لجينات الفصام بعض الفائدة كي نفسر عدم انقراضها، فما هي تلك الفائدة؟

يشير (كرو) إلى تلك النظرية في علم الاناسة (الأنثروبولوجي) التي تقول أن الانسان العاقل قد ظهر في افريقيا وقد أمتاز بأن له قدرات لغوية معقدة تميزه عن بقية أنواع الانسان القديم الاخرى (مثل النياندرتال)، ثم صار هذا الانسان العاقل يتفرق إلى بقية قارات العالم. واحدى أهم صفات دماغ الانسان العاقل التي ميزته كنوع جديد من الكائنات، والتي صاحبت قدراته اللغوية، هي صفة (التجانب Lateralisation) في دماغه، أي تخصص كل من فصي الدماغ بشكل مختلف. علماً أننا لو قارنا أدمغة الحيوانات المعقدة بدماغ الانسان لوجدنا ان ادمغة الحيوانات متناظرة بشكل كبير.

 وهنا يتسائل (تيم كرو): هل من الممكن ان تكون الجينات التي تسبب الفصام هي نفسها جينات (تجانب الدماغ)، وبالتالي جينات اللغة؟ خصوصاً ان احدى تعريفات الفصام، والتي يعتمدها (كرو)، هو أنه اضطراب في اللغة. وفعلاً اننا نرى الكثير من مرضى الفصام يتكلمون بطريقة مضطربة، فيكون كلامهم غير مترابط.

وبعد ذلك يذكر (تيم كرو) عالمة نفس اسمها (ماريان آنيت Marian Annette) 10 كانت قد درست التجانب في دماغ البشر، ووجدت انه يتحدد جينياً، وأن اغلب البشر لديهم خليط من الجينات يورثونها من الأب والأم يساعد بعضها على التجانب، وبعضها الاخر يساعد على عدم التجانب، والنتيجة ان اغلب البشر لديهم تفضيل ليد مثلاً على حساب الاخرى، لكنهم يستطيعون الى حد ما الاعتماد على اليد الاخرى فيما لو اضطروا.

 لكن هناك نسبة قليلة من البشر ممن لديهم جينات متطابقة (من الاب والام homozygote) تساعد كلها على التجانب، فيكون بذلك لديهم تجانباً قوياً، ويفضلون بقوة جهة من جسدهم على الاخرى، لكنهم يحركون الجهة الثانية من جسدهم بشكل أخرق، ولديهم مشاكل في القدرات اللغوية والرياضية.

وهناك نسبة قليلة أخرى من البشر ممن لديهم جينات متطابقة لا تساعد على التجانب، فيكون فصي دماغهم متشابهين، ولا يفضلون أي جهة من جسدهم، ويكونون خرق (جمع أخرق) في حركاتهم عموماً ولديهم مشاكل في القدرات اللغوية والرياضية كذلك.

أي أن أفضل ما يمكن أن يحدث لنا هي أن يكون لدينا خليط من الجينات، بعضها يساعد على التجانب، وبعض الاخر لا يساعد على التجانب، وذلك هو حال أغلب البشر 10.

ثم يقدم (كرو) ذلك الاستنتاج الذي وصل إليه الكثير من العلماء سابقاً حول أن الفصام هو لا يخص فصاً واحداً من فصي الدماغ على حدة، بل هو ما يحصل حين يضطرب التواصل بينهما. وأكثر من وضح تلك الفكرة هو الطبيب النفسي (هنري نصرالله Henry Nasrallah- أصول لبنانية - ) 12 الذي يكتب في بحوثه أننا كي نفهم الفصام علينا ان نتذكر بأن الفص الأيسر قادر على التعبير عن نفسه لغوياً، لكنه كذلك يعبر عن الفص الأيمن بطريقة أوتوماتيكية غير واعية.

فالفص الايمن، الذي لا يملك قدرة اللغة، يرسل الأفكار والنوايا والمشاعر التي تعتمل فيه إلى الفص الأيسر لكي تتم صياغتها بعبارات، وذلك يحدث بلا وعي. ويبدو أن ما يحصل في الفصام ان الفص الأيسر يصير واعياً لما يحصل، فهو ينتبه إلى أن هناك شيء غريب يدخل إليه، يعتبره جهة خارجية، يوحي له بأفكار ومشاعر، قد يفسرها الفص الايسر بانها صوت، أو فكرة مقحمة، او جهة خارجية تريد السيطرة عليه، وتلك هي نفسها (أعراض شنايدر من الدرجة الاولى first rank symptoms) للفصام.

تخليص وخاتمة

وهنا لنرجع ونتأمل عنوان مقالة (كرو): (هل الفصام هو الثمن الذي يدفعه الانسان العاقل مقابل تطويره لقدراته اللغوية؟)، وأعتقد اننا بعد تلك المقدمات والاقتباسات والتوضيحات صرنا جديرين بأن نطلق نفس ذلك التساؤل، فقد فهمناه بشكل أفضل، بعد أن كان يبدو معقداً وغريباً، بل حتى غير مفهوم. علماً ان (كرو) كان قد كتب بحوثاً متعددة عن ذلك الأمر منذ الثمانينيات إلى التسعينات، وهي الفترة التي نشر فيه (كرو) بحثه الذي يتناولناه، عام ١٩٩٧.

من الجدير بالإشارة هنا أنه ما أن صار ممكناً لعلماء الجينات بأن يتعرفوا على الخريطة الجينية لإنسان النياندرتال، حتى سارعوا لعمل مقارنات مع جينات الانسان العاقل، وفي بحث من عام ٢٠١٦ وجد عدد من الباحثين أن الجينات المسببة للفصام، تكثر لدى الانسان العاقل بأكثر من سبعة أضعاف منها لدى النياندرتال. ألا يدعو ذلك للعجب؟

في إحدى فقرات مقالة (كرو) نقرأ: (مثل تعقيد اللغة نفسها، فإن القدرة على ”التمثيل representation“، هي قدرة خاصة للانسان العاقل). أعتقد أنه كان يريد أن يقول، أن الانسان العاقل له أفضل أداة للتمثيل، وهي اللغة. فقد صار باستطاعته ان يخزن ذلك العالم الخارجي في ذاكرته، ثم يرجع لتلك التمثيلات ليستجلبها من الماضي إلى الحاضر، ثم يتخيل حالها في المستقبل، فهو لديه عالم كامل داخل رأسه يقلبه مثلما شاء. وكل ما يستدعي تلك التمثيلات في خياله فإنه يتأمل فيها، يحكم عليها، يتوقع ما سوف يحدث، يتندم على ما فات أو يفتخر به، قد يكتشف شيئاً جديداً، قد يحزن، أو يفرح. كل ذلك وهو جالس وحده، أو لنقل جالس مع نفسه، ويستطيع بعد كل شيء أن يدرك أن ما يجري داخل رأسه هو من انتاجه.

ومن جهة أخرى، لو أصاب تلك القدرة التي تخص الإنسان عطب ما، فالنتيجة كارثية وتتمثل في الفصام: يصير الانسان يتوهم أن ما يحدث في خياله هو ليس من انتاجه. يسمع أصواتاً وينفعل من جراء ما يعتمل في خياله من اضطرابات، يظنها حقائق تحصل في العالم الخارجي.

الشيء الجميل لدى (تيم كرو) أنه أشر لنا على مسار يمكننا لو أننا مشينا فيه وطورناه أن نصير قادرين على أن نقدم توضيحات لمرضى الفصام ولأهاليهم عن سبب المرض وما يحصل فيه، بل أن تلك النظرية التي يقدمها، وما كتبه بين الأسطر، يوحي لك ببعض الاعتزاز بهذا المرض، أو لنقل على الأقل، ببعض التقليل للوصمة التي تصيب المرضى وأهاليهم من جراءه. ففيما يفتخر الكثير من مرضى الأمراض البدنية بمعاناتهم، صار ربما الان - والفضل لـ(تيم كرو) - من الممكن لمرضى الفصام أن يفتخروا هم كذلك بمرضهم، أفلم يسميه (كرو) بـ(مرض الإنسانية)؟

***

سامي عادل البدري

......................

المصادر:

1.     Johnstone, E.C. et al. (1976) Cerebral ventricular size and cognitive impairment in chronic schizophrenia. The Lancet. Oct 30.

2.     Johnstione, E. C., Macmillan, J. F. & Crow, T. J. (1987) The occurence of organic Disease of possible or probable aetiologial significance in a population of 268 cases of first episode schizophrenia. Psychological Medecine, 17, 371-379

3.     Johnstone, E. C. Et al. (1992) The Northwick Park “Functional” Psychosis Study: diagnosis and outcome. Psychological Medecine, 22, 331-346

4.     Liddle, P. F., Crow, T. S. (1984) Age disorientation in schizophrenia is Associated with global intellectual impairment. Br. J. Psychiatry. 144, 193-199.

5.     Crow, T. J., Stevens, M., (1978) Age disorientation in chronic schizophrenia: the nature of the cognitive defecit. Br. J. Psychiatry, 133, 137-142

6.     Crow, T. J., (1980). Molecular pathology of schizophrenia: more than one Disease process? Br. Med. J. 280, 66-68

7.     Crow, T. J. (1985) The two-syndrome concept: Origins and current status. Schizophrenia Bulletin, 11, 471-486

8.     Crow, T. J. (2002) Handedness, Language lateralization and anatomical asymmetry: relevance of protocadherin XY to hominid speciation and the qeitiology of psychosis. Point of view. Br. J. Psychiatry, 181, 295-297

9.     Crow, T.J. (1997) Is schizophrenia the price the Homo sapiens pays for language? Schizophr. Res. 28, 127-141

10.   Annett, M., 1985. Left, Right, Hand and Brain: The Right Shift Theory. Lawrence Erlbaum, London.

11.   Jaynes, J., 1990. The Origins of Consciousness in the Breakdown of the Bicameral Mind. Houghton Mifflin, Boston, MA.

12.   Nasrallah, H.A., 1985. The unintegrated right cerebral hemi- spheric consciousness as alien intruder: a possible mechanism for Schneiderian delusions in schizophrenia. Compr. Psychiatry 26, 273-282.

13.   Srinivasan, S. Et al (2016) Genetic markers of Human evolution are enriched in shcizophrenia. Biol. Psychiatry 80 (4): 284-292

في المثقف اليوم