شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: الصالونات الثقافية.. منابر تنويرية

ظهرت الصالونات الثقافية بشكل واضح منذ العصور القديمة حتى اليوم، وكلمة الصالون ترجع في أصلها إلى اللاتينية "salon"، وهو المكان الذي يستضاف فيه مجموعة من الشخصيات البارزة والمهمة، ليتبادلوا فيها مع العامة جوانب كثيرة، كالفكر، والمعارف، والفلسفة، والأدب، والآراء، ولهذا فهي نقاط إشعاع فكري، وثقافي، وأدبي متوهجة، وحاضنة لأجيال من المبدعين، وبؤرة لاهتمام صانعي القرار ومستقبليه على السواء.

ويعد الصالون الثقافي مكانًا لاجتماع العقول، وتبرز قيمته كأداة للتواصل بين المفكرين والأدباء والفنانين، حيث الاتفاق أو الاختلاف، واستخدام الكتب والمعرفة والحوار، كطرق يمكن من خلالها التفكير في مختلف جوانب الوجود الإنساني. وبما للتفعيل من قيمة جراء الالتقاء الفكري، فإن سياسة تبادل الأفكار واستكشافها، تعدّ عملية مزهرة لأي فكرة، وتتمركز كنقطة انطلاق مع التجربة الإنسانية.

والهدف من فكرة الصالون هو وضع مساحة من النقاش تكون مشتركة بين السياسيين، والأدباء، والمفكرين، والعلماء، وبين الخبراء؛ بحيث نصل إلى أرض معينة يمكن أن نصل فيها لحالة من حالات الحلول الإيجابية،والتي يمكن أن نفيد بها الدولة العراقية، وذلك من خلال مناقشة موضوعات ذات أثر بحيث نخرج منها بمداخلات قيمة جديرة.

إن الصالونات الثقافية لها دور كبير في نشر الفكر التنويري، وتعتبر مصدر إشعاع فكري، وثقافي، وأدبي من أجل إبداء الرأي والنقد بالطريقة البناءة، فأحياناً الجهود الأدبية بدخول الجماعة تستطيع أن تخلق مشاريع خلاقة يانعة، وأن الاهتمام بالأفكار وإن كانت بسيطة تنبت سنابل خضراء باحتوائها وصقلها، فعلينا أن لا نستهين بأي فكر إنساني، وإن كان صغيراً مادام يهدف للسمو بالثقافة، والآداب، والفنون.

تاريخيًّا، يعود ظهور الصالونات الأدبية إلى جذر المعرفة الإنسانية، فكان في الحضارات القديمة، آثار لنفس فكرة الصالون الثقافي، فعند الفراعنة تواجدت التجمعات التي يتم فيها الغناء وإلقاء الشعر. وكذلك عند البابليين. كما اهتم الإغريق بمثل هذه التجمعات الثقافية، حيث الالتفاف حول الغناء وقراءة الشعر في أماكن محددة. وفي العصر الجاهلي اشتهر سوق عكاظ، وقد كان منصة ثقافية عند العرب، وفي العصر الإسلامي ظهرت هذه الصالونات على شكل مجالس أدبية، حيث كان الشعراء يعتكفون ويجتهدون في مدح الملوك والأمراء، مثلما قام به "سيف الدين الحمداني" في مجلسه الذي كان يضم أبرز الشعراء كالمتنبي، وأبي فراس الحمداني، إلى جانب مجالس العصر الأموي كمجلس المأمون، ومجالس العصر العباسي، ثم يأتي مجلس الشاعرة "ولادة بنت المستكفي" في الأندلس، حيث تميزت بإنشاء صالوناً أدبياً يضم نخبة من الشعراء كابن زيدون، ولا يخفى علينا "عكاظ" الذي تناقش فيه جماليات القصائد والأشعار.

أما في أوروبا فقد نشأت حركة الصالونات الثقافية مع حركة النهضة في إيطاليا في القرن السادس عشر، دون أن يكون اسمها صالونات، بل كانت هذه الأماكن ترعى وتتبنى الحركة الأدبية والفنية على أيدي متنفذين وميسورين من الطبقة الأرستقراطية، مع العلم أن النساء آنذاك كن أكثر اهتماماً في قصورهن من الرجال في الحركة الأدبية والفنية.

وإذا بحثنا عن معنى "salone" بالإيطالية فهو يعني "غرفة الاستقبال" ومن بعد تطور حركة الصالونات في إيطاليا بدأت بالانتشار في فرنسا وكان هذا في القرن السابع عشر باسم "ruelle" وهو يعني الممر الموجود بين سرير تستلقي عليه سيدة أرستقراطية وجدار يجلس على كراسٍ بجانبه مجموعة من المفكرين والاُدباء ليتناقشوا ويتبادلوا الآراء والأفكار، ويعد أقدم صالون عرفته الوثائق التاريخية في فرنسا هو "فندق رومبيو"، القريب من قصر اللوفر في باريس.

والصالونات الثقافية كانت الركيزة الأساسية التي قامت عليها الثورة الفرنسية، من خلال صالونات "فولتير"، و"جان حاك روسو" وأخرين وهي التي عملت تحول جذري في العقل والمخيال الفرنسي، وكما قال " بول هزار" في كتابه "أزمة الوعي الأوربي" :" بأن الناس دخلوا في أول القرن الثامن عشر، وهو أول عصر الأنوار بعقول تسبه عقل " بواسيه" والذي يؤمن كل الأشياء موجودة في الكتاب المقدس ويدعو الناس لتطبيق أحكام العهد القديم والعهد الجدبد السمحة وستحل مشاكل العالم، ولكن المشكلة ليست في بواسيه، وإنما في رجل الشارع البسيط لديها نفس فكر بواسيه، إلى أن عملت أفكار فولتير وروسو في تغيير وعي الناس فأصبحت أفكار الناس هي نفس أفكار فولتير وروسو في آخر عصر الأنوار.

علاوة على أن تاريخ الحياة الثقافية في العالم العربي، وبالذات في مصر يوضح أن مفهوم الصالون الثقافي بمعناه الحديث، قد تشكّل مع نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فمازالت أسماء، مثل "مي زيادة" و"نازلى فاضل" وغيرهما، هي إشارات إلى ذلك النمط المتميز من الحوار الثقافي الفكري الذى كان يدور في عصرٍ رموزه هم: "العقاد" و"طه حسين" و"مصطفى صادق الرافعي" و"أمين الخولي" و"سلامة موسى" وغيرهم، في محاولة للتبشير بعقليات جديدة، حيث كان الشعار السائد الذى يرفعه كل صاحب رأى هو أن الاختلاف لا يفسد للود قضية.

ولهذا فإن الصالونات الثقافية هي وليدة اختيار ثقافي جاء نتيجة لعدة أسباب من ضمنها الظروف الاقتصادية التي تحول دون إنشاء هيئات ثقافية إضافية لعدم توافر المكان، وتعتبر الصالونات الثقافية ذات أهمية كبيرة وقد تتفوق على كثير من ندوات الهيئات الثقافية المعروفة، وذلك لأنها قد تكون بعيدة عن الطابع الرسمي ما يجعلها أثري وأغني وأصدق وتعبر عن الواقع بصورة أوضح وأفضل دون نمطية أو بروتوكولية ما .

علاوة على تلك الصالونات تعد حركة ثورية، ولكن ثورية ثقافية، ولعلها إن لم تكن مساوية للتغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فهي أهم في تغيير الوعي، والذي بدوره سيؤدي إلى تغيير الأوضاع والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن هنا كانت دعوة الصالون الثقافي العراقي بواشطن لأصدقاء في العراق وفي بلاد أخرى، أسبوعا لمناقشة موضوعات مختلفة في سائر فروع المعرفة الأدبية والعلمية والبيئية .

إن فكرة إنشاء الصالونات يجب أن يكون قائمة على المصلحة العامة قبل الخاصة، مع ضرورة وجود حركة نقدية بناءة في تلك التجمعات، كما يجب الانتباه بأن يكون دافع إنشاء تلك الصالونات ليس الوجاهة الاجتماعية ومحاكاة التسابق الحادث حالياً كموضة جديدة من موضات البروز الإعلامي، فيكون هذا الصالون مجرد منتدى هلامي لا يطرح رأياً ولا يطور وضعاً، بل المطلوب وجود فائدة وإثراء من قيام هذا الصرح التجمعي الفكري.

والصالون الثقافي نمط من المجالس التي يتحلق حولها بعض ذوى الاهتمامات المشتركة، يناقشون قضايا ذات اهتمام واحد تكون في مجملها مهمة لكل رواد الصالون، وتتصل بالشأن العام أو الأحداث الطارئة، وتعبير الصالون الثقافي ليس هو الوحيد الذى يشير إلى تلك الاجتماعات الدورية صغيرة العدد شديدة التأثير، إذ تحمل مسميات مختلفة، فقد تكون ديوانية عراقية أو جمعية أدبية عراقية أو بعض مجالس الصالحين إذا كانت ذات صبغة ديني.

والصالونات الثقافية تواجه مشاكل عديدة، وعلى رأسها القدرة على الاستمرار، ذلك بسبب المبادرة الفردية التي تتهيأ لها الأسباب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والزمانية والمكانية لتحققها واقعا لا حلماً لتزبل وتفتر فيما بعد، وتنتهي مع مرور الشهر والأعوام، وربما بموت الصالون مع فراق أصحابه وحملة شعلته للحياة، ولهذا فإن التحدي الأكبر للصالونات الثقافية هو القدرة على الاستمرارية نتيجة ظروف وصعوبات ومعيقات نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية من باب تقييد الحريات العامة حتى في عقر دارها.

والعبرة ليس بكل من أنشأ صالوناً ثقافياً، لكن بمن أثراه بالفكر والثقافة، فهو منبر فكري تعليمي لاكتشاف وصقل المواهب وتبادل الفكر والخبرات، وأن يتحلى القائمون على هذه الصالونات الثقافية، أن يضعوا في الاعتبار أن فكرة الإنشاء قائمة من أجل خدمة الصالح العام، وأن لا يكون الدافع هو الوجاهة الاجتماعية، حتى لا تتحول إلى ملتقيات هلامية لا تطرح رأيا ولا تطور وضعاً، بل سيكون وقتها يكون التسابق للبروز وللشو الإعلامي، غير أن الكارثة أنه لو تحولت الفكرة إلى هذا ستنضم قطعا إلى قائمة الأمراض التي تصيب المجتمع الآن، والتي تعد قطعًا جرائم في حق النفس والإنسانية، وأمراض تنهش في جسد المجتمع وروحه معاً.

فعملية بناء الوعى ضرورة حتمية، تبدأ بالمعرفة والإدراك التام والتثقيف الشامل والإحاطة بكافة التحديات المعاصرة، وما أقصده هنا، هو الوعى في إطاره الشامل المتكامل لا الاقتصار على الوعى الديني أو السياسي فحسب، إنما يمتد إلى مفهوم أوسع وأشمل لكل الجوانب الحياتية، وأن غياب الوعى قطعا يتسبب في انتشار أمراض مجتمعية نهايتها شهادة وفاة للمجتمع نفسه.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

في المثقف اليوم