شهادات ومذكرات

علي حسين: سلمى الخضراء الجيوسي.. العيش في ظلال الكلمات

تغوص سفينتي في البحر، تغرقُ لا أنجّيها

صقيع الليل، ياويلي، يكدِّس ثلجه فيها

فلا تقرب

أنا الموت الذي يغشى

ذرى الأعماق، لا تقرب

أنا الموت الذي تخشى،

أنا الحزن القديم، أنا ارتعاش الخوف والعارِ،

أما جاءتك أخباري؟

سلمى الخضراء الجيوسي

كان على سلمى الخضراء الجيوسي، أن تعيش أكثر من حياة ليتحقق لها المضي في قائمة مشاريعها الطويلة، فحياتها كما وصفتها كانت " آلــة دائــرة لا تتـوقـف " . لكن السيدة التي كانت الضحكة تخرج من عينيها، ألقت اخيرا عصا الحكمة جانبتا لترحل بعد حياة مليئة بالكتب والبحوث وحب الشعر الذي تعلقت به منذ أن نشرت وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها ديوانها الاول " العودة الى النبع الحالم " – صدر عن دار الاداب عام 1960، وصفها النقاد بانها دخلت الشعر مسلحة بقوة متميزة وبطابع خاص .. الفتاة التي جربت كتابة القصيدة وهي في العاشرة من عمرها عندما نظمت قصيدة عن مقتل الملك غازي، ظلت تحتفظ بوصية والدها ان تكتب الشعر لتكشف الزيف والتمزق الذي يعيشه الانسان العربي، وأن لا تنسى انها ابنة شعب يُصلب كل يوم ومأساته تكبر يوما بعد آخر، هذه الاهداف هي التي قادت سلمى الجيوسي لتدخل عالم الشعر، تمنت في طفولتها ان تصبح روائية تعلقت بحكايات الف ليلة وليلة التي كانت تقرأها امها في المساء بصوت مسموع: " كنت عندما استمع للحكايات بصوت امي تطفح عيناي بالرؤيا " .لكنها ستنحاز في النهاية للشعر الذي ارادته أن يكون صوتا لماساة شعبها: " مادام هذا نذرنا فلنعشق المصير " - العودة الى النبع الحالم –، تنبأ لها النقاد ان تصبح في مقدمة الشعراء العرب المعاصرين، وانها بسبب ثقافتها ستكون " في طليعة الذين يقفون عند نقطة التحول في الشعر العربي، ويؤدون دورا عاما في هذا التحول " – خالدة سعيد مجلة الاداب –، فقد ادركت الجيوسي منذ البداية كثيرا من العناصر المهمة المميزة للشعر الحديث، وقد افادت كثيرا من تجارب الشعر العالمي حتى انها وصفت نفسها بانها وريثة الحضارة الانسانية . لكنها ستصاب بخيبة، فالشعرراح يسير بطريق مسدود، وكان لا بد لها ان تكتشف طريق آخر سيقودها اليه كتاب " الشعر والتجربة " للشاعر الامريكي الشهير أرشبيلد ماكليش، فقررت ان تترجمه الى العربية ليصدرعام 1963، ولتدرك من خلاله ان " عمل الشاعر ليس في الانتظار لكي تتجمع الصرخة من تلقاء نفسها في حلقة، بل إن عمله هو ان يتصارع مع صمت العالم ومع ما كان خلوا من المعنى فيه، ويضطره الى أان يكون ذا معنى، إلى أن يتمكن من جعل الصمت يجيب، وجعل اللاوجود موجودا . انه عمل ياخذ على عاتقه أن يعرف العالم لا عن طريق التأويل أو الايضاح أاو البرهان، ولكن مباشرة كما يعرف الانسان التفاح في فمه " – الشعر والتجربة ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي –، ظلت تؤمن ان الشعر يصنع لا من الكلمات، بل من الافكار، وهو يدعونا الى:" اكتشاف انفسنا فيه ووجودنا الذي رفض الاستسلام، بل اصر على البوح .. ونحن اذ نواجه انفسنا ونصادمها فلا شيء كالشعر يغوص ليكشف ما دفناه في اعماقنا عبر الزمن " – الجيوسي الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث ترجمة عبد الواحد لؤلؤة - .ولهذا كان لابد من العودة من جديد إلى الشعر لتصدر ديوانها الثاني " صفونا مع الدهر " عام 2021، فتجد نفسها من جديد تجلس قبالة الصورة التي تجمعها مع ادونيس ونازك الملائكة ومحمد الماغوط ويوسف الخال وفدوى طوقان، تتذكر جلسات الخميس التي كانت تقيمها مجلة شعر في الستينيات وحوارات الحداثة والحرية، وخلافاتها الودودة مع اقطاب مجلة شعر حول ضروة انتماء الشاعرلمحيطه:

نحن نهوى رملها المحموم والريح العنية

وبلاياها، ونهوى يتمنا فيها

ونرضاها مماتً

واليها سوف نمضي

كلما ضعنا مع الغربة نمضي

كلما ذلّ على اهدابنا كبرُ الحياة – من ديوان العودة الى النبع الحالم - وجدت في رباعية الاسكندرية للبريطاني لورانس داريل نظرة فاحصة للحب في الزمن الحديث، قررت ترجمتها الى العربية، لكنها توقفت عند الاجزاء الاولى من الرواية "جوستين" و"بالتازار"، قالت ان لورنس داريل جعلها ترى الحياة من زوايا مختلفة. تعلقت بالفلسفة وعلم النفس قرات فرويد ونيبتشه وافلاطون وتاثرت بكتابات عالم النفس الالماني اريك فروم فترجمت له " المجتمع المعافى " الذي نشرت منه فصول في عدد من المجلات .

تقول انها ولدت في يوم بارد ولا تزال برودة هذا اليوم تلاحقها عبر المدن التي عاشست فيها . كان مولد " سلمى صبحي الخضراء الجيوسي " في العاشر من كانون الاول عام 1926 في مدينة السلط الاردنية لأب فلسطيني وام لبنانية درزية، كانت الابنة الكبرى لعائلة تتكون من ولد وثلاث بنات . تتذكر ابوها المحامي الذي الذي رافق الامير فيصل الذي سيصبح ملكا فيما بعد، وكيف كان مغرما بقراءة دواوين الشعر العربي القديم وكانت الطفلة الصغيرة تتعجب من قدرته على حفظ الشعر وترديده اسماء غريبة مثل ابو العتاهية والمعري وابو فراس الحمداني والفرزدق، فيما كانت الأم تقرأ الروايات بالانكليزية وتجرب حظها في كتابة الشعر . من عائلتها الصغيرة تعلمت معنى ان يفتحر الانسان بعروبته، تقول انها تحزن كثيرا حين تكتشف ان الكتابة والنشر والترجمة حالت دون تكريس نفسها للعمل السياسي مثلما كان والدها الذي تقول انه كرس حياته لفكرة واحدة هي الدفاع عن الوطن .سترحل العائلة الى مدينة عكا مسقط راس الوالد، هناك تنهي مرحلتها الابتدائية والمتوسطة، ستتعرض الفتاة الصغيرة لاول صدمة في حياتها عندما يقتحم جنود بريطانيون منزلهم ليعتقلوا والدها، ولانها الابنة الكبرى فقد كانت تذهب مع امها لزيارة ابيها في المعتقل، هناك تنصت الى حديث المعتقلين عن ضرورة تحرر البلاد وطرد الاستعمار تشارك بعد ذلك باول مظاهرة وكانت في الحادية عشرة من عمرها . تسافر الى القدس لاكمال دراستها الثانوية، تتذكر ان والدها كان يرسل اليها وهو في السجن مصاريف المدرسة، تدخل الجامعة الامريكية في بيروت لدراسة الادب العربي، في بيروت تتعرف على يوسف الخال الذي يدعوها لجلسات مجلة شعر . تنشر اولى قصائدها، تتزوج من احد زملائها الذي يعمل في السلك الدبلوماسي، عام 1970 تحصل على شهادة الدكتوراه عن اطروحتها "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث".

مع التدريس والكتابة والتجوال في مدن العالم، وجدت ان المؤسسات الثقافية العربية لا تهتم بنقل الانتاج الثقافي العربي الى العالم، تقرر عام 1978 التفرغ لادارة مشروع اقامته جامعة كولومبيا لترجمة كتب الادب العربي، بعد سنوات ستصدر اول موسوعة للشعر العربي الحديث بالإنكليزية، عام 1980 تؤسس "، مشروع "بروتا" الذي هدفت، من خلال إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى الغرب عن الحضارة العربية. أُصدرت ضمن هذا المشروع اكثر من اربعين كتابا من بينها إحدى عشرة موسوعة، وكثيرٌ من الترجمات الشعرية والروائية والقصصية . وكان ابرز مشاريعها " الشعر العربي الحديث، " أدب الجزيرة العربية "،، "الأدب الفلسطيني الحديث"، " المسرح العربي الحديث"، " الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس"، " القصة العربية الحديثة"، تدافع من خلال مقالات في الصحافة الغربية عن حق الادباء العرب في الحصول على جائزة نوبل، تكتب تقريرا الى الاكاديمية السويدية عن اعمال نجيب محفوظ، وسيكون التقرير بمثابة شهادة اعتمدتها اللجنة في منح الاديب العربي الكبير جائزة نوبل عام 1988 . عام 1995، تعود الى مدينة والدها عكا، ثم تزور القدس بعد غياب لأكثر من خمسين عاماً، وهي تنظر الى شوارع مدينتها القديمة قالت للصحفيين " ما اراه مؤلم جدا" .

عن علاقتها بالكتابة والترجمة قالت انها تكتب من اجل ايقاض الذاكرة تكتب ضدّ النسيان" أكتب على أمل أن أترك أثراً ما" .

كانت سلمى الخضراء الجيوسي تبحث في نفسها عن كثير من الطرق والمسارات للتعبير، كانت المتعدد في الواحدة، فهي شاعرة وباحثة ومترجمة وناشطة، لم يكن ذهابها إلى الترجمة من باب الهروب من الشعر بل كان باب البحث عن منفذ جديد تقدم من خلاله خدمة للثقافة العربية، كتبها ومشاريعها حصدت كثيرا من الجوائز، وتدرس في الجامعات وتعرف إقبالا كبيرا لموضوعاتها المرتبطة أصلا بالثقافة العربية بكل اشكالها . في كفاحها اليومي من أجل صناعة مكان للثقافة العربية تحت الشمس في مجتمعات تهيمن عليها النظرة العنصرية والفوقية للنتاج الادبي العربي .

تكتب سلمى الخضراء الجيوسي بلغة انكليزية شفافة، وعربية شاعرية وبسرد ثقافي ينتمي إلى الشرق، مدركة أن أفضل جهد تقدمه هو جهدها في خدمة اثقافة العربية . على مدى حياتها التي تجاوزت التسعين عاما وضغت امام عينها عددا من الخطوط الحمر التي رسمت خارطة حياتها:

1- كل ما يتحدث عن الإقليمية وكأنها وضع نهائي: خط أحمر.

2- كل ما يتحدث عن أيّ تقسيم ولو لشبر من الوطن: خط أحمر.

3- كل ما يتحدث عن المذهبية: خط أحمر.

4- كل ما يعيق المرأة العربية عن دخول الحياة الحرة: خط أحمر.

5- كل ما يعيق الإنسان عندنا من الرؤيا الحداثية على كل صعيد: خط أحمر

في مساء يشبه مساء الولادة، ترحل سلمى الخضراء الجيوسي في العشرين من نيسان عام 2023، وتحقق امنيتها لتغمض عينيها في الاردن التي شهدت ولادتها، ونتذكرامنيتها في قصيدتها " الرحيل " التي نشرتها قبل اكثر من " 60 " عاما:

مازال في الثغر الرحيق وفي العيون وفي الدماء

اشواقها، ما زال في القلب التلهف والوجيب

وتوهج الذكرى، فدعني ارتحل قبل الغروب

والحب باق كيفما عبرت بنا سبل القضاء .

***

علي حسين

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم