شهادات ومذكرات

حكايتي مع فؤاد زكريا من التفكير العلمي إلى ماركيوز

اثناء عملي في المكتبة كنت حريصا على اقتناء سلسة بعنوان "كتاب الجماهير" كانت تصدر في بداية السبعينيات عن مديرية الثقافة العامة التي كانت احدى مؤسسات وزارة الثقافة العراقية، وقد صدر عن هذه السلسلة كتاب بعنوان " ماياكوفسكي شاعر الثورة الاشتراكية " لجلال فاروق الشريف، وكتاب فوزي كريم " من الغربة حتى وعي الغربة " وكتاب " جاك لندن " لعبد الحميد العلوجي و" الكندي فيلسوف العقل " للمفكر محمد مبارك، وكتاب " السياب " للناقد عبد الجبار عباس، وكتاب حسين مردان " الازهار تورق داخل العاصفة " وقد صدر الكتاب قبل رحيل مردان باسابيع قليلة، توفي مردان في تشرين الاول عام 1972 وصدر الكتاب في ايلول من نفس العام .. كان سعر الكتاب " 50" فلسا، واستمرت هذه السلسلة بالصدور لسنوات . وفجاة توقف كتاب الجماهير دون معرفة الاسباب، وكان رواد المكتبة يسألونني عن الكتاب ويكون الجواب: لم يصدر . بعد ذلك بفترة وجدت في البريد الذي كنا نستلمه من موزع المطبوعات في العراق " عواد الشيخ علي " كتاب بحجم كتاب الجماهير صادر في الكويت ضمن سلسلة بعنوان " عالم المعرفة " وكان العدد الاول الذي صدر في كانون الثاني عام 1978 بعنوان " الحضارة " تاليف حسين مؤنس الذي كنت قد قرأت له في مجلة الهلال حوارا مترجما مع سيمون دي بوفوار، بعد ذلك عرفت ان حسين مؤنس عالم كبير ومحقق لكتب التراث ومتخصص بتاريخ وادب بلاد الاندلس وعضو مجمع اللغة العربية، بعد سنوات ساحصل على واحد من اجمل كتب حسين مؤنس بعنوان " كتب وكتاب " بمجلدين وفيه يقدم للقارئ مجموعة مختارة من الكتب التي قرأها ، واكثرها كتب تتعلق بالادب العالمي والفلسفة الغربية .. اخذت نسخة من كتاب " الحضارة" وما ان تصغحت الكتاب حتى لمحت اسم المشرف على السلسلة وكان الدكتور فؤاد زكريا الذي كانت معرفتي الاولى بكتاباته عن طريق مجلة " الفكر المعاصر " التي كان يراس تحريرها زكي نجيب محمود ثم تولى فؤاد زكريا المسؤولية ..الكتاب الثاني من سلسلة عالم المعرفة كان بعنوان " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " للناقد احسان عباس صاحب الكتاب الشهير " بدر شاكر السياب ..دراسة في حياته وشعره " . وساتوقف عند الكتاب الثالث من السلسلة وهو كتاب " التفكير العلمي " للدكتور فؤاد زكريا، والذي لايزال يعد من ابرز اصدارات السلسلة حتى ان القائمين على كتاب المعرفة عندما قرروا الاحتفال بصدور العدد " 500 " في شهر تشرين الثاني عام 2022، كان الاختيار ان يكون العدد 501 اصدار طبعة جديدة من " التفكير العلمي " – وكانت السلسلة قد اصدرت من قبل ثلاث طبعات من الكتاب كان اخرها عام 1988، كما صدرت طبعات اخرى للكتاب من دور نشر متعددة حتى يمكن ان يعد الكتاب الاكثر النتشارا -وقد افتتح العدد الجديد بمقدمة كتبها المشرف على السلسلة محمد غانم الرميحي بعنوان " فؤاد زكريا .. رجل الاستنارة " يذكر القراء من خلالها باصرار فؤاد زكريا ان تكون سلسلة عالم المعرفة " نافذة الفكر العقلاني والمستنير الذي يجب ان تتمسك به الاجيال المتعلمة العربية الصاعدة " .اتصفح الطبعة الجديدة من كتاب " التفكير العلمي " واسرح مع ذلك الشاب الذي وجد ضالته في كتابات هذا المفكر المصري، ومنهجه باعلاء شأن العقل، واتذكر معها رحلة ما يقارب الـ" 40 " عاما مع كتابات فيلسوف التفكير العبمي الذي كان يؤكد ان التفكير العلمي ليس بالضرورة هو تفكير العلماء فالعالم يُفكر في مشكلة متخصصة مستخدما في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصِّصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارَف عليها بَينهم، أما التفكير العملي فلا يتعلق بمشكلة مشكلة متخصصة بعينها،، ولا يَفترض معرفة بلغة عِلمية أو رموز رياضية خاصة، بل هو ذلك النوع من التفكير المنظَّم، الذي يمكن أن نستخدمه في شؤون حياتنا اليومية.، وهذا ما سنجده ايضا في اختياره لموضوع التفكير العلمي،، فقد كان فؤاد زكريا يرى ان غياب التفكير العلمي هو السبب الابرز فيما نعاني منه من مشكلات حضارية، حيث غياب هذا النوع من التفكير شجع على شيوع انماط من التفكير اللاعقلاني الذي غيب الوعي واشاع الخرافة يكتب في مفدمة " التفكير العلمي": " في اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي، ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاهاً ثابتاً، يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في إقرار سبيل أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم، ونحن نمضي قدماً إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، أن نتيجة هذه المعركة مازالت على كفة الميزان. بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتظار فيها أضعف من احتمال الهزيمة "4853 فؤاد زكريا

ظل يُطلق على فؤاد زكريا لقب " آخر الرجال المحترمين "، بسبب صلابة مواقفه الفكرية والسياسية، وسنجده يخوض معارك عنيفة مع الازهر ورجال الدين ابرزها معركته الشهيرة مع الشيخ محمد متولي الشعراوي، وسيختلف مع سياسات السادات ويترك مجلة الفكر المعاصر في بداية السبعينيات حيث يسافر مثل استاذه زكي نجيب محمود للعمل في الكويت .

كانت المرة الاولى التي اتعرف فيها على كتابات فؤاد زكريا حين وقع في يدي منتصف السبعينيات كتابه " آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة"، ومن خلال هذا الكتاب ساتعرف على النظريات اليونانية في فلسفة الفن، وعن الفلسفة والتكنولوجيا في العالم القديم، وعن اليمين واليسار في الفلسفة، وساتجول برحلة ممتعه مع افكار ماركس وهيغل وبرديائيف وكامو وكارل ياسبرز .. اما الكتاب الثاني فكان بعنوان " مع الموسيقى " ساكتشف من خلاله ولع فؤاد زكريا في الموسيقى، وكيف انها بنظره لا تقل أهمية عن الفلسفة، وبسبب شغفه بالموسيقى يصدر فؤاد زكريا اكثر من كتاب ابرزها " التعبير الموسيقي " وترجمة كتاب جوليوس بورتنوي " الفيلسوف وفن الموسيقى "، ثم يصدر كتابا خاصا عن الموسيقار الالماني الشهير " فاجنر " الذي كان له تاثير كبير على فلسفة فريدريك نيتشه، ولعل الموسيقى في حياة فؤاد زكريا هي اداة من ادوات رحلته مع الفلسفة، وكما يقول محمود امين العالم ان فؤاد زكريا يلتقي مع شوبنهاور في رحلة البحث عن الحقيقية الفلسفية في الموسيقى، رغم اختلاف المواقف الفكرية بين شوبنهاور وفؤاد زكريا الذي يكتب: " لن نجد فيلسوفًا تأثر بالطابَع الفريد للموسيقى أكثر مما تأثر بها شوبنهاور. وحسبُنا أن نشير إلى أن هذا الفيلسوف، الذي رأى الكون كله مظاهر للإرادة، ولم يستطع أن يهتديَ إلى هذه الإرادة ذاتها مباشرة، قد اهتدى إليها في الموسيقى، التي لا تقلِّد موضوعاتٍ خارجيةً، ولا تنقل أحاسيس النفس بطرق غير مباشرة، بل تعبر عن كل أوجه الإرادة تعبيرًا مباشرا لا وسائط فيه، ومن هنا كانت في رأيه تَصلُح لفَهْم الطبيعة الكامِنة للعالَم ذاته "- فؤاد زكريا التعبير الموسيقي – .

الصبي الذي كان مبهورا بمنظر الجنازات العسكرية التي تمر من امام بيتهم، سحرته الموسيقى التي تخرج من الآلات النحاسية، قرر ذات يوم أن يصبح موسيقيا، تعلم العزف على آلة " الماندولين "، واخذ دروس في قراءة النوتة الموسيقية، في الليل يستفرد براديو العائلة يبحث فيه عن محطات إذاعية أجنبية تذيع برامج موسيقية كلاسيكية. كان قد عثر على كتيب صغير باللغة الانكليزية عن الموسيقار الالماني الشهير فاغنر، اعتبره احد الاكتشافات الباهرة في حياته، سيدله فاغنر على الفلسفة، يقرأ كتابات نيتشه وشوبنهاور، يجد عند صاحب " هكذا تكلم زرادشت " كيف تمتزج الفلسفة في الحياة وأنه: " يتفلسف بكيانه كله، وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريًّا، أو يفكر في مشاكل تجريدية جامدة فقدت صلتها بالحياة. " – فؤاد زكريا نيتشه -

يتذكر انه كتب مخطوطة حول الموسيقى وتاثيرها على الفلاسفة . كان في السابعة عشر من عمره . في الجامعة التي دخلها عام 1945 طالبا في قسم الفلسفة، اخذت الفلسفة تاخذ مكان الموسيقى في حياته، آنذاك كانت الجامعة حلما ورديا بالنسبة الية، وكانت صورة الجامعة عنده تلك التي قرأ عنها في سيرة كانط وهيغل، الاهتمام بتنمية المعارف، ومنذ تلك اللحظة اصبحت الفلسفة الأداة الحقيقية في حياته، وسيجد في زكي نجيب محمود معلما من طراز خاص، يكتب عنه فيما بعد: " لقد جاء هذا الأستاذ ونحن طلبة بالسنة الثالثة، أي بعد ثلاث سنوات من الدراسة الفلسفية، يحمل إلينا أفكاراً غير تقليدية، تخالف ما درجت عليه دراستنا قبل وجوده، جاء هذا الأستاذ ليعطينا صدمة فكرية كانت ضرورية لنا في هذا الحين لكي نعرف أن الفلسفة ليست اتجاهاً واحداً وليست إتباعاً لأي نوع من التقاليد والتراث. لقد جاء إلينا زكي نجيب محمود وهو مشبع بالأفكار الجديدة الثورية التي أثرت علينا تأثيراً كبيرا" . في مقابل زكي نجيب محمود كان هناك عبد الرحمن بدوي الاستاذ الصارم المتشبع بالفلسفة الوجودية، وسيندهش الطالب بسعة ثقافة استاذه بدوي واتساع معلوماته وغرامه بنيتشه . كان فؤاد زكريا قد قرأ كتاب بدوي عن نيتشه، الذي كان يريد تحويل نيتشه الى رمز للشباب وبطل اسطوري يقدم نموذج " الانسان الاعلى " وسُيفاجئ استاذه بدوي بان يقدم له بحثا عن " النزعة الطبيعية عند نيتشه"، يتحول هذا البحث فيما بعد الى رسالة ماجستير، ومن ثم الى كتاب صدر عام 1956.. بعد ذلك سأُلاحق فؤاد زكريا وابحث عن كتبه، فها هو يترجم لنا جمهورية افلاطون مع مقدمة اشبه بالكتاب تعدت صفحاتها الـ " 175 " صفحة، وهي اليوم من افضل الدراسات التي كتبت بالعربية عن هذا الفيلسوف وجمهوريته الفاضلة، يطرح من خلالها تاثير افلاطون على الفكر الانساني، وكيف ان نفوذه في دولة الفلسفة اقوى من اي نفوذ، فهو وجد ليبقى، لكن فؤاد زكريا يأخذ على دارسي افلاطون انهم تعاملوا معه على انه قديس وليس مفكر، فهو في نظره مفكر وقع في اخطاء نظرية كثيرة، وكان مسؤولا عن الكثير من الاتهامات التي وجهت الى الفلسفة، والتي تسيء الى سمعتها في اذهان غير المشتغلين بها، ولهذا يحاول فؤاد زكريا حسب قوله ان: " يعرض افلاطون من خلال محاورته الرئيسية – الجمهورية – في هذه الصورة المزدوجة: صورة الفيلسوف الكبير الرائد من جهة، وصورة المفكر الانسان الذي وقع في اخطاء منها ما يمكن ان يغتفر، ومنها ما زالت الفلسفة، وربما الحضارة البشرية بأسرها تعاني منه " – الجمهورية ترجمة وتقديم فؤاد زكريا - .، بعدها ساذهب في رحلة معه الى هربرت ماركيوز عندما يترجم كتابه " العقل والثورة " ويرفقه بمقدمة موسعه عن افكار هذا الفيلسوف الالماني، تتحول فيما بعد الى كتاب بعنوان " هربرت ماركيوز " وكان من اوائل الدراسات التي سلطت الضوء على افكار هذا الفيلسوف الذي اشعل ثورة الطلبة في باريس عام 1968، يرى فؤاد زكريا أن ماركيوز ظل فيلسوفا حالما، لا ثوريا واقعيا، فقد حاول أن يشعل نار ثورة من نوع جديد، ولكنه أخفق لأنه: " ساعد على دعم النظام الرأسمالي وعلى هدمه في آن واحد" .. إلا ان الكتاب الذي سيظل له وقع كبير في نفسي هو كتاب " سبينوزا " نشره فؤاد زكريا عام 1962، ويعد ايضا من اوائل الدراسات الموسعة عن هذا الفيلسوف المثير للجدل، وقد نال عن هذا الكتاب جائزة الدولة للفلسفة عام 1963 .. في هذا الكتاب يقدم لنا فؤاد زكريا فيلسوفه المفضل في صورةٍ مختلفة كل الاختلاف عن تلك الصورة أو الصور التي تتبادر إلى الأذهان كلما عرض لنا اسم هذا الفيلسوف. فالصورة التقليدية لشخصية سبينوزا هي صورة الفيلسوف المعتكف عن الناس، المنعزل عن العالم، الغارق في التأمل بين جدران بيته، بعيدا عن صخب العالم الخارجي وضجيجه. هذه الصورة التي وُرثت عن مؤرخي حياته، ظلت هي التي يرسمها له الذين عكفوا على كتابة تاريخ الفلسفة ، وقد رسم البعض صورة لسبينوزا باعتباره فيلسوفا اقرب للتصوف ، إلا ان فؤاد زكريا يقرر في كتابه ان هناك سبينوزا آخر ابعد عن أن يكون صوفيا غارقا في التأملات، أو مفكرًا منعزلا منطويا على نفسه، وإنما كان: " بعيدا كل البعد عن أن يكون ناسكا غارقا في التفكير في الأزلية إلى حد نسيان الحاضر. فقد كان، على عكس ذلك، رجل عمل، حريصا على أن يضمن الظَّفر لأفكاره التي عدها خليقةً بتغيير وجه العالم "، وسانتقل مع فؤاد زكريا من الفلاسفة واتجاهاتها الى الفن وفلسفته وعلاقته بالمجتمع، حيث يقدم لنا موسوعة ضخمة وهي ترجمة كتاب " الفن والمجتمع عبر التاريخ " لأرنولدهاوزر، وهي موسوعة لا يستغنى عنها اي باحث او قارئ في مجال الفنون وعلم الجمال، وسيكمل فؤاد زكريا رحلته مع الفن بترجمة كتاب موسوعي آخر بعنوان " النقد الفني - دراسة جمالية"

انتمى فؤاد زكريا المولود في الاول من كانون الاول عام 1927 في مدينة " يورت سعيد " الى اسرة من الطبقة المتوسطة ، اكمل دراسته في مدينته، وانتقل الى القاهرة عام 1945 طالبا في جامعة القاهرة، كلية الاداب قسم الفلسفة، تخرج عام 1945 وكان الاول على دفعته، ثم نال الماجستير ثم حصل الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1956، عين مترجما في الجامعة ثم استاذا و رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس حتى 1974 وترأس تحرير مجلتي " الفكر المعاصر " و" تراث الانسانية "، انتقل الى الكويت حيث مارس التدريس وتولى منصب مستشار تحرير سلسلة عالم المعرفة الكويتية.

الفلسفة لدى فؤاد زكريا ارتبطت بدوره كمثقف في المجتمع، فهو لم يكتف بالترجمة وكتابة المؤلفات والمقالات الفلسفية، بل اهتم بالشأن الثقافي والسياسي واصدر العديد من الكتب ابرزها: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، خطاب إلى العقل العربي، وكتاب مغامرة التاريخ الكبرى تناول فيها تجربة غورباتشوف وانهيار الاتحاد السوفيتي ، وكتاب الصحوة الإسلامية في ميزان العقل. و" كم عمر الغضب (رد على كتاب خريف الغضب للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل). وكتاب عبد الناصر واليسار المصري، وكتاب العرب والنموذج الامريكي، وجميع هذه الكتب تدلنا على شخصية فؤاد زكريا الاستاذ والباحث والمشارك في الاحداث السياسية والاجتماعية والفكرية من خلال تبني افكار تدعوا الى الاصلاح الاجتماعي والسياسي والثقافي وتؤمن بأهمية التفكير النقدي العقلاني الذي يعتبره قاسما مشتركا بين كل ما قدمه من كتابات، وما قام به من مشاريع ثقافية، وكان دائما ما يرى أن الانسان العربي تعرض لهجمات كثيرة جدا ومن جوانب متعددة على انسانيته ووعيه، وهو يرى ان مهمة الكاتب والمثقف هي في المساعدة على صد هذه الهجمات، وهذا العدوان الذي يريد ان يفرض نفسه على الانسان في ميادين متعددة . ومن هذا المنطلق نجد فؤاد زكريا يختار الموضوعات التي تهم العصر الحاضر ، واذا طالعنا الترجمة المتميزة التي قام بها لكتاب هانزر يشنباخ " نشأة الفلسفة العلمية " سنقرأ في المقدمة هذه الملاحظة المهمة التي تشير بوضوح الى منهج فؤاد زكريا في اختيار موضوعاته فهو يقول: ": أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملاً صحيح التوقيت. فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحياناً " ومثلما آمن فؤاد زكريا بقيمة العلم وسعى الى اشاعة التفكير العلمي، فانه وجد في الفلسفة غاية سامية وهي اعلاء شأن العقل ، فالفلسفة في نظر زكريا خلقت لتجيب عن اسئلتنا وفي نفس الوقت تدفعنا للسؤال عن الانسان ومصيره . ولعل في معظم كتبه حاول فؤاد زكريا ان يشتبك مع مشكلات العصر، فالفيلسوف المنهمك في تقديم دراسات عن آفاق الفلسفة ويقوم بشرح الأورغانون الجديد لفرنسيس بيكون، ويكتب عن شجرة الفلسفة عند ديكارت، وعن مذاهب الذرات الروحية لليبتنر، وعن العالم إرادة وتمثلاً لدى شوبنهاور .

في الحادي عشر من آذار عام 2010 يعلن عن وفاة فؤاد زكريا، وكان قد تعرض الى ازمة مرضية ادت الى ابتعاده في الاشهر الاخيرة من حياته عن المشاركة في الحياة الثقافية، ليسدل الستار على صفحة مضيئة من صفحات تاريخنا الثقافي كان فيها فؤاد زكريا يعمل في الفلسفة وعينه على مشكلات المجتمع، مؤمنا أن هدف المفكر والمشتغل في الفلسفة هو تنوير عقول الناس والمساعدة على تطهيرها من كثير من الشوائب الضارة، وتنبيه الناس على مشاكل لكي يكونوا منتبهين اليها، وكان يرى ان قدر المثقف والفيلسوف ان يكون رائدا لمجتمعه لا تعزله غرف الدرس الاكاديمي عن دروب الحياة الصاخبة، ولا تفصله البحوث والكتابات عن معارك الحياة والمجتمع .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم