شهادات ومذكرات

درويش الأسيوطى.. شاعر التراث الغنائي الحزين

في هذه الورقة أكتب عن صديق مبدع دؤوب، احترف الكتابة منذ نعومة أظافره، وتعددت مواهبه بين الشعر والمسرح والتراث الشعبي، واستطاع أن يصنع اسما كبيرا بين الأدباء داخل مصر والوطن العربي، إنه الشاعر الكبير ” درويش حنفي الأسيوطي”، وهو من مواليد عام 1964 بمحافظة أسيوط والتي لم يبتعد عنها كثيرا، فكانت بلدته الهمامية مكانا يلهمه بالكثير من أفكاره، فكتب الشعر وأنتج أعمالا للمسرح، كما اهتم بتدوين التراث الشعبي، ومن يراجع ابداعات “درويش الأسيوطي” كما ذكر الدكتور أشرف أبو السعود في حوار معه ستُلفته تغريبة فى عناوينها ومسٌّ من الشجن والأسى، “من فصول الزمن الرديء” إلى “الحب فى الغربة” و”من أسفار القلب”، و”بدلا من الصمت” “حكاية عن اليمام”، و”منازل الهيام”، و”دى ريحة الدم ولّا ريحة الجنة”، وغيرها كثير من المطبوع، والمخطوط.

وفى الثقافة الشعبية، مضماره الأثير، طرح ثمارا متنوعة، من “لعب العيال” و”من أهازيج المهد”، و”أشكال العديد”، و”من أغانى الفلاحين”، و”أفراح الصعيد الشعبية»، و”جنايات الرواية السطو والتأويل”، و”أشكال الموال الشعبي”، ولم ينس “طبيخ الصعايدة”، ومن دُرره “معجم الأسيوطى للألفاظ الشعبية”؛ كذلك لا ننسي “الألعاب الشعبية.. ألعاب الكبار”، و”المشايخ والقديسون فى التراث الشعبي”، و”قراءات فى حكايات شعبية”، و”الممارسات الشعبية لضمان البقاء” و”مجمع الأسيوطى للأمثال الشعبية” (3 أجزاء)، و”معجم الأسيوطى الكبير للألفاظ الشعبية”.

ولقد كان درويش الأسيوطي من أوائل أبناء الصعيد المهتمين بتراث منطقة وسط الصعيد، وقد ارتبط ذلك الاهتمام بجهود مضنية في جمع وتدوين وشرح ذلك التراث الشعبي، وهي جهود تستحق الحفاوة الكبيرة، ويكفي أنها تتعلق بقسم من الهوية المصرية في طريقه إلى الموت تحت عجلات العصر الحديث، ويمكننا الوقوف هنا أيضا على رمزية الذئب والحمل كما ذكر الأستاذ فتحي عبد السميع،، سيجد أن التراث الشعبي هو الحمل، والأسيوطي هو الراعي الذي يحاول إنقاذ الحمل من أسنان الحداثة وما بعدها، ولقد أسفرت جهوده البحثية عن عدد كبير من الأبحاث والكتب الشيقة، ومنها: “لعب العيال” سنة 2002، “من أهازيج المهد” سنة 2003، “أشكال العديد في صعيد مصر” سنة 2006، “الحمل والولادة والختان” نشر إليكتروني، “الفرح الشعبي” نشر إليكتروني، “أفراح الصعيد الشعبية” الجزء الأول 2011، والثاني سنة 2012، “طبيخ الصعايدة” سنة 2021، وله أعمال أخرى تحت الطبع، بخلاف كتابته الأخرى المنشورة في عدد من الدوريات المختلفة.

وتتوزع تجربة درويش الأسيوطي على عدة محاور كما يقول الأستاذ فتحي عبد السميع، هي أعماله الشعرية، وأعماله المسرحية، وأعماله في جمع وتدوين ودراسة التراث الشعبي في منطقة وسط الصعيد، وأخيرا أعماله في مجال أدب الطفل، وتتفاوت تلك الأعمال من حيث غزارة الإنتاج، وتأتي تجربته المسرحية في المقدمة، حيث قدم أكثر من خمسين عملا تتوزع علي المسرحية الطويلة والقصيرة، وكل هذه المحاور تكشف عن جهود كبيرة بذلها الرجل، تصل إلى درجة النضال اليومي الشاق، في ظل ظروف غير مواتية على مستويات كثيرة، منها استقراره في صعيد الستينيات والسبعينيات بعوائقه الكثيرة، واضطراره إلى السير وحيدا في طرق غير ممهدة.

وقد وصفه الأستاذ ” أسامة الرحيمي” بأنه :” لم يُضيّع لحظة من عمره، فلو وزعنا عدد إبداعاته وكتبه المتنوعة في الثقافة الشعبية، لأدركنا أنه لم يفارق مكتبه يوما منذ تخرجه في الجامعة.. فقدّم عشرات الدواوين، والمسرح الشعرى والتقليدي، وكتبه للأطفال، وسيناريوهات، ورمح في براح الدراسات الشعبية بلا كلل، فسهّل علينا النهل من فنون الشعب مباشرة !، وعشرات الكتب فى السُنّة والدين والحياة، والذى تفرغ للبحث والكتابة ببلوغه الأربعين وقدّم مؤلفات فى مختلف شئون العلوم والآداب والتاريخ والباه، حتى الحلوى وضع عنها كتاباً أسماه “منهل اللطائف فى الكنافة والقطائف”.

كما وصفه الأستاذ فتحي عبد السميع فقال : تعتمد تجربة الأسيوطي بشكل أساسي على أمرين، الأمر الأول، هو الموروث الشفاهي بشكل عام، و الفني بشكل خاص، حيث أخلص الشاعر لتجربة رواد قصيدة التفعيلة، واعتبرها نموذجا مثاليا، وآثر أن يكون امتدادها الطبيعي، من خلال الحفاظ على الوزن والقوافي الحرة، والاهتمام بالقارئ العادي، أو الجمهور العام، ورفض التجريب الشعري المعتمد على التركيبات اللغوية المعقدة، والصور الشعرية المحتشدة بالعوالم الغرائبية وغيرها من السمات الفنية الأخرى التي انتشرت بين أفراد جيله تحت عناوين مختلفة، مثل شعر الحداثة، وقصيدة النثر والتي اعتبرها غربية في جوهرها وتعمل على تقزيم دور الشاعر في المجتمع، وتفصله عن الجمهور.

والأمر الآخر، هو نظرة الشاعر إلى العالم باعتباره مواجهة دائمة بين الذئب والحمل، الذئب الذي يرمز إلى منطق القوة القاهرة بكل تجلياته، والحمل الذي يرمز إلى الضحايا في كل مكان، وفي مقدمتهم الذات الفردية، والجماعة الشعبية، و شعوبنا العربية بشكل عام، في ظل صراعها الظاهر والخفي مع القوى الاستعمارية الكبرى.. وهكذا يتسم شعر الأسيوطي بالجموح على مستوى المضمون، والتحفظ على المستوى التشكيلي، وأعني بجموح المضمون، قدرته على القول الثوري الذي يدين الواقع ورموز العقم بمختلف أشكالها، وعلى النحو الذي يجعل منه شاعرا ثوريا رافضا لكل مظاهر الظلم، لكن هذه الثورية تختفي على المستوى التشكيلي، فالشاعر لا يغامر بثوابته الجمالية، ولا يطاوع جموح الخيال، ويرفض النزوع إلى التجريد، وإن كانت قصائده تمتلئ بالرموز و الصور المجازية، لكنها الصور التي تخضع لشرط البعد عن الغموض، خشية ابتعادها عن الجمهور.

ولاشك أن العديد من أعمال درويش الأسيوطي يمثل غناء شعبي نسائي، حزين، وشفاهي، وإبداع مفتوح لاجتهادات النساء عبر قرون، ففى كتابه «غناء الفلاحين فى صعيد مصر” نتلمس غناء حزين لبعض طوائف المجتمع، خاصة ما ارتبط منها بحرف يدوية، ولن أنسي ذلك الشعر الحزين الذي كتبه عن حال العالم العربي بعد أحداث، حيث يقول : 11 سبتمبر 2001 في سبتمبر / أيلول.. في الثامن والعشرين، من عام الحزن العربى ..جاء ملاكُ الموتِ .. فأخرجها من رهَقِ الدُّنيا.. صيّرها حيثُ يشاء الله.. في اليوم التالي والعشرين.. صار الوطنُ إطارًا لملامحِ صورتِهِ.. وامتدت فى الأرضِ جنازةُ حلمٍ.. يعشقُهُ البسطاء.. كلُّ الموتى في وطني.. من ماءِ النيل نغسِّلُهم.. لكن حين أرادوا … كان الغُسْلُ دموعَ الفقراء .. بعد سنين فاجأهم :ـ حرَّاس الأضرحة الزور وقوَّادى الكلمات ولصوص قبور الموتى ـ وحين أطلَّ عليهم ..في وجهِ تلاميذِ مدارسِهم، وعيونِ العمَّالِ المرهقةِ.. المكْتحِلَةِ بالحزْن وبالسَّهرِ الليلىّ، فاجأهم .. دون إطار ..!! تمتَدُّ ملامحُهُ في الوطنِ جميعا .. لم تقْتُلْهُ الغيْبةُ ..!! .. لم تمنعْهُ الأسوار.. وللحديث بقية!

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..................

المراجع

1- فتحي عبد السميع: درويش الأسيوطي ورمزية الذئب والحمل - باب مصر، 10 أغسطس، 2021

2- فتحي عبد السميع: درويش الأسيوطي ورمزية الذئب والحمل، 10 أغسطس، 2021.

3- حوار ــ د. أشرف أبو السعود: الشاعر درويش الأسيوطى لـ«الأهرام»: أبدعت عندما ابتعدت عن الحياة الثقافية المتشرذمة، الأحد 25 من ذي الحجة 1443 هــ 24 يوليو 2022 السنة 146 العدد 49538

4- حوار أسامة الرحيمي: الشاعر درويش الأسيوطى: المخيلة الشعبية من أحوال الدرويش العاشق لا تتوقف عن الإبداع، الجمعة 13 من جمادي الآخرة 1444 هــ 6 يناير 2023 السنة 147 العدد 49704

 

في المثقف اليوم