شهادات ومذكرات

جواد غلوم: بابلو بيكاسو ومواطنه الحلاّقُ الاسباني

"حين تتسامى الروح الوطنية وتصل الى منتهى النبل"

تعرّف الفنان والرسام العبقري بابلو بيكاسو إلى حلاّقه الخاص يوجينيو أرياس في سنة / 1944؛ وخلال إقامته المديدة بباريس. ونشأت صداقة عميقة بينهما امتدت لأكثر من خمس وثلاثين سنة، وظلت هذه العلاقة قائمة حتى وفاة بيكاسو سنة 1973. فالحلاق من أصل اسباني مثل بيكاسو ويعيش مغترباً فى فرنسا. وكان يرفض رفضا قاطعا أن يتقاضى أجرا عندما كان يحلق ويعتني بطلعة وشَعر صديقه، فكان الرسّام يكافئه بأن يهديه بين فترة وأخرى بعض لوحاته وخزفياته ومنحوتانه وشيء من تخطيطاته إكراما له على صنيعه والاهتمام به وتعاطفه مع مواطنه.

وكانت حصيلة ما جمعه الحلاق بهذه الطريقة / 60 لوحة من لوحات بيكاسو عدا بعض الرسومات والتخطيطات والخزفيات الحرفية والملصقات بريشة وأنامل بيكاسو موقّعة من قبله.

وبعد وفاة هذا الفنان العبقري؛ ظنّ جامعو اللوحات والمتاجرون بها ان ينجحوا بالاستحواذ عليها وإغرائه ماليا لمساومة هذا الحلاق وطمعه بالمال لاقتنائها.

كما سارعت المتاحف العالمية الكبرى تعرضُ على الحلاق ملايين الدولارات لشراء هذه اللوحات والمقتنيات الفنية الاخرى، لكنه رفض هذه الأغراءات المالية الهائلة رغم فقره وعوزه فهو ابن رجلٍ من فقراء أسبانيا كان يعمل خيّاطا بسيطا وأمٍ قروية راعية للمواشي.

ماذا فعل بهذا الكنز الفنيّ الذي قدّمه له صديقه بابلو؟

قدّمها إلى قريته الأسبانية الصغيرة القريبة من العاصمة مدريد المسماة: Buitrago del Lozo . لقد وهبها لوطنه وقريته

وهكذا ضحّى بملايين الدولارات التي كان يمكن ان يحوزها لكنه صمم أن يرفع من شأن قريته ووطنه ويجعل منها مقصدا سنويا للملايين من عشاق بيكاسو، فساهم في خلق نشاط اقتصادي وسياحي كبير لهذه القرية وأهليها.

وبدلا من أن يحقق ربحا شخصيا له بإقامة متحف يحتوي هذه اللوحات والمقتنيات النادرة لكنه فضّل أن يكون بلده وقريته مقصدا للسياح من كل أنحاء العالم.

وحين توفي حلاق بيكاسو في العام / 2008

وقد ودّعته بلدته الصغيرة وأسبانيا كما يُودَّع الأبطال، ولم يزل متحفه الذي أفتتح في العام 1985 والمسمى "متحف حلاق بيكاسو" مفتوحا في قريته. وقد تحولت هذه القرية الإسبانية الصغيرة إلى أهم الأمكنة السياحية في اسبانيا وليجعلها مثل قرية الجورنيكا التي تعرضت للقصف الشنيع من جانب النازية بالتنسيق والتعاون القذر مع الفرانكوية وقد جسّد بيكاسو تلك البشاعة إثر حلم رآه في منامه أفزعه ورسّخ كل ما هو شرير بهذه اللوحة العظيمة " الجورنيكا "، إذ تحوّل حلاّقنا أرياس الى أشهر وأنبل حلاقي العالم بعدما كان منسيّاً ككلّ الفقراء.

هو ذا النبل الذي يسكن الروح، إنه أكبر من كل الشهادات الأكاديمية.وهو أثمن من كل الاموال المودعة بالبنوك والقصور والسيارات الفارهة إذ ان شرف المواطنة الحقّة هو ما يصنع قيمة الانسان لو كان يعلم الاثرياء وجامعو المال.

أي نبل واية صداقة راسخة تعمقت بين هذين المواطنين الاسبانيين الصديقين.

متى نجد مثل هذين الصديقين ذوي الرفعة الوطنية العالية في سموّها بين ظهرانينا؟

***

جواد غلوم

في المثقف اليوم