شهادات ومذكرات

قاسم حسين صالح: مواقف وشخصيات.. لمناسبة تأسيس تلفزيون العراق

عملت في تلفزيون العراق في السبعينيات يوم كنت مذيعا في اذاعة بغداد. يومها كنت مشرفا على برامج الأطفال، حيث يعد عقد السبعينات افضل عقد لنوع وكم وجودة برامج الأطفال. واذكر اني رفضت نصا كتبته مقدمة برنامج (اسماء ومشاهير)، زوجها له نفوذ سياسي في التلفزيون، لأنه تضمن اسماء اجانب وطلبت منها تضمينه اسماء علماء ومشاهير عرب، فاشتكت عند المدير العام لطيف نصيف جاسم، فأجازه.. وبعد بثه مباشرة جاءه هاتف من جهة عليا يلومه. واذكر انه عقد اجتماعا لكبار العاملين في الأذاعة والتلفزيون، وحين دخل متوترا قال بالنص (شالله بلانه بها المؤسسة القذرة).

وفيه قدمت برنامج (استشارات نفسية) يهدف الى اشاعة الثقافة النفسية. على ان (حذار من اليأس) تلفزيونيا.. كان له حكاية خلاصتها ان الراحل مهند الانصاري طلب مني ان نلتقي المديرالعام صباح ياسين وبيده ورقة صغيرة مكتوب عليها (يحول برنامج حذار من اليأس الى التلفزيون) بتوقيع يوسف حمادي وزير الثقافة.. فاشترطت على السيد صباح ان النص الذي اكتبه لا يعرض على لجنة فحص النصوص.. فوافق مضطرا.

وأهم الاشخاص الذين عاصرتهم هو (محمد سعيد الصحاف) الذي كان يصطحبني معه الى استديو التلفزيون لتغطية اعمال درامية تلفزيونية صحفيا، بينها عمل أخرجه المخرج المصري المعروف ابراهيم الصحن.. فاقترح عليه حذف واضافة.. فشكره الصحن مقتنعا.. وطلب مني ان لا اذكرذلك في الريبورتاج الذي كنت اعده لأشهر مجلة في حينها (الأذاعة والتلفزيون). وكان الصحاف هو الوحيد الذي اثبت انه يستحق المسؤولية، فهو ذكي وحازم نقل الأذاعة والتلفزيون خطوات لاسيما الدراما التلفزيونية التي تراجعت الآن.

موقف.. لا ينسى

صار السيد الصحاف وزيرا للأعلام وتم تشكيل (لجنة رأي) بتوقيع الرئيس صدام حسين من اكاديميين ومثقفين كبار بينهم أنا نجتمع اسبوعيا برئاسته. وكنت انا الوحيد الذي اطرح رأيا مختلفا.. فنصحني الدكتور عبد المرسل الزيدي والدكتور محمد عبد الرزاق الدليمي بان لا (أرادد) الصحاف لأن " ما عنده مانع يعتدي عليك".. لكنني لم آخذ بالنصيحة.

وحصل ان طلب منّا تقييم اداء الاذاعة والتلفزيون وكان ذلك في تسعينيات الحصار.. وكانت حصتي تلفزيون الشباب (وأظن أن مديره كان السيد علاء مكي) فوجدت المخرج يضع اصبعه بداخل الجهاز.. سألته لماذا؟

- شاسوي استاذ.. برغي ماكو!

عقد الاجتماع برئاسة الصحاف وقدمت التقارير وجاء دوري فقلت:

- سيادة الوزير.. اذا يبقى الوضع هالشكل.. بعد سنتين ستتوقف الاذاعة والتلفزيون.. ورويت له ما شاهدت.

اجابني بحدّة:

- أخونه.. اليحب الوطن ما يعوفه!

وتمضي الايام.. ويأخذون السيد الصحاف بطائرة خاصة الى الامارات.. ويتصل بي الصديق الراحل دكتور عبد المرسل الزيدي العائد من لقائه في الامارات قائلا:

- دكتور قاسم لك سلام خاص من محمد سعيد الصحاف انقله بالنص:

(سلمنه على استاذنه الجليل دكتور قاسم حسين صالح)

فأجبته بميانة محب: دكتور مرسل.. انا ادري بيك تجذب.. وقبل ان اكمل اقسم انه ينقل الحقيقة.

وتوصلت الى الآتي:

ان سيكولوجيا السلطة في العراق عودت المحيطين بالمسؤول ان يقولوا له ما يحب ان يسمعه.. فيما انا كنت اقول له الحقيقة برغم خشيتي منه.. وأنه كان يقدّر ذلك في داخله.

ومن ابرز الأشخاص الذين تعرفت عليهم.. الراحلان بدري حسون فريد والدكتور عبد المرسل الزيدي.. والشاعر ابراهيم الزبيدي الذي اعجب بنص غنائي كتبته وغناه المطرب فاروق هلال بعنوان (بريسم اشكر كذلته تهفهف حبيبي، شامه عنبر والخد قرنفل حبيبي.. عيونه رحلة سندباد والرمش شاهد الرحله، اشما ازيد النظر بيهن يشدني شوك جديد احلى..) اشتهرت في حينها وكانت ضمن طلبات المشاهدين.

ومن اقرب الأشخاص كان الراحل كامل الدباغ في برنامجه (العلم للجميع) والمذيعان الراحلان غازي فيصل الذي التقيته في القاهرة قبل سنوات ونهاد نجيب الذي حضر اول مؤتمر للفنانين والأعلاميين الذي افتتحته في كلية الاداب 2003، والروائية لطفية الدليمي والأديب باسم حمودي ضمن لجنة الأشراف على برامج الأطفال.

والفضل للتلفزيون انني اجريت تحقيقات صحفية مع فنانين عرب: وديع الصافي، نور الشريف، صلاح السعدني، ليلى طاهر، فردوس عبد الحميد. وفنانين عراقيين: عفيفة اسكندر، محمد القبنجي الذي بنى جامعا وشكا من ابنه (قاسم) لأنه كان (شيوعي)، ومائدة نزهت زوجة الفنان وديع خوندة التي زرتها في بيتها وجاءتني (لابسه ابيض بأبيض) لأنها كانت تؤدي صلاة المغرب وتنوي حج بيت الله الحرام، وطلبت مني أن اتوسط لها عند الصحاف ليوقف بث اغانيها، فلاطفتها قائلا: سافعل شرط ان تبقى اغنية (شوفي داده شحلاته!). واكتشفت في هذا العالم معنى الجمال وفنون الحب وقيمة الكلمة وسلطة الصحفي في قول الحقيقة.

وكانت آخر مرة احضر فيها للتلفزيون، قبل اشهر في حوار مع الأعلامي المتميز والمحاور الذكي.. عباس حمزة في برنامجه (الطريق) الذي فجعنا برحيله.

الرحمة لمن رحلوا وتركوا الأثر الطيب، والتحية للأحياء منهم الذين يتحسرون الآن على أيام زمان.

***

د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم