شهادات ومذكرات

منظرو الاقتصاد (33): جِرارد دَبروو

(1921 – 2004) Gerard Debreu

عرفناه كطلاب في الدراسات العليا في مطلع الثمانينات من خلال كتابه الفريد "الاقتصاد الرياضي" المنشور عام 1983 من قبل جامعة كمبرج. هذا الكتاب احدث ضجة في الوسط الاكاديمي آنذاك، ذلك انه لم يكن كتابا جامعيا تقليديا، انما كان مجموعة مقالات في المعالجة الرياضية المتقدمة لموضوعات مختارة في النظرية الاقتصادية، كانت تصعب على الطلبة وعلى اساتذتهم في بعض الاحيان، ماعدا من درس الرياضيات منهم بشكل منهجي.

هو الاقتصادي الفرنسي -الامريكي الذي شغل منصب استاذ الاقتصاد الرياضي في جامعة كالفورنيا – بركلي لثلاثين عاما، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1983 لريادته في الاقتصاد الرياضي وادخاله طرق تحليلية جديدة في النظرية الاقتصادية، وبالذات مساهماته المتقدمة في نظرية القيمة وصياغته لبراهين نظرية التوازن الاقتصادي العام والمنفعة وظاهرة اللاحتمية الاقتصادية Economic Uncertainty .

لقد وصفته صفحة الانسكلوبيديا بأنه "القوة الضاربة لترسيخ وتقدم نظرية التوازن الاقتصادي العام"، وجعلها متقدمة بخطوات كثيرة وحثيثة على ما سبقها من شروح انشائية افتراضية.4676 ديرو

يقول دبرو ان الاساس في تحليلاته الرياضية لاشكالات النظرية الاقتصادية هو المنهج البديهي Axiomatic الذي يعامل اي قضية، السلعة مثلا، باعتبارها مادة رياضية ذات طبيعة زمكانية Spatiotemporal. ومثل هذا التصور يأتي لكونه الرجل الذي يؤمن بتفوق التحليل الرياضي على غيره ويعتبر التسبيب الرياضي فوق الجدال وفي علياء البراهين العقلية، ليس ترفعا، انما اعتزازا بحصافته ودقته، أولا، ولأنه الرجل الذي تخصص في الرياضيات وتفوق فيها وأحب الاقتصاد حين درسه في مراحل دراسته العليا ومارس العمل في حل مشكلاته، واكتشف المكامن التي يمكن لعلم الاقتصاد ان يستفيد فيها مما تمنحه الرياضيات من أدوات تحقق الدقة والعمق التي يرغبها أي دارس للاقتصاد، وخاصة الاجيال القادمة، حين لن يصبح للانشاء الاقتصادي الادبي مكانا كما كان لانتهاء صلاحيته وانتفاء دوره.

ولد جرارد عام 1921 في مدينة كاليه Calais في الشمال الفرنسي على ساحل القنال الانگليزي. وقد اصبح يتيما في بواكير حياته. فعندما كان طفلا، انتحر والده الذي كان يعمل عند جده في صناعة الدانتيل الفرنسي الذي تشتهر به منطقة كاليه. ثم بعد مدة قصيرة توفت والدته فبقي في رعاية جديه لحين تخرجه من الثانوية عام 1941 وسفره الى باريس للبدء بدراسته الجامعية في جامعة باريس. حينذاك كان الجيش الألماني النازي قد احتل النصف الشمالي من فرنسا وبضمن ذلك العاصمة باريس. لقد كان حادث يتمه و ظروف الاحتلال الاجنبي لوطنه قد زرعا فيه الهدوء والكتمان فكان معروفا عنه انه لا يتكلم عن حياته الشخصية بل فضل ان يكرس وقته للدراسة والاجتهاد.

أنهى تخصصه في الرياضيات وما تزال الحرب مستعرة. وقد كان يوم امتحانه النهائي قبل التخرج هو السادس من حزيران 1944، وهو اليوم الذي عرف بيوم D-Day الذي شنت فيه القوات الامريكية هجوما بحريا - جويا كاسحا على سواحل النورماندي الفرنسية لمجابهة القوات النازية التي تخندقت هناك. فبدلا من وصوله الى قاعة الامتحان قادته قوات الانضباط العسكري التي كانت تروم الشوارع الى دوائرها وسجلته في حملة التجنيد الالزامي وارسلته الى معسكرات التدريب في الجزائر. وهكذا فقد بقي في الخدمة العسكرية لحين انتهاء الحرب وعودته الى الجامعة حيث تمكن من اخذ الامتحان النهائي واجتيازه وتخرجه من جامعة باريس عام 1945.

بعد تخرجه مباشرة بحث عن عمل ملائم فوجد له عملا في مركز للبحوث من 1946 الى 1948. وخلال هذا العمل عرّفه احد الزملاء الباحثين على كتاب موريس ألايس عن المعالجة الرياضية لمسألة التوازن الاقتصادي العام عند ڤالراس. قرأه بشغف فوجده المصدر الذي أدى الى تحول اهتمامه الى الاقتصاد الذي بدأ يدرسه شخصيا. ولقد قال فيما بعد انه تلمس امكانية تزاوج الرياضيات والاقتصاد حالة ممكنة وصحية ومفيدة وقد تصبح مثالية اذا تمكن المرء من الرياضيات أولا بعمره المبكر، ثم يتمكن من الاقتصاد لاحقا بعمر النضوج. وهذا مما دفعه ان يسجل في سمنارات الاقتصاد الامريكية المتوفرة في باريس والتي كان احد محاضريها المنظر الاقتصادي الكبير وسلي ليونتيف الذي هو من أوائل اتباع المنهج الرياضي في الاقتصاد والذي مررنا بدوره سابقا.

في عام 1949 حصل على زمالة روكفلر التي مكنته من زيارة أفخم الجامعات الامريكية والاطلاع على مناهجها التعليمية والتعرف على حالة الاقتصاد في أمريكا. تضمنت تلك الزيارات جامعة هار ڤـرد في بوسطن وجامعة كاليفورنيا – بركلي وجامعة كولومبيا في نيويورك وجامعة شيكاغو. وخلال بقاءه في شيكاغو استلم عرضا للعمل كباحث مشارك في مؤسسة كاولز  Cowles للبحوث الاقتصادية المتقدمة التابعة للجامعة. لقد قال بروفسور دبرو فيما بعد انه وجد هذا العمل ملائما تماما لما يطمح به، مما شجعه ان يكرس نفسه للبحث والدراسة طيلة المدة التي بقي فيها باحثا لدى كاولز والتي تجاوزت 11 عاما. من أهم المواضيع التي بحث فيها كانت أفضلية پاريتو، اثبات وجود حقيقة التوازن العام، المنفعة الكاردينالية، ومسألة اللاحتمية الاقتصادية. وقد تناول كل تلك المواضيع من منهج رياضي تجريدي عالِ.

عندما انتقلت مؤسسة كاولز الى جامعة ييل في ولاية كنتكت، انظم دبرو الى الهيئة التدريسية في ييل اضافة الى استمرار عمله في كاولز كباحث يتنقل حيثما يتطلب البحث الذي بين يديه. ففي عام 1960 ذهب الى مركز الدراسات المتقدمة في علوم السلوك في جامعة ستانفورد -كاليفورنيا، وهناك وجد الشريك العلمي المثالي ، كينث أررو الذي اشترك معه في عدد من البحوث اهمها اكمال براهين نظرية التوازن العام. وقد وُصف تعاونهما بانه كان فتحا لعهد جديد في عالم الاقتصاد تلعب فيه الرياضيات دورا حاسما في صياغة المفاهيم وبرهنة النظريات.

في عام 1962 تلقى دعوة من جامعة كاليفورنيا – بركلي للعمل كعضو في هيئتها التدريسية مع منحه درجة الاستاذية في الاقتصاد، فقبل الدعوة، وفي عام 1975 حصل على درجة الاستاذية في الرياضيات ايضا، فاصبحت الجامعة مستقره الاكاديمي لغاية تقاعده عام 1991.

من بين بحوثه المتقدمة الكثيرة يمكن الاشارة الى بحثين اساسيين يقفان وراء صناعة نجوميته في عالم النظرية الاقتصادية، واللذين يعتبرهما مؤرخو الفكر الاقتصادي Breakthrough.

 أولاً بحثه الشهير المشترك مع كينث أررو المنشور في جورنل "إيكونوميتركا" عام 1954 بعنوان " وجود التوازن الاقتصادي في اقتصاد الاسواق التنافسية" الذي هو عبارة عن مجموعة من البراهين الرياضية التي تثبت حقيقة التوازن، نظريا، في عموم الاقتصاد التنافسي. وهو أمر لم يسبق اثباته من قبل، بل كان فكرة افتراضية عامة. وهو طفرة كبيرة في حقل الاقتصاد الرياضي، علما ان الباحثيَن تمكنا من تحقيق براهينهما الدقيقة باستخدام ادوات تحليلية جديدة تجاوزت المألوف من حسابات التفاضل والتكامل والمعادلات الجبرية الى ادوات جديدة كنظرية الصفوف والتوپولوجيا التي تسمح بدراسة موقعية مقارنة في المفاهيم المنطقية المدركة بديهيا أي تقييم موقع الشئ من الاشياء الاخرى.

وثانيا كتابه الشهير الذي نشرته مؤسسة وايلي للنشر عام 1959 الذي أحدث الطفرة الثانية في فحوى الاقتصاد الرياضي وكان بعنوان " نظرية القيمة: تحليل بديهي للتوازن الاقتصادي". لقد قدم في هذا الكتاب تفصيلا شاملا لاشكالية القيمة وحدوث التوازن الاقتصادي بجميع افتراضاته وشروطه والعوامل المؤثرة فيه وحساب احتمالات حدوثها ومديات تأثيرها. وبذلك فقد قدم لأول مرة دراسة مفصلة دقيقة عالية التجريدية لكنها عميقة في شرح مسألة حدوث التوازن الاقتصادي العام وامكانات تحقق وجود الاسعار الكفيلة باحداث ذلك التوازن.

في بحثه الرياضي عموما وردت العديد من المفاهيم الجديدة على الادب الاقتصادي، منها تلك التي استعارها من علوم الرياضيات والفيزياء ومنها تلك التي ابتكرها بموجب معرفته بتلك العلوم فوجدها قابلة للتكيف الى الادب الاقتصادي. فيما يلي امثلة مختارة مما اقصد وهي كثيرة تعج بها كتب ومقالات دبرو.

- Quasi Equilibrium وهو مصطلح مستعار من فيزياء الثرموداينمكس، ويراد به الحالة التي يكون فيها على الاقل سوق واحد من منظومة التوازن بحالة يفتقر فيها للتوازن الكامل مما يحتم احتوائه قبل ان تتفشى حالة عدم التوازن الى الاسواق الاخرى وتخل بنظام التوازن بأجمعه.

- Agent ويراد به العامل او الفاعل الاقتصادي أي الشخص او الكيان الذي يتخذ القرار الاقتصادي كالمستهلك مثلا الذي يقرر مشترياته أواللجنة الاقتصادية للشركة او الحكومة التي تتخذ قرارا اقتصاديا بشأن قضية من القضايا. وهناك انواع من هذا العامل ، منهم الذي يسميه Representative Agent الذي يكون ممثلا لمنظومته او حالته الاقتصادية متجانسة القرار، وهو عكس الـ Heterogeneous Agent الذي لايمثل منظومته او سوقه الاقتصادي لعدم توفر التجانس الداخلي لتلك المنظومة أو السوق . وهناك الـ Neighboring Agent الذي يتفاعل مع منظومة او سوق معين ضمن شروطها مع عدم انتمائه لها.

- وهناك حالة السلعة المشروط توفرها او بيعها بظروف معينة والتي يسميها بـ

- State-contingent commodity ومثال على ذلك الثلج كسلعة التي يكون توفرها أو بيعها مشروطا بحالة الطقس مثلا، فالثلج الذي يتوفر او يباع في يوم قائض لايمكن لنا ان نعامله في حسابات التوازن بنفس معاملة الثلج الذي يباع في يوم شتوي قارس البرد.

- Debreu-Sonnenschein Theorem وهي النظرية أو جزء النظرية الذي يؤكد انه في مسألة حساب التوازن لايجوز الاكتفاء بالمعلومات العامة التي يوفرها الاقتصاد الكلي وذلك للاختلافات الحاصلة مع حالة المعلومات المأخوذة فرديا عن كل واحدة من المنظومات الاقتصادية التي تؤلف الاقتصاد عموما. فهذه المنظومات تتميز بتفاصيل عن السلع والمستهلكين والاسعار والدخول والموقع وما الى ذلك من ظروف زمكانية. فيما يلي مجموعة مختارة صغيرة من مؤلفات جرارد دبرو الهامة:

***

ا. د. مصدق الحبيب

.................

Debreu, Gérard; Arrow, Kenneth J. (1954). "Existence of an equilibrium for a competitive economy". Econometrica. 22 (3): 265–290.

Debreu, Gérard (1959). The theory of value: an axiomatic analysis of economic equilibrium, NY: Wiley Publications.

Debreu, Gérard (1960), "Topological methods in cardinal utility theory, In Mathematical models in the social sciences, Stanford mathematical studies

Debreu, Gérard; Scarf, Herbert (1972), "A limit theorem on the core of an economy, In McGuire C.B., Amsterdam: North-Holland Publications. pp. 283–297.

Debreu, Gérard (1962). "New concepts and techniques for equilibrium analysis" International Economic Review. 3 (3): 257–273b

Debreu, Gérard (1959). "Cardinal utility for even-chance mixtures of pairs of sure prospects”. The Review of Economic Studies. 26 (3): 174–177

Debreu, Gérard; Scarf, Herbert (1963). "A limit theorem on the core of an economy" International Economic Review. 4 (3): 235–246

Debreu, Gérard (March 1975). "The rate of convergence of the core of an economy. Journal of Mathematical Economics. 2 (1): 1–7

Debreu, Gérard (March 1991). "The mathematization of economic theory". The American Economic Review. 81 (1): 1–7

في المثقف اليوم