شهادات ومذكرات

مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (36): جون ناش

(1928 –2015) John Nash

جون فوربس ناش عالم الرياضيات الذي فاز بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 1994 ولم يكن اقتصاديا! كما فاز بجائزة أيبل Abel الخاصة بحقل الرياضيات، وهي الموازية لجائزة نوبل والتي تمنحها اكاديمية العلوم النرويجية منذ 1899 ، تكريما لعالم الرياضيات النرويجي البارز نايلز أيبل  Niels Abel (1802-1829).  كانت جائزة نوبل في الاقتصاد تكريما وعرفانا لمساهمة ناش الرائدة في نظرية اللعبة  Game Theory   التي فتحت آفاقا جديدة وهامة في النظرية الاقتصادية واحدثت ثورة عظيمة في تطبيقاتها في اغلب جوانب حقل الاقتصاد. أما مساهماته في الرياضيات النظرية البحتة فشملت عدة زوايا كانت قد اُعتبرت فتحا مبينا في نظريات الجبر الواقعي والهندسة التفاضلية والمعادلات التفاضلية الجزئية. في وصف لأهمية منجزات ناش في الرياضيات وفائدتها الكبيرة في علم الاقتصاد، قال البروفسور روجر ميرسن من جامعة شيكاغو " لقد كانت مساهمة ناش في النظرية الاقتصادية مثل اكتشاف الـ DNA لعلوم الاحياء والوراثة والتحقيقات الجنائية".

كان ناش يحمل صفات العبقرية الواضحة. فخلافا  لأغلب المتفوقين في شتى حقول المعرفة الذين غالبا ما تثمر جهودهم بعد ان يقطعوا شوطا طويلا في دراستهم وخبرتهم العملية، وبعد ان يتراكم مخزونا كبيرا من معارفهم وتجاربهم، تفجرت عبقرية ناش وهو مايزال طالبا في الدراسات العليا في جامعة برنستن بعمر 20 عاما.  وما حصل عليه من اعتراف علمي عالي المستوى بحصوله على جائزتي نوبل وأيبل كان، في الحقيقة،  عن ابداعه العلمي في ذلك العمر المبكر. وذلك ما جعله واحدا من اهم علماء الرياضيات في القرن العشرين. لكن ذلك التفوق المبهر والانتصار العظيم لم يأت سهلا ولم يمر بسلام! فقد كانت حياته اللاحقة لتلك الفترة المبكرة من عمره حياة تراجيدية بكل معنى الكلمة. وكذلك كانت نهاية حياته.

ولد جون ناش عام 1928 في مدينة بلوفيلد في ولاية فرجينيا الغربية، وهو الطفل الاول لطفلين في العائلة كانت ثانيهما اخته مارثا. كان والده مهندسا كهربائيا يعمل لصالح شركة أبلاشيان الكهربائية الكبرى الشهيرة. وكانت والدته معلمة مدرسة بشهادة جامعية. منذ عمر مبكر ظهرت على سلوك جون مظاهر الذكاء الحاد والميل نحو التعلم واغتراف المعرفة. فحين كان اقرانه يلعبون في حدائق البيوت والملاعب العامة، كان جون يجلس في مكتبة والده ويقرأ كتب الكبار، ولم تلمس يداه كتب الصغار. كانت والدته مهتمة بتنمية هذه الامكانية الجميلة لديه، فكانت تعطيه دروسا اضافية تمكن من خلالها من القفز الى مراحل مدرسية اعلى. كما انه حصل على نفس الفخر والتشجيع من والده الذي كان يحثه على دراسة الكتب العلمية ويوفرها له. فعندما كان  صبيا أكمل جون قراءة موسوعة كومبتن Compton Encyclopedia وفي سن 14 قرأ كتاب المختصين الموسوم "رجال الرياضيات" الذي ألفه إي تي بيل. كما انه استطاع ان يبرهن احدى المسائل الرياضية التي اوردها الكتاب والعائدة للعالم الفرنسي پيير فرمات Pierre Fermat الذي عاش في القرن السابع عشر.

أكمل جون تعليمه في المدارس المحلية العامة فكان متقدما على اقرانه.  وفي المرحلة الثانوية حثه والداه على اخذ دروس اضافية في الرياضيات المتقدمة والتي اخذها فعلا واكملها بتفوق، فكانت سببا لحصوله على منحة دراسية كاملة من معهد كارنيگي التكنولوجي في پتسبرگ الذي حصل منه على شهادتي البكالوريوس والماجستير في الرياضيات بتفوق وفي نفس الوقت. کان ذلك عام 1948.  وهكذا فحين اراد اكمال الدكتوراه، تنافست على قبوله افخم خمس جامعات في البلاد، وهي هارڤرد وبرنستن وستانفورد وشيكاغو وميشگن. أراد ان يذهب الى هارڤرد لكنه استقر أخيرا على برنستن لسببين: الاول ان عرضها له كان الاكثر كرماً من بقية العروض، وثانيا لقربها نسبيا الى مكان سكن العائلة. وهكذا فقد كتب استاذه المشرف في كارنيگي رسالة توصية فريدة، كان قوامها جملة قصيرة واحدة فقط :  " السيد ناش رجل عبقري"! فاصبحت تلك الرسالة حديث الجامعة في وقتها.

في عامين فقط، أي في عام 1950 حصل ناش على شهادة الدكتوراه بموضوع جديد أحدث تغييرا جذريا في طبيعة حل المشكلات الاقتصادية وقابلا للتطبيق في شتى ميادين الاقتصاد وفي العلوم الاخرى. كانت رسالته بعنوان " الالعاب غير التعاونية، Non-cooperative Games” بواقع 28 صفحة فقط، وذات المحتوى الذي  اصبح جوهر نظرية اللعبة وقلبها النابض.  ولابد للاشارة هنا بأن تعبير اللعبة او الالعاب يعني حالة المواقف التنافسية بين طرفين عندما يسعى كل منهما الى احراز افضل مايمكن من نتائج ضد المقابل،  واعتمادا على تخمينه بما سيفعل الطرف الآخر. وهي بهذا المعنى تشبه لعب الشطرنج والبوكر وبقية الالعاب التنافسية الاخرى التي تتطلب من اللاعب ان يحسب خطواته ويتخذ القرار الملائم طبقا لتخمين الخطوة التي سيتخذها اللاعب المقابل.   قام ناش هنا بالتمييز بين الالعاب والستراتيجيات المختلفة. فهناك الالعاب التعاونية Cooperative Games التي يتفق خلالها اللاعبين على بعض القواعد والمحددات والشروط الخاضعة للتطبيق من اجل خدمة اللاعبين، كل من مصلحته الخاصة، وسواء كان الاتفاق علنيا ام ضمنيا. وبالعكس من ذلك فالالعاب غير التعاونية Non-cooperative Games  هي التي لايمكن معها تطبيق مثل تلك الاتفاقات بين اللاعبين. كما قدم ناش مفاهيما جديدة وصاغ براهينها الرياضية وبهذا فقد وسع واكمل ما لم ينجزه من قبله رائدا نظرية اللعبة،  نيومن ومورگنسترن، اللذان نشرا الكتاب الاول بعنوان "نظرية الالعاب والسلوك الاقتصادي" عام 1944.

تُعرّف نظرية اللعبة بانها دراسة النماذج الرياضية التي تمثل الكيفية التي تتعامل بها الاطراف العقلانية المتنافسة من اجل تحقيق الحلول المثلى والمكاسب الاكبر لكل طرف من منظوره الخاص، مع الاخذ بنظرالاعتبار ما قد يتخذه الطرف الاخر من خطوات. وهي بهذا تكشف دينامية التعارض الانساني في السعي للوصول الى القرار الامثل الذي يضمن افضل النتائج من منظور المنفعة الخاصة بالطرف المتنافس. وقد اثبت الزمن ان لهذه النظرية تطبيقات عديدة في الحياة العملية، خاصة في العلوم الاجتماعية والعلوم العسكرية والمنطق وعلوم الكومبيوتر. وقد استخدمت بكثافة في حقل الاقتصاد، خاصة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فقد رأينا تطبيقاتها المثمرة في عالم التجارة كمفاوضات الشركات، والاضرابات العمالية، وسباق الانتاج والبيع والاعلان، وحرب الاسعار والاجور، وكذلك في سياسات الدولة النقدية والمالية وسياسات التصدير والاستيراد، وحتى في تنظيم الحملات الانتخابية.

بعد نيل الدكتوراه، عمل ناش في التدريس في برنستن لمدة سنة واحدة ثم التحق ببرنامج ما بعد الدكتوراه في قسم الرياضيات بجامعة MIT  للتدريس والبحث، كما عمل في نفس الوقت مستشارا لمؤسسة راند Rand Corporation..   كان عمله باهرا في MIT   مما نتج عن اكتشافات كبيرة في حقل الهندسة التفاضلية والمعادلات التفاضلية الجزئية. وفي هذا الوقت  ارتبط بعلاقة عاطفية بفتاة اضافت الى حياته لونا وطعما آخرا كان بحاجة اليه. لكن ذلك الهدوء والسلام والنجاح المتواصل  لم يدم فقد بدأت الغيوم السوداء تتلبد في سماء نجاحاته الكبيرة. كان ذلك الطموح المتأجج والمنافسة الشديدة والسعي المحموم للوصول الى القمة،  يضاف لها متاعب العمل المتواصل ومشاكل القسم والمخاوف والرعب الذي صنعته الپارانويا السياسية ايام الحرب الباردة، خاصة وانه كان قد تورط في قضايا التشفير ضمن عمله في مؤسسة راند المتخصصة بعقود وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية، وفوق ذلك كله فان صديقته اصبحت حاملا بطفلهما مع رفضه الشديد للانجاب في ذلك الوقت. كل تلك المتاعب قد تراكمت وهيأت الظروف المؤاتية للانهيار العصبي الذي غالبا مايكون له استعدادا وراثيا لا يظهر للعيان الا خلال الازمات الكبرى. بدأ سلوك ناش الغريب يظهر جليا ليس فقط في البيت انما في العمل ايضا. فهاهو يبدو مضحكا في قاعة الدرس ويهمل واجباته وينسى موعد دروسه. في هذه الاثناء انفصل عن صديقته الحامل وتركها تدبر حالها، وبحلول عام 1957  ارتبط بفتاة اخرى كانت في قسم الفيزياء والتحقت مرة باحد دروسه.  لم تستطع هذه العلاقة الجديدة الجميلة ان تخفف من وطأة مشاكله. هنا بدأ واضحا انه يعاني من اختلال عقلي. فقد طرد من العمل في مؤسسة راند واضطر ان يستقيل من عمله في MIT، فعادت به صديقته الجديدة أليشا الى برنستن حيث حصلت على عمل لتعيل العائلة، واصبحت زوجته وأم لطفله.

في برنستن لم تتحسن أوضاع ناش الصحية.  فبحلول عام 1959، اخذ الشاب الالمعي بعمر الثلاثين ينحدر عميقا الى عالم الاوهام والتصورات والمخاوف حتى انه شُخص الآن سريريا كمريض بالشيزوفرينيا الارتيابية.  كان الخبر صاعقا لاسماع أليشا وشكل ضغطا لايحتمل بالنسبة لها حيث عليها ان تعمل في البيت وخارجه وترعى الطفل واباه.  كان جون ناش يذهب كل يوم الى رواق فاين حيث قسم الرياضيات في برنستن. يطوف في ارجاء القسم والكامبس يكلم نفسه ويهذي بلغة رياضية، منعزلا لايلتقي بأحد ولا يكلم أحد، ويبقى على هذا الحال الى ساعة متأخرة من النهار. حينها يذهب الى الصفوف ويملأ السبورات بمعادلات رياضية مزدحمة لايستطيع احد ان يتابع منطقها. مع هذا الحال المزري اضطرت أليشا وبنصيحة الاصدقاء والمعارف ان تطلب احالته الى مستشفى الامراض العقلية رغم عناده ومعارضته. كانوا يدفعونه الى سيارة الاسعاف موثوقا وبمساعدة ثلاثة او اربعة رجال،  بينما تغرق أليشا بالدموع.  بعد ذلك يبقى في المستشفى لعدد من الاسابيع ثم يخرج موقتا لأيام ليعود لها مرة اخرى.

في عام 1963 اضطرت أليشا ان تطلب الطلاق لكنها لم توقف رعايتها للرجل الذي احبته بصدق.  في احدى المرات كلف محاميا لاخراجه من المستشفى بأمر قضائي، واستغل الفرصة للهرب الى أوربا ومحاولة اسقاط جنسيته الامريكية. وبعد ان علمت أليشا انه سافر الى باريس ولكسمبورگ، لحقت به الى هناك وتمكنت من ان تطلب مساعدة السفارة الامريكية لتسفيره الى الولايات المتحدة والى المستشفى من جديد. تشير السجلات الرسمية انه امضى في المستشفى الجزء الاعظم من الفترة بين 1959 و1970، خاضعا لتكهنات الاطباء ومستسلما لعلاجاتهم التجريبية التي اثبت العلم والزمن فيما بعد بطلانها ووحشيتها.  من هذه الطرق العلاجية التي تعرض لها ناش بكثافة هي المعالجة بصدمة الانسولين الذي كان يُحقن به خمسة ايام في الاسبوع ولمدة شهرين متواليين. بموجب هذه الطريقة، يعطى المريض حقنات الانسولين ذات الجرعات العالية التي تسبب انخفاضا كبيرا في  منسوب السكر في الدم فتؤدي الى مايشبه الكوما التي تستمر ساعات او ايام،  يفيق بعدها المريض وهو مشوش العقل ومختل التوازن وفاقد الذاكرة. اعترف ناش فيما بعد بأنه فعلا فقد كل ذاكرته في سنوات الطفولة والصبا. وبسبب ذلك كان يشعر بالعدم. في تلك الفترة كتب احد الباحثين رسالة الى ناش يطلب فيها رخصته لاستعمال احدى نتائج ابحاثه، فرد عليه ناش قائلا. استخدم ما تشاء وكأنك تستعير من ميت!

كان عام 1970 نهاية تجربته مع مستشفيات الامراض العقلية فقد اقتصر علاجه بعد ذلك على مايصفه له الاطباء من أدوية. كان تحسنه بطيئا استغرق عقدا ونصف وكان عاطلا وكئيبا وليس له من يأويه. وهنا دعته أليشا ان يعود ليعيش معها كنزيل وستتكلف بمسكنه وطعامه ومتابعة علاجه. وهكذا بدأت هذه الرعاية المخلصة تعطي نتائجها بتحسن ملموس على صحة ناش . وابتداءً من عام 1985 بدأت عليه علامات الرجوع الى الحياة الطبيعية. وفي عام 1987 اعاده قسم الرياضيات في برنستن الى وضيفة باحث اقدم، استطاع ان يعود من خلالها الى نشاطه العلمي بهدوء وسلام وبعيدا عن كل ضغوط العمل الوظيفي. وقد بدأ ينال دعم زملائه وطلابه والتفافهم حوله. بعد عام 1990 عادت مشاعر الحب بين جون وأليشا الى مجراها الطبيعي فتمكنا من الزواج مرة اخرى عام 2001.  وابتداءً من عقد التسعينات بدأت لجنة من اصدقائه وزملائه المخلصين تروج لانجازاته التي بقيت حبيسة المنشورات القليلة الى الدوائر العلمية المختصة، وهكذا أدت هذه الحملة الى الاعتراف باستحقاقه جائزة نوبل على منجزه العلمي الهام في نظرية اللعبة لتكون جائزة في الاقتصاد. وهكذا نال الجائزة بعد مرور 45 عاما على انجاز العمل. أما عمله في الرياضيات البحتة فقد اهتمت به اكاديمية العلوم النرويجية ووجدته مستحقا جائزة أيبل،  والتي استلمها فعلا بعد 65 عاما على انجاز العمل.

بعد استلامه جائزة أيبل في أوسلو عام 2015 عاد الى الولايات المتحدة. ومن مطار نيووارك في نيوجرسي استقل، هو وزوجته أليشا، سيارة تاكسي يقودها سائق بإسم طارق جرجيس لتوصلهم الى بيتهم  في برنستن على مقربة ساعة واحدة. وعلى نيوجرسي ترنبايك السريع حاول السائق ان يجتاز السيارة التي امامه لكنه فقد السيطرة على السيارة مما ادى الى ارتطامها بسيارة اخرى ثم ضربت الحاجز الحديدي على جانب الطريق. وحين لم يكن ناش وزوجته قد وضعوا حزام الامان، فقد ادى الارتطام العنيف الى تحطم الابواب وخلعها وقذف الركاب الى الخارج فتوفيا في الحال. وهكذا جاءت النهاية المفجعة لحياة تكللت بالنجاحات الباهرة واكتوت بالآلآم وشهدت الاحتراق ثم النهوض من الرماد  كطائر العنقاء.

ابتدع ناش مفاهيما جديدة وصاغ حلولا ابتكارية سواء في نظرية اللعبة ام في الرياضيات البحتة. ومنها ما سمي بإسمه،  ومنها ما حملت تأثيره البليغ. فيما يلي اهم ما اصبح جزءً لا يتجزء من منظومة معرفتنا:

- توازن ناش  Nash Equilibrium

ويراد به الحل الذي يشير الى الحالة التي يصل فيها اللاعب الى ما لا يستطيع بعده تحقيق اي تقدم وتحسن في موقفه مع اعتبار كل الخطوات التي قد يتخذها اللاعب الآخر. وهذه الحالة تحدث على الاقل مرة واحدة، طالما يُسمح بخلط الستراتيجيات والخطوات ذات الاحتمالات الايجابية. أي ان هذا الحل هو القرار الاخير الذي سيؤدي الى افضل النتائج، اذ ليس هناك اي سبيل آخر احسن منه. والمثال العملي الكلاسيكي الذي يوضح هذا المفهوم هو:

- Prisoner’s Dilemma - مأزق السجين:

ألقت الشرطة القبض على شخصين اتهما باشتراكهما في ارتكاب جريمة معينة. أراد المدعي العام ان يقابلهما على انفراد في غرفتين متباعدتين. فاجأ السجين الاول بالقول ان رفيقك على وشك الاعتراف ولاندري ان كان سيعترف فعلا ولكن عليك ان تكون ذكيا وتنقذ موقفك ! فان اعترفت واحجم رفيقك عن الاعتراف فانك ستنال سنة واحدة في السجن وسينال رفيقك عشر سنوات. وان اعترف هو وامتنعت انت عن الاعتراف فسينال هو السنة الواحدة وسترمى انت في السجن عشر سنوات. أما اذا حدث وان اعترف كلاكما فان المحكومية ستقسم عليكما بالتساوي وسينال كل منكما خمس سنين في السجن. وغادرالمدعي العام ولم يفصح عما سيجري ان امتنع كلاهما عن الاعتراف. ذهب النائب الى السجين الثاني وقال له نفس الكلام بالضبط.

هنا سيكون من الحكمة ان يفكر كل من السجينين بما سيتصرف السجين الآخر قبل ان يتخذا قرار الاعتراف او عدمه، وسيكون من الواضح ان يميل كلاهما الى الاعتراف (بافتراض ان لهما حد معقول من الذكاء)، لان الاعتراف سيكون الحل الامثل الوحيد المتوفر لكل منهما، مهما كان موقف الطرف الآخر. فاما الفوز بالسنة الواحدة في حالة امتناع الطرف الآخر عن الاعتراف، وأما الفوز بخمس سنين ان اعترف الطرف الاخر ايضا، وليس هناك حل آخر . والاعتراف هنا يسمى الستراتيجية المهيمنة.

-Dominant Strategy

هي الستراتيجية التي تؤول الى القرار الذي يعتقد اي طرف انه القرار الامثل لمصلحته الخاصة مهما سيكون قرار الطرف الآخر.

والحالة بنتائجها تسمى Nash Equilibrium، كما مبينة في المصفوفة ادناه:3560 ناش

قد يتساءل البعض: لماذا لم يفكر السجينان بالاحجام عن الاعتراف كل على حدة وبغض النظر عن عدم ذكر هذه الحالة من قبل المدعي العام ؟ السبب الاول هو ان المدعي العام لايريد الاعتراف بانه لو احجم كلاهما عن الاعتراف ستكون يداه خالية من اي وثيقة اثبات وسيكون مضطرا بموجب القانون اما اخلاء سبيلهما او الاكتفاء بمدة التوقيف. والسبب الاكثر منطقية هو ان عدم الاعتراف بالنسبة لأي منهما ينطوي على مخاطرة كبيرة، رغم انه سيكون، على الاقل نظريا، افضل النتائج الاربعة لانه يعود بسجن سنتين فقط لكل منهما. قد يحدث هذا في حالات نادرة جدا تنطوي على نوع من التعاون او الاتفاق المسبق بين الطرفين او ايمانهما بالتضحية والايثار بينهما، كما في حالة السجينين المرتبطين بعلاقة دم او عاطفة قوية كأخوين او اب وابنه او حبيب وحبيبته. أو ان يكونا مرتبطين بعلاقة ايديولوجية قوية وروح عقائدية وثابة تحتم عليهما عدم الخيانة بالرفاق والاخلاص لهم لحد الموت. وهنا ستجري اللعبة بقواعد ما اسميناه بالـ Cooperative Games.

- نظرية الاحتواء القياسي Nash Embedding Theorem

تنص هذه النظرية بأنه يمكن لأي سطح رايميني Riemannian manifold  متعدد الاوجه (نسبة الى عالم الرياضيات الالماني برنارد رايمن ( ان يتم احتوائه او تطويقه المتقايس Isometric Embedding  في مجال اقليدسي  Euclidian  مألوف. والتقايس هنا يعني الاحتفاظ بنفس المقاسات قبل وبعد الاحتواء. المثال الكلاسيكي الذي يبسط تصور المفهوم هو اننا لو طوينا ورقة دون ان نمطها او نمزقها فان طول الخط او المنحنى المرسوم على الورقة سوف لا يتغير في حالة المقارنة بين سطح الورقة المنبسط  Plane  وسطحها المطوي Cylindrical.

حين رشحت اكاديمية العلوم النرويجية ناش لنيل جائزة أيبل على هذا المنجز وسواه من منجزات ناش في الرياضيات البحتة، كتبت لجنتها المختصة:

" ان هذه النظرية تمثل اكثر منجزات التحليل الهندسي أصالة في القرن العشرين".

- نظرية ناش- دي جورجي- موزر Nash-DeGorgi-Moser Theorem

هذا عمل رياضي تحليلي يقدم برهانا وحسابات بموجب تقديرات هولدر Holder Estimates  ومتباينة هرناك Harnack Inequality ويضمنهما في حالتين مختلفتين من حالات الدوال الرياضية، حالة الدالة البيضوية الاهليجية Elliptic function  وحالة الدالة ذات القطع المكافئ Parabolic function. كان ناش والعالم الايطالي إينيو دي جورجي  Ennio De Georgi  قد بحثا باستقلال ومعزل تام عن بعضهما ووصلا الى نفس النتيجة. ثم بعد ذلك جاء العالم الالماني-الامريكي جرگن موزر Jurgen Moser فوصل الى نفس النتيجة ولكن ببراهين مختلفة عن ناش ودي جورجي.

فاز ناش على هذه النظرية بجائزة لروي ستيل LeRoy Steele Prize التي تمنحها جمعية الرياضيات الامريكية.

- حلول التصافق (عمل الصفقات)  Nash Bargaining Solutions

صاغ ناش الحلول الفريدة التي تتطلبها ظروف المساومة على عقود الصفقات بين الطرفين المتساومين، والذي يفترض تحقيق الشروط الرياضية المتمثلة بالثابتية Invariance ، والتماثل  Symmetry، والكفاءة Efficiency ، وكذلك استقلالية البدائل التي ليس لها علاقة او اهمية.

فی نعیه بوفاة ناش كتب قسم الرياضيات في جامعة برنستن ما يلي:

"جون فوربس ناش هو ايقونة قسمنا البارزة وظاهرة رواق فاين المعروفة بـ  Spector of Fine Hall. الرجل الذي عرفناه بانجازاته العلمية التي فتحت ارضا بكر في التحليل الرياضي،  وعرفنا عبقريته كطالب دراسات عليا بقدرة علمية استثنائية. وعرفناه ايضا بصراعه المؤلم الطويل مع المرض وتحوله الى شبح يطوف في ممرات القسم وغرفه منعزلا ولا يكلم الا نفسه. ثم عرفنا انتصاره العظيم على المرض وعودته الينا كشيخ هادئ وخجول وخلوق حرص ان يأتي للعمل كل يوم كباحث اقدم منذ 1995 ولحين وفاته المفجعة عام 2015.

في ختام هذا النص عدت واحصيت سنوات المرض والآلام والتيه فوجدتها تساوي ربع قرن بالتمام والكمال وبرغم كل ذلك فقد تمكن ناش من نشر 23 بحثا خلال خمسين عاما من حياته المعذبة وهي بالطبع حصيلة صغيرة قياسا بامكاناته العلمية الهائلة.

لدى ناش ولدان، الاول من صديقته الاولى والثاني من زوجته أليشا، وكلاهما باسم جون.

في عام 1998 نشرت سلفيا نصّار البروفسور في الادب والصحفية الامريكية من اصل أزبكي كتابا بعنوان A Beautiful Mind  تناول سيرة ناش الذاتية. ثم في عام 2001 تحول الكتاب الى فلم سينمائي رائع من اخراج رون هاورد وبطولة رسل كرو وجنيفر كونلي. وقد استقبل الفلم بترحيب شعبي بليغ وفاز بأربع جوائز أوسكار و33 جائزة اخرى، محليا وعالميا.  كما تحدثت برامج تلفزيونية عديدة عن انجازات ومحنة ناش ولعل ابرزها الفلم الوثائقي الذي انتجته محطة التلفزيون العامة عام 2002 بعنوان

A Brilliant Madness.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم