شهادات ومذكرات

ناجي ظاهر: الكاتب سهيل أبو نوارة.. ابن الناصرة المنسيّ

"زغرودة الأرض" أبرز أعماله

عاش الكاتب الراحل سهيل أبو نوارة (1940 ـ 2016)، حياته بين النور والعتمة. كان نجمه قد لمع في أوائل السبعينيات بعد نشر مجلة "الجديد" الحيفاوية ذائعة الصيت لمسرحيته الرائدة «زغرودة الأرض». وبعد إنتاج المسرح الحديث لها وعرضها على خشبة المسرح في أكثر من قرية وبلدة، انتشرت في ربوع فلسطين، وإصداره لها بعد خمسة أعوام من كتابتها في كتاب. بقي سهيل طوال أيام حياته وسنواتها يحلم بمواصلته لزغرودته من دون طائل، إلى أن خبا نجمه وانطفأ.. قبل سبع سنوات.

لقد رحل سهيل أبو نوارة وسط صمت مريب ولم ينشر عنه بعد رحيله سوى مقالة عادية وخبر قصير، أهم ما فيه تُقبل التعازي في قاعة كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس في الناصرة من اليوم التالي لوفاته حتى ثلاثة أيام.

سهيل أبو نوارة لم يكن اسمًا عابرًا في حياة الحركة الأدبية في مدينتنا، أنا وهو، المشتركة الناصرة، فقد كان كاتبًا حقيقيًا حمل هموم مجتمعه طوال حياته وانشغل بها في كتاباته ورسوماته الثرية حتى يومه الأخير، ومع هذا لم يكن سهيل معروفًا لدى الكثير من الناس، الأمر الذي يُجدد طرح السؤال الخالد عن الأهمية والشهرة، فقد كان سهيل كاتبًا مهمًا ولم يكن مشهورًا، وقد كان كما عرفته يؤمن بأن كتابته وإنتاجه هما ما يفترض أن يقدماه للآخرين وليس علاقاته الشخصية التي يطويها الزمن بانطواء العمر، بمعنى أن سهيلًا آمن بأن نتاجه هو سفيره إلى العالم وليس العكس.

ولد أبو نوارة في مدينة الناصرة عام 1940، لعائلة عرف ابناؤها بعشقهم للفن وعوالمه الرائعة، فأمه الفنانة مريم أبو نوارة، واحدة من رواد الحركة الفنية في الناصرة، وقد انشغلت طوال أيام عمرها برسم المناظر الطبيعية الخلّابة لبلادنا، وأخوه رمزي أبو نوارة عاشق متيم بالكتب وقد افتتح بالتعاون مع جوني جهشان وطوني سروجي مكتبة أطلق عليها اسم علي بابا وكان مديرًا لها منذ أواسط الثمانينيات حتى إغلاقه لها بعد سنوات من خدمتها لحياتنا الثقافية في الناصرة، وهو مؤلف مجموعة قصصية حملت عنوانًا لافتًا هو "نص راوي" وواضح هنا أنه يتلاعب بكلمة الناصرة ليبعث فيها حركة إبداعية لافتة. وابنة أخت سهيل الفنانة عبير زيبق معروفة لدى الكثيرين وأصدرت كتابًا بحثيًا عن المسرح في بلادنا. وقد عاش سهيل جُلّ أيام حياته قارئًا وكاتبًا ومفكرًا في عالمنا وأسراره الغامضة. وكان في حياته هذه أشبه ما يكون بالفيلسوف اليوناني القديم انباذوقليس الذي أطلق عليه لقب المُعتم لشدة غموضه، ومَن يشاهد ما خلّفه سهيل من لوحات فنّية يلاحظ أنه عاش فعلًا حياة غلبت عليها العتمة وامتدت على جُلّها.

تعرّفت إلى سهيل في أوائل السبعينيات، بعد نشره مسرحيته "زغرودة الأرض"، وإعادة مجلة «الطريق» اللبنانية نشرها. في البداية سارت علاقتنا متعثّرة، وما لبثت أن تطوّرت وانطلقت في أفق احتضنها بحنو حتى اليوم الأخير من حياته.

أتذكر الآن وأنا أستعيد شريط ذكرياتي معه كيف دعاني أكثر من مرة إلى بيته القائم في الطرف الشمالي الجنوبي لبلدتي الأثيرة الناصرة، وكيف استقبلتني والدته الفنّانة مريم أبو نوارة بحفاوة أم نصراوية، ألفت ما للاستقبال الحسن من أهمية تبعث الدفء في الضيف الزائر. وأذكر أنني كتبت عنها في حينها مقالة قدّمتها فيها إلى الحياة الفنية، كفنانة تجاوزت السبعين من عمرها وما زال خافِقُها منجذبًا إلى بلادها وبلداتها لتبدع في رسمها للمناظر الفتانة.

كما أتذكر تلك الجلسات التي لا تنسى في مكتبة علي بابا، في الغُرفة الداخلية الصغيرة وعلى مقاعدها المعدودة، وفناجين القهوة التي لا تفرغ إلا بانتهاء الجلسة. هناك في تلك الغرفة الصغيرة داخل المكتبة التقيت بالعديد من فناني بلدتي الذين ستربطني بهم علاقات مودة وتقدير متبادل حتى هذه الأيام، أذكر منهم وأرجو ألا أنسى أحدًا: داوود حايك، بشارة مطر، فكري بطحيش، والأصدقاء رايق رزق ولويس شوفاني وغيرهم. في السنوات الأخيرة تكثفت اللقاءات بسهيل وبقية الأصدقاء وكنّا عادة ما نلتقي في هذه الفعالية الأدبية الثقافية أو تلك مما تقيمه هذه المؤسسة أو تلك في بلدتنا من نشاطات. وأذكر هنا والآن.. وأنا أتحدث عن سهيل بعد رحيله لحظة اقترب مني عام 2008 وهمس في أذني أثناء لقاء لنا في المركز الثقافي البلدي، قائلًا: لقد مات. وسألته هامسًا: مَن؟ فردّ بصوت خفيض: محمود درويش. يومها لمعت في عينيه دمعة أشعر الآن بدمعة مثلها تلمع في عينيّ.

لقد عانى سهيل في سنواته الأخيرة من الإهمال، لا سيما عندما بدأت المياه الزرقاء تقتحم عينيه وتنشر الحزن في حياته وتمنعه بالتالي عن قراءة الكتب التي كانت الأجمل والأمتع في حياته، خاصة قراءة مؤلفات الكاتب اليوناني الرائع نيكوس كازنتزاكي، لا سيما كتابه عن "الحرية".

لقد لفتني إلى سهيل طوال علاقتي به أمران هما توقده الفكري ورغبته في العطاء، فيما يتعلّق بالأمر الأول أقول إنه كان حكيمًا يرى أكثر مما يراه آخرون، وكان يرى أن المشكلة الحقيقية التي يعاني منها الإنسان المُبدع تكمن بينه وبين نفسه، وكان بناء على هذا يرى أن السلام يبدأ بين الإنسان ونفسه، بل أكثر من هذا كان يرى أن مشكلة الشعب، أي شعب، هي في بنيته الخاصة وليس في العوامل الخارجية التي تتهدده حينا بحق وأحيانا بدونه. كان سهيل بوضوح وإيجاز يؤمن بأن "سوس الخشب منه وفيه" وأن إصلاح البيت يجعله قويًا وقادرًا على مواجهة أعتى المصائب والظروف. أما على مستوى الرغبة في الإبداع والإنتاج، فقد كان كلّما ذكر زغرودته الرائعة للأرض يقول إنه سيقوم بتأليف عمل إبداعي كبير لم ترَ المنطقة العربية مثيلًا له، وقد كرّر قوله هذا الكثير من المرات وليته انتقل من القول إلى الفعل.. فأضاف إلى زغرودته الخالدة أختًا لها تضيف الكثير إلى حياتنا الثقافية عامة والمسرحية خاصة.

كتب سهيل في حياته كما قال لي العديد من الأعمال الأدبية، منها رواية وقعت في 700 صفحة، لم يتمكّن من نشرها فبادر إلى اخراجها من صندوق وضعها فيه وأشعل النار فيها حزنًا وغضبًا، وقد شعرت بنغمة أسى تجتاح كيانه وهو يتحدّث لي عن إحراقه هذه الرواية التي كانت ستخلّده لو تمكن من نشرها وترجمتها إلى لغات أخرى. مختصر القول إن سهيل كتب الكثير ونشر القليل.. وتبقى "زغرودة الأرض" هي عمله الأول والأخير الكبير وأعتقد أنها تكفي لتخلده ولتدخله إلى ديوان المسرح في بلادنا.

تروي حكاية سهيل أبو نوارة مع المسرح قصة الكتابة المسرحية في بلادنا على أكمل وجه، فقد عاش سهيل شأن الكثيرين من محبّي المسرح والكتابة له، حالمًا بالكتابة للمسرح من دون أن يتمكّن من الوصول إليه كما يريد هو لا كما يريد آخرون. وكثيرًا ما كان يقول لي ولآخرين من الأصدقاء إنه يفضّل حريته واستقلاله على أن يكون خاضعًا لآخرين أيًا كانوا. لهذا هو لا يريد أن يقدّم إنتاجه بأي شكل، ويوجد لديه العديد من هذه الشروط في مقدمتها احترامه كإنسان وتقديره كمبدع. شخصيًا لا أعرف الظروف التي تم خلالها تقديم المسرح الحديث لمسرحية "زغرودة الأرض"، إلا أنني فهمت، مما أوحى به صاحبها في أكثر من لقاء ومكالمة، أن تقديم هذه المسرحية تمّ بالتعاون بينه وبين المسرح مُقدّمها عبر النص المكتوب والارتجال، وعليه أعتقد أن عدم تعاون المسرح الحديث ذاته في مسرحية سهيل الثانية" بيت الرجال" ترك أثرًا مُرّا عليه وعلى عطائه المسرحي.

خلال التحدث عن قصة سهيل مع المسرح لا بد من الإشارة إلى أن مسرحية الزغرودة قُدّمت على الخشبة الذهبية مرتين الأولى في السبعينيات والثانية بعد ثلاثين عامًا وقد قدّمها في هذه المرة الثانية مسرح الميدان، بعد أن أسس لها رؤية مسرحية خاصة، أشعرت صاحبها بأن مسرحيته انحرفت، او حُرفت عن هدفها، وقُدمت بشكل لا يريده لها ولم يقصده أساسًا، فثارت ثائرته.. اعترض واحتج ووصل إلى قاعات القضاء.. وانتهت حياته والقضية ما زالت مستمرة.

كان سهيل دائم الشكوى من عدم دعم المؤسسات الاجتماعية الثقافية، خاصة البلديات، له ولزملائه الكتاب والفنانين، وقد عاد وكرّر هذه الشكوى العديد من المرات ولا أذكر أنه حصل على أي من المساعدات المؤسساتية، وأن كلّ ما طاله وحصل عليه، كما فهمت منه، لا يعدو وعدًا قطعته مؤسسة في رام الله على نفسها ونفذته بصورة محدودة جدًا.. ويطرح السؤال الآن في الذكرى السابعة لرحيله .. هل تبادر إحدى هذه المؤسسات إلى انصافه والاهتمام به وبإنتاجه عبر تقديمه للأجيال الراهنة والمقبلة؟

***

كتب: ناجي ظاهر

......................

* تصادف هذه الأيام ذكراه السنوية السابعة.

في المثقف اليوم