شهادات ومذكرات

طه جزّاع: قصة حب صوفية

هي حكاية لوحدها، هذه المرأة الألمانية التي اقتحمت في وقتٍ مبكر عالم الشرق، لتنضم إلى صفوف المستشرقين الذين لفتوا أنظار البشرية إلى الكنوز الروحية الشرقية في نصوص وأشعار التصوف الإسلامي، وتعلمت من أجل ذلك اللغة العربية وهي في الخامسة عشر من عمرها، ثم اتقنت الفارسية والتركية لتترجم للرومي والحلاج، وجابت الهند والباكستان وأفغانستان بحثاً عن روح الإسلام والتصوف، وتعلمت اللغة الأوردية لتترجم أعمال محمد إقبال وقصائد شاعري الأوردية الدهلوي، وأسد الله غالب، ولتكتب عن الإسلام في شبه القارة الهندية. وقبل أن يهتم المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، بحكاية الحسين بن منصور الحَلَّاج ويسلط الأضواء على أقواله وأشعاره وشطحاته ومأساته، كان التصوف الإسلامي قد وجد اهتماماً أكاديمياً متصاعداً نتجت عنه مئات البحوث والكتب التي كتبها مستشرقون كبار أمثال رونالد نيكسلون وبول كراوس وكارل بروكلمان، وليس آخرهم المستشرق الإنكليزي الشهير آرثر جون آربري الذي حقق الكثير من كتب التراث الإسلامي، وهو الذي أشرف بداية الستينيات على أطروحة الدكتوراه لأستاذنا كامل مصطفى الشيبي في جامعة كمبردج، وكانت عن الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، والتي طبعت لاحقاً بكتاب حمل عنوان «الصلة بين التصوف والتشيع».

انها المستشرقة الألمانية أنَّا - أو آنه كما تكتب أحياناً - ماري شيمل التي عاشت قصة حب صوفية، يوم سلكت طريق الشرق منذ شبابها اليافع، وكرست سنوات عمرها للبحث في الأدب والفن والخط الإسلامي والزخارف العربية، والشعر الصوفي، لكنها تميزت عن غيرها من المستشرقين بأنها انغمست إلى حد كبير بعالم التصوف، بل وكرست حياتها الشخصية لمشروعها الاستشراقي ولنزوعها الصوفي الإسلامي الذي غير حياتها أكثر من أي شيء آخر وهي التي شهدت ظهور هتلر وصعود النازية في بلدها، مثلما شهدت افولها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. في كتاب سيرتها الذاتية « الشرق والغرب: حياتي الغرب- شرقية» الذي ترجمه عبد السلام حيدر ضمن المشروع القومي للترجمة في مصر وبدعم مادي من معهد جوته تتحدث شيمل عن طفولتها وصباها، والسنوات الأولى لما بعد الحرب، وحياتها في مدينة ماربورغ، وصولاً إلى العام 1952 حين انتقلت إلى تركيا أستاذة في كلية الإلهيات بأنقرة وزياراتها لإسطنبول وقونية مدينة جلال الدين الرومي، ثم عبورها إلى الجانب الآخر للأطلنطي لتشغل كرسي الثقافة الهندو- إسلامية في جامعة هارفارد الأمريكية، ومع أنها أمضت ربع قرن هناك، إلّا أنها تكتب: « رغم كل الأشياء الجميلة، ورغم النجاحات الكبيرة التي لم اتوقعها قط، ورغم كل الصداقات الرائعة، فإن الولايات المتحدة لم تصبح وطناً لي قط «، ذلك أن روحها منجذبة إلى الشرق منذ قرأت يوماً وهي مازالت صبية حكاية الحكيم الهندي والغلام المسلم التي تنتهي بالعثور على نعش أكبر ملوك العالم، وقد كُتبت عليه جملة أصابتها بما يشبه الصاعقة « الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا «. وفي عام 1941 أصابتها صاعقة ثانية باطلاعها على ديوان « المثنوي» لمولانا الرومي: « وحين أصبح الديوان بين يدي أصابني شيء مثل الصاعقة، وقد بقيت منذ ذلك مخلصة له، حججتُ كثيراً إلى ضريحه في قونية». وارتحلت «سيدة الاستشراق» كما تُلقَب، عبر الشرق فزارت بلداناً عربية كثيرة منها سوريا والأردن ومصر وتونس والمغرب والسعودية واليمن والكويت والبحرين، كما زارت بلدان وسط آسيا مثل باكستان وأفغانستان والهند واندونيسيا.

كانت أنَّا تحب أحياناً أن تستخدم اسم «جميلة» في بحوثها وكتاباتها، وهو اسم تدليل أعطاه لها أحد زملائها العجائز في برلين كما تقول، وفي زيارة لها لبيت أحد الأصدقاء الأتراك سألها سيد البيت : هل وردت الكلمة في القرآن؟. قلت: لا، فقط صيغة المذكر «جميل» في سورة يوسف «صبر جميل». وقد فُتنت جميلة بكل ما يمت للإسلام بصلة، وتأثرت عميقاً بالطقوس المولوية وما يرافقها من موسيقى تضعها في حالة من «نشوة الوصال»، مثلما ارتحلت كثيراً لتتقصى الموسيقى الفارسية الدينية، والموسيقى الهندية الكلاسيكية، والموسيقى الباكستانية الشعبية، وتصل إلى ينابيعها واصولها ومعانيها الروحية، فضلاً عن بحوثها وكتبها وتحقيقاتها التي يصعب حصرها، والتي أنجزتها منذ تأثرها الأول بالمستشرق المجري جولد تسيهر حين قرأت محاضراته عن الإسلام، ويوم وجدت نفسها في العام 1945 معتقلة في مدينة ماربورغ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قامت بإلقاء أول محاضراتها في الإسلاميات من أعلى حافة السرير في معتقل فيستفال هاوس!.

في ختام سيرتها الذاتية التي فرغت منها قبل وفاتها بعام واحد عن عمر ناهز الثمانين عاماً، كتبت : إذا متُ غداً، فقد عملتُ ما يكفي. وإذا ما أعطيت عشر سنين أخرى، فإن لديّ من العمل ما يكفي. ثم أتذكر شعار طفولتي « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «، وأنا أعتقد في البعث الذي لا نستطيع أن نصفه ولا أن نتصوره: وذلك حتى نُحلق ونختفي في الحب الأبدي.

لطالما تمنت «جميلة» أن تُقرأ سورة الفاتحة على نعشها، وقد تحقق لها ذلك في ختام القداس البروتستاني بمدينة بون يوم الرابع من شباط 2003 بعد أسبوع على وفاتها.

وعلى شاهدة قبرها نُقش بالخط العربي: « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «.

***

د. طه جزّاع

 

في المثقف اليوم