شهادات ومذكرات

ما الحياة إلا كلمات.. كلمات.. كلمات

قالت الأم تشكو حالها لإحدى جاراتها: "ابني يقضي نهاره في دكاكين الوراقين، ولا يسعى في طلب الرزق". الولد الصغير كان عمرو بن بحر البصري، عُرف فيما بعد باسم " الجاحظ " لنتوء عينيه مما جعله دميما، وكان يكره ان يناديه الناس بالجاحظ، ويحاول ان يُفهم الناس ان اسمه " عمرو " مما جعله يؤلف كتابا عن الشعراء الذين اسمهم " عمرو ". وبسبب شكله وميله للتهكم نسجت حوله الكثير من الطرائف والحكايات اشهرها التي وردت على لسانه حين قال:" ما اخجلني إلا امرأة مرت بي الى صائغ فقالت له: اعمل مثل هذا، فبقيت مبهوتا ثم سالت الصائغ فقال: هذه امراة ارادت ان اعمل لها صورة شيطان، فقلت لا ادري كيف اصوره، فأتت بك لاصوره على صورتك " - نزهة المجالس السيوطي -. تققر الام ذات يوم ان تعاقب ابنها فقدمت له الاوراق ليأكلها بدلاً من الطعام، لانها كانت تعتقد ان الكتب لا نفع لها،، وحينما عبر الصبي عن دهشته، قالت الأم:" وهل تأتينا بغير الصحف والكراريس من الطعام ".

يقدم لنا ياقوت الحموي صورة للجاحظ يقول فيها:" لم أر قط ولا سمعت من احب الكتب والعلوم اكثر من الجاحظ، فانه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، حتى انه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها " – معجم الادباء تحقيق احسان عباس –

عاش الجاحظ معظم حياته كاتبا، يكتب في في كل شيء ويحصي كل المباهج، والآلام والفضائل، والرذائل، والحقائق، والاخطاء.آمن ذلك الرجل الذي عاش ما يقارب القرن بقدرته على المحاججة. حارب الجهل باعلاء شأن التفكير الذي وصفه بانه " مشحذة للأذهان ". التوق الى المعرفة، ومعرفة مواضع الشك كانا الافتراضين الوحيدين الثابتين، اللذين سافر من خلالهما نحو الالمام بحالة الانسان.

كان العالم بالنسبة له عبارة عن كلمات، فهي " تشحذ وتفتق وترهق وتشفي (وانها) عقل غيرك تُزيده في عقلك ". كاتب هذه العبارات عاش في القرن الثالث الهجري، تنقل ما بين البصرة وبغداد وسامراء، كتب في الدين، والخلق والتكوين، في السياسة وشؤون الحكم، في اللغة والادب، في عامة المجتمع الانساني طبقاته ودرجاته، في الفلسفة وعلم النفس. انغمس اكثر واكثر في لذة الجدل، اراد الكتابة في كل ما يهم الانسان:" فالعمر قصير والصناعة طويلة ". شعر انه مطالب اكثر واكثر في الدخول بمناقشات طاحنة بين جماعة تؤمن بالحجة والاقتناع وتحكم العقل في كل شيء، وجماعة ترى ان النقل عن الاولين هو الأبقى والأهم. اخبرنا في كتبه انه كرس حياته للكتابة والورق. وكان يرى ان مخاطبة الناس من خلال الكتب انجح من الاحاديث الشفاهية فقال:" ان قراءة الكتب ابلغ في ارشادهم (الناس) من تلاقيهم، وليست في الكتب من علة تمنع من درك البغية، واصابة الحجة " – رسائل الجاحظ تحقيق عبد السلام محمد هارون -. ايقن ان افضل وسيلة للمحافظة على الموروث الثقافي، تسجيله بالكتب التي تُعبر عن حقيقة ذلك التراث اكثر من غيرها يقول:" الكتب ابلغ في تقييد الآثر من البناء والشعر " – كتاب الحيوان -، وحجته في ذلك ان التراث الثقافي اكثر قدرة على البقاء والصمود من التراث الحضاري الذي يتعرض بسبب تقلابات الدول وثورات السياسة الى العبث والتدمير من المتسلطين الجدد الذين يسعون الى طمس تراث ما سبقهم.

ولد الجاحظ في البصرة ولم يتمكن كُتاب سيرته من تحديد يوم ولادته، ويبدو انه نفسه يجهل هذا التاريخ، ويروي ياقوت الحموي انه ولد عام 150 هجرية مستندا الى ما قاله الجاحظ نفسه:" أنا أسنُّ من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمسين ومئة وولد في آخرها " –الحموي معجم الادباء تحقيق إحسان عباس –. نشأ في عائلة فقيرة، توفى والده وهو في الرابعة من عمره فتكفلت امه برعايته، اضطر الى العمل منذ صغره، فباع الخبز والسمك، إلا ان الفقر لم يعفيه من ان يذهب الى الكُتاب، ليتعلم القراءة والكتابة، وكانت القراءة والبحث عن الحكايات المثيرة محاولة للابتعاد عن عالمه القاسي، وقد ساعدته قوة الملاحظة ان يُنمي مواهبه العقلية. كان يعيش حياته بين القراءة والعمل، وسيخبرنا في كتابه البيان والتبيين – تحقيق عبد السلام محمد هارون – انه تتلمذ على يد ابي الوزير وابي عدنان:" وما كان عندنا في البصرة رجلان أدري بصنوف العلم ولا احسن بيانا من ابي وابي عدنان المعلمين " ورغم انه كان فقيرا شديد الفقر، وعليه ان يعمل لاعالة امه وشقيقته، إلا انه كان دائم الزيارة لدكاكين الوراقين، والتردد على سوق المربد الذي احتل مكانا في الحياة الادبية والعلمية في البصرة، هناك كان يستمع الى الى كلام الاعراب وقصائد الشعراء.ومن البيئات التي كان الجاحظ يتردد عليها مسجد البصرة حبث كان يحضر مجالس المتكلمين واصحاب الحديث، ونجده في كتابه " الحيوان " يتطرق الى حوار اجراه مع احد المعتزلة عن ارسطوطاليس.

ان معظم الكتب التي تناولت سيرة الجاحظ لا تزودنا بتفاصيل تدرجه بالدراسة، لكنها تشير إلى اتصاله باشهر علماء النحو والروايات واللغة، كالاصمعي وابي زيد الانصاري وابي الحسن الاخفش وابراهيم بن سيار النظام الذي مارس تاثيرا كبيرا على الجاحظ، وكان النظام ابرز زعماء المعتزلة، اهتم بالفلسفة اليونانية، واول من نبه الجاحظ الى ضرورة الفلسفة والاهتمام بها. كان الجاحظ يعتبر النظام استاذه وقد ذكره في العديد من كتاباته، يثق به ثقة كبيرة فيقول عنه:" واخبرني ابو اسحق ابراهيم بن سيار النظام وكنا لا نرتاب بحديثه ان حكى " – محمد ابو ريدة النظام وآراؤه الكلامية -. وقد افاد الجاحظ من النظام كثيرا في ابحاثه الطبيعية واسلوبه الجدلي، ويخصص الجاحظ صفحات كثيرة في كتابه الحيوان للحديث عن استاذه النظام الذي يقول انه كان فقيرا، وقاسى في طفولته من الجوع والفقر. كان النظام مثل الجاحظ يكره الخرافات، ولا يؤمن بوجود الجن، ويذهب النظام الى ان الانسان في الحقيقة هو النفس، اما البدن فليس سوى قالب للروح، وان الروح جسم لطيف يشبه النسيم، وهي مصدر القوة والحياة، والإرادة. ولم يكتف النظام بنقد الفلاسفة ورجال الدين، بل وجه نقده لاوهام العامة وايمانهم بالخرافات، وكان يعزو انتشار الخرافة والجهل الى فقدان الروح الانتقادية عند الانسان، ليتحول الوهم الى عقيدة يقول النظام:" نازعت الشكاكين والملحدين فوجدت الشكاك ابصر بجواهر الكلام من اصحاب الجحود ".

كان المعتزلة قد عاشو في البصرة، اما سبب التسمية فيقال ان واصل بن عطاء كان جالسا في حلقة الحسن البصري، عندما دخل عليه رجل وسأله:" يا امام الدين، قد ظهر في زماننا جماعة يكفرون اصحاب الكبائر، وهناك جماعة يرون ان الكبائر لا تضر مع الايمان، فكبف تحكم لنا في ذلك، فتفكر الحسن البصري في السؤال وقبل ان يجيب قال واصل بن عطاء: انا لا اقول ان صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين منزلتين، لا كافر ولا مؤمن، ثم قام واصل واعتزل مجلس الحسن البصري، فقالوا اعتزل واصل، فسمي واصل واصحابه المعتزلة – الشهرستاني الملل والنحل تحقيق سعيد الغانمي-

عاش الجاحظ في البصرة في عصر انفتحت فيه قنوات الاتصال الثقافي مع الامم الاخرى، حيث اخذ العرب ينهلون من روافد الثقافات اليونانية والفارسية والهندية، كان التطلع الى معرفة كل شيء ابرز الخصائص العقلية عند الجاحظ، وكانت المعرفة بالنسبة له حصيلة التجارب التي يراكمها الانسان ثم يفحصها من خلال العقل، فالجاحظ يميز بين العقل والتجربة، إذ يقول إن العقل المولود متناهي الحدود بينما عقل التجارب لا يوقف على حد.

التقت في الجاحظ ثلاث مزايا: الموهبة الادبية، الفضول العلمي، الفكر النير، ولذا يمكن عده اديبا وفيلسوفا وعالما، ولم تجتمع هذه الخصال لأحد من فلاسفة العرب والمسلمين، فقد اصر ان يعرف كل شيء، وان يكتب في جميع الموضوعات، ولعل عناوين كتبه تدل على سعة اطلاعه، وامتلاكه ادوات البحث العلمي، وسنجد في كتابه الحيوان اشارت واضحة الى نظرية التطور، ونظرية أثر البيئة، واعتماده المنهج التجريبي في دراسة الطبيعة، وفي رسائله نعثر على نظريته الاخلاقية والتي استمدها من الفكر المعتزلي، اما في الادب فقد اعتبر واضع اسس علم البيان والبلاغة. كما انه كان ذا اتجاه عقلي بالنسبة للعلوم الدينية. ينطلق الجاحظ من مبدأ العقل الذي اخذت به المعتزلة، مضافا اليه حرية الاختيار، ولذلك فان الإنسان من بين جميع المخلوقات يتميز بالعقل وبحرية الاختيار، وهو مكلف بأن يعتبر وان يتوصل بقدرته العقلية الى حقائق الكون، ويذهب الى ان المعرفة العقلية اساس الايمان وان الانسان لايحاسب الا بعد المعرفة والتنبيه، ويؤمن الجاحظ بضرورة الاختلاف بين الناس، لان الناس اذا كانوا جميعا يبتغون غاية واحدة، ولم يتفاوتوا او يختلفوا في حاجاتهم واعمالهم واهوائهم..هلكو.. وليس بين الناس حقير وكبير، او بين الامم والشعوب، فكما ان لكل فرد قابليته ورغباته وحاجاته، كذلك لكل امة ميزاتها وقابلياتها وتاريخها وتراثها، كما يرى الجاحظ ان الفخر غير مجد ولا طائل منه، كذلك التغني بامجاد أمة دون غيرها عبث لاطائل من وراءه، آمن بأن المعرفة تراث انساني تشترك فيه جميع الامم، ويكتب في مقدمة كتاب " الحيوان ":" هذا كتاب تستوي فيه رغبة الامم، وتتشابه فيه العرب والعجم، ولأنه وان كان عربيا واعرابيا، فقد اخذ من طرف الفلسفة، وجمع معرفة السماع وعلم التجربة ". وكان الجاحظ وهو تلميذ لمدرسة ارسطو الفلسفية يرى في الانسان كائنا سياسيا لا ينفصل عن المجتمع.

من الطبيغي ان يحعل الجاحظ من العقل حكما في النظر الى الامور، سواء الدينية او السياسية او الاجتماعية، وقد ادرك التاقض البارز الذي تعيشه الناس من خلال تشبثها بالتقاليد والخرافات السائدة، مما اضطره ان يواجه الناس بان تعامل بسخرية مع كل ما يصدم العقل، لقد كان يؤمن ان نشر مفاهيم الدين الصحيحة يساعد على ترسيخ وعي المجتمع ويحرر العقل من الاوهام ويجعل الناس تسعى الى طلب الحق، العقل وحده يميز بين الخير والشر ويوفر النمو الكامل للكائن البشري " فالعقل في الانسان هو الجوهري والافضل " – التربيع والتدوير تحقيق شارل بلات".

وإذا كان الهدف من الفلسفة هو اعلاء شأن العقل، فان مهمتها ايضا ان تناقش المسلمات الدينية، فقد كان الجاحظ يرى ان الدين ليس كاف وحدة لان يدفع الانسان الى القيام بامر ما، ويصف الدين بانه مكتسب وليس باصلي او طبيعي، والجاجظ المعتزلي يرى ان الدين يجب ان لا يختلف مع العقل، ولهذا نراه يميز بين عقيدة العامة التي هي تسليم مطلق، وعقيدة الخاصة او الفلاسفة التي تقوم بفعل العقل، ولا ايمان يقوم بدون فعل العقل.

في بغداد التي وصلها الجاحظ اثناء خلافة المامون الذي كان يميل الى مذهب الاعتزال، توثقت صلته بالخلافة العباسية، وقد طلب منه المامون ان يتولى ديوان الرسائل، وفرت له الوظيفة راتبا شهريا منتظما، ولم يعد بحاجة الى البحث عن عمل آخر، كما ساعدته ان يتفرغ لكتابة مؤلفاته الموسوعية، كما ان بغداد اتاحت له ان يحقق مجده الادبي وان يقدم للفكر العربي عددا من اهم مؤلفاته " البيان والتبيين " و" كتاب البخلاء " وموسوعته الشهيرة " كتاب الحيوان " ورسالته في " خلق القرأن ".

اهتم الجاحظ بدراسة الطبيعة في مختلف ظواهرها من انسان ونبات وحيوان وجماد، ويبدو ذلك في مؤلفاته المتنوعة، وقد كان صاحب نزعة فكرية تقوم على تفسير الظواهر المختلفة بالاستناد الى الطبيعة. ويشبه الجاحظ الطبيعة بالعادة التي يكتسبها المرء بالتكرار حين تغدو "الطبيعة والعادة توأمين في نتائجهما واثرهما في حياة الانسان – الجاحظ كتاب الحيوان -.

يضع الجاحظ تعريفا للانسان حيثو يقول:" الانسان عالم صغير لانه يحتوي على جميع الاشكال التي في العالم الكبير "، ويرى ان الانسان لا يشكل وحدة قائمة بذاتها، بل هو جزء من كل اكبر انه " مختصر الكون " فعليه اذن ان يصلح نفسه اولا لأن الفساد الاجتماعي ليس إلا مجموعة الفساد الفردي، وعليه ان يحل السلام لا في نفسه فقط بل في مجتمعه ايضا لأنه متنضامن معه. تبنى الجاحظ تعريف ارسطو للانسان العاقل فهو " الحي الناطق " اذ يرى الجاحظ ان النطق او القدرة على الكلام اهم ما يميز الانسان عن الحيوانات، فهو بالكلام يعبر عن حاجاته، وهناك ميزة اهم يتفوق بها الانسان على الحيوان هي العقل وهكذا فالانسان حسب تعريق الجاحظ " حيوان عاقل وناطق " ونجد الجاحظ يلجأ لكشف بعض الصفات التي تجمع بين الانسان والحيوان فهو يرى ان الجهاز الهظمي عن الانسان والكلب متشابه، وان هناك شبها قويا بين الانسان والقرد في المظهر الخارجي وبعض الصفات النفسية. ويعترف الجاحظ مثل ارسطو بأن بعض الحيوانات تمتلك الذكاء وان لها قدرات حسية ومعرفية

صدر كتاب " الحيوان " في المرحلة الاخيرة من حياة الجاحظ عندما تمكن منه المرض:" وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه، اول ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الاعوان، والثالثة طول الكتاب "، حيث يعد موسوعة علمية وادبية واجتماعية تتداخل فيها العلوم جميعا يضاف لها المعتقدات والمذاهب والنوادر، كما ان الجاحظ يتناول في الكتاب، الكون بجميع مكوناته، بحثا وتدقيقا، وقد بلغ كتاب الحيوان من الاتساع ان وضعه في سبعة اجزاء، وكان ينوي ان يضيف له اجزاء اخرى، لكن المرض اشتد عليه وتقدمت به السن.

ويذكرنا الجاحظ في كتابه بكتاب الفيلسوف الاغريقي ارسطو الذي وضع ثلاثة مجلدات، تعد اليوم اول موسوعة فلسفية عن الحيوان، إلا ان الجاحظ استطاع ان يضيف الكثير من المعلومات ويناقش اراء ارسطو، مضيفا الكثير من المعلومات استجدت خلال السنوات التي مرت بين زمنه وزمن أرسطو.

كتاب الحيوان اشبه بموسوعة تحوي شتى المعتقدات والافكار، يحاول الجاحظ فيه ان يوفق بين العقيدة الدينية وبين التنفكير العلمي وما يقبله العقل الانساني، ونراه لا يتردد في رفض الكثير من المعتقدات الشائعة بين الناس، والكتاب يهدف كما يخبرنا الجاحظ الى غايتين ، اولهما البحث عن حقائق الكون بجميع اشكالها، والغاية الثانية ايصال هذه الحقائق الى طبقات الناس كافة دون تمييز. كما انه موسوعة علمية يقدم فيها معلومات موسعة عن 350 حيوانا، ويقدم فيه الجاحظ أفكارا سبقت نظرية داروين بمئات السنين، حيث يرى أن عوامل بيئية تساعد الكائنات على تطوير سمات جديدة لضمان البقاء، وبهذا تتحول إلى أنواع أخرى.، وان الحيوانات التي تبقى وتنقل صفاتها وسماتها الناجحة إلى ذريتها.ويتضح من الكتاب فهم الجاحظ لطبيعة الصراع بين الكائنات وتاثير العالم الطبيعي في الصراع من اجل البقاء.

ويطرح الجاحظ نظرية في اصل الحياة حيث كان يرى ان بعض الحيوانت تُخلق من غير ام واب وهي النظرية التي طورها فيما بعد الفيلسوف ابن طفيل في كتابه " حي بن يقظان " حيث زعم ان انسانه هذا تولد من تخمر بعض الاتربة في ظروف ملائمة – فكرة التطور عند فلاسفة الاسلام ترجمة مجدي عبد الحافظ –، وذهب الجاحظ الى ان القول بتولد الكائنات في الطبيعة من دون ذكر وانثى لا ينطوي على اي ضرر على الدين:" وقد انكر ناس من العوام واشباه العوام ان يكون شيء من الخلق كان من غير ذكر وانثى، وهذا جهل بشان العالم وباقسام الحيوان، وهم يظنون ان على الدين من الاقرار بهذا القول مضرة، وليس الامر كما قالوا " – الجاحظ كتاب الحيوان –

ويذهب الجاحظ بعيدا حين يناقش مسالة العلاقة بين القرد والانسان حيث يذكر اوجه الشبه بين الانسان والقرد، في المظهر والحركات وكيفية تناول الطعام وشكل الكف والاصابع. والفرق بين داروين والجاحظ ان صاحب كتاب " اصل الانواع " يؤمن بالتطور الصاعد نحو الاعلى او الارقى، فيما يذهب الجاحظ الى التطور النازل نحو الاسفل، فالانسان حسب راي الجاحظ هو الذي انقلب الى قرد، وليس القرد هو الذي ارتقى الى مصاف الانسان، اما العوامل التي ادت الى هذا التطور النازل فهي البيئة التي اثرت في الانسان وحولته الى قرد بسبب رداءتها وفساد هوائها ومائها. وهذا التطور لم يحدث دفعة واحدة انما استغرق زمنا طويلا، وبهذا يؤكد الجاحظ ايمانه بالتطور شريطة ان يكون هذا التطور طبيعيا اي خاضع لقوانين الطبيعة. والمسألة الاهم التي يثيرها الجاحظ هي تاثير البيئة على الانسان والحيوان وهو بذلك يكون قد سبق ابن خلدون ولامارك وداروين بقرون عدة.

ويؤكد الجاحظ ان هناك معرفة حسية ومعرفة عقلية. يبلغ الانسان المعرفة الاولى عن طريق الحواس التي تتشابه عند جميع الكائنات، ويبلغ الثانية عن طريق العقل. وهو يعتبر المعرفة العقلية ارقى من المعرفة الحسية وينصح الانسان ان يرتفع من معرفة الحواس الى معرفة العقول، ويرى الجاحظ ان الشك مهم للوصول الى اليقين:" فلم يكن يقين حتى كان قبله شك، ولم ينتقل احد من اعتقاد الى غيره حتى يكون بينهما حال شك " – كتاب الحيوان - ويرى ان الشك سبيلا الى اليقين، لانه محطة يتوقف فيها العقل لييتعرف على مختلف الاراء والاتجاهات قبل اختيار الاتجاه الصحيح. وبعد التوقف ياتي التثبت، وبعد التثبت ياتي اليقين، ويلخص الجاحظ هذه المراحلة بالقول:" وبعد هذا فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضيع اليقين " – كتاب الحيوان –

قليل من المفكرين من قاموا بمهمتهم بجدية وحرص تامين كما فعل الجاحظ، فالرجل الذي تنقل بين البصرة وبغداد وسامراء ودمشق وانطاكية، يعود الى البصرة مريضا، لكنه لم يتوقف عن الكتابة والتاليف، يطرح اعقد المسائل على بساط البحث ويطالب بحل المشاكل حلا عقليلا. الى ان يشتد عليه المرض، فتخفت قدراته الجسدية شيئا فشيئا، ليتوفى عام 255 هجرية الذي صادف "20" كانون الثاني عام 868 ميلادية.

***

علي حسين

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم