شهادات ومذكرات

علي حسين: عزيزي تولستوي.. ماذا فعلت بقارئ مراهق؟

منذ أكثر من اربعين عاما مضت، كنت اجلس في الفسحة الأمامية لبيتنا الكائن آنذاك في شارع النضال، أحمل بيدي الجزء الأول من رواية " الحرب والسلم " الصادرة عن دار اليقظة السورية، في تلك السنوات كانت هناك الكثير من الكتب التي لم اقرأها، ولكن لدي أمل في أن اقضي معها اوقاتا ممتعة ذات يوم، كنت قد قرأت كتاب " تربية سلامة موسى " وفيه يقدم لنا نصائحة للقراءة التي يجب أن تكون نافعة: " فالمعرفة قوة والجهل عجز، فلنقرأ إذن كي نعرف ونزداد علما بالأشياء، كي نزداد بذلك إدراكًا للحياة وإحساسا بها". كان سلامة موسى يحرضني وأنا التهم كتبه أن تكون لي مكتبتي الخاصة، وأن أعتبر الكتب ضرورة من ضرورات الحياة: " فالكتب هي أثاث الذهن ينقلب فيها ويرتاح إليها ويستفيد منها ويستنير بمعارفها " – تربية سلامة موسى -، وعندما عملت في المكتبة التي يملكها احد اقاربي لم اتمسك بنصيحته التي قالها لي وهو يشير الى بعض المجلدات بأن لا اقرأها حتى انضج، فمثل هذه النصائح لم تكن تهمني، كنت اقرأ بسن مبكرة، لا اعرف كيف يمكن أن يضع احدا شروطا لما يجب أو لا يجب قرأته، لدي اقتناع بفكرة انه يجب علي قراءة ما يقع بيدي من كتب، في البيت كانت والدتي تراقب تكدس الكتب في الغرفة التي اتقاسمها مع شقيقي الأصغر، لم تكن تهتم كثيرا بالنقود التي احصل عليها من عملي وادفعها فورا لشراء كتب جديدة، ولكن لديها محرمات ابرزها ان لا تؤثر هذه الكتب على دراستي. بدأتُ قراءاتي الادبية عن طريق سلسلة " كتابي " التي كان المرحوم حلمي مراد يقدم من خلالها ملخصات لروائع الادب العالمي، في الوقت نفسه اطمح بالحصول على الروايات بترجماتها الكاملة، اشتريت " جين آير " ومعها " احدب نوتردام " وحرصت على اقتناء اوليفر تويست واعمال قصصية لتشيخوف، وامني النفس بالحصول على الطبعة الكاملة لرواية البؤساء، التي كانت معروضة في المكتبة بمجلداتها الخمس وبثمنها المخيف في ذلك الوقت ستة دنانير، فقد صرفت بعض الدنانير على شراء الحرب والسلم

اتصفح الجزء الاول من رواية تولستوي، واتذكر ما قرأته في كتاب سلامة موسى " هؤلاء علموني " من ان تولستوي هرب من المنزل الذي قضى فيه كل حياته تقريبا. لماذا هرب؟ يقول سلامة موسى لأنه شعر بان الحياة ضاقت عليه في المنزل.التفتُ حولي وتخيلت نفسي هاربا من البيت مثل العجوز الذي تجاوز الثمانين عاما. كان تولستوي قد رحل من ياسنايا بوليانا في الرابعة والنصف من فجر يوم الثامن والعشرين من شهر تشرين الاول سنة 1910، يبلغ انذاك الثانية والثمانين، استيقظ سكان بطرسبورغ وموسكو على انباء تقول أن اديبهم العظيم تسلل سراً من منزله باتجاه غير معروف تاركا لعائلته رسالة يقول فيها انه يغادر إلى الابد، بعد يوم ستنشر الصحف الخبر التالي: " رحل ليف تولستوي بالأمس في الخامسة صباحا، وكان الظلام مسيطراً جاء ليف تولستوي إلى غرفة حوذي العربة وامره بتجهيز الخيول، وصعدا إلى العربة وتوجها الى محطة توكينو " – بافل باسينسكي الهروب من الجنة ترجمة نزار عيون السود –، بعد أن عرفت زوجته صوفيا أندرييفنا بهروبه قررت الانتحار، وراحت تنتحب طوال اليوم، اندفعت لتلقي بنفسها من النافذة وهي تصرخ: " ساعثر عليه، ساركض من المنزل، ساركض الى المحطة، آه لو انني اعرف أين هو " – يوميات صوفيا تولستايا ترجمة عبد الله حبه –

بعد ايام قليلة تتلقى العائلة برقية جاء فيها: " أصيب ليف نيقولايفتش بالمرض بمحطة استابوفو "، سافر الجميع بالقطار، تتذكر ابنته الكسندرا في كتابها الحياة مع الأب انه طلب منها ان تسجل من بعده ما يقول: " لكن كان هذا مستحيلا، لانه كان ينطق بكلمات متقطعة، غير مفهومة، وعندما طلب قراءة ما كتبناه، ضعنا ولم نعد نعرف ماذا نقرأ. وهو كان يرجو ويطلب: اقرأوا، اقرأوا ".

امضيت ساعة اقرأ في الصفحات الاولى من رواية الحرب والسلم، وجدت نفسي غارقا في دوامة ابتدأت ببرقية ارسلتها آنا بافلوفنا ولم تتوقف عند الامير بازيل وحديثه عن " الدجال " نابليون الذي تصوره الرواية في صورة الوغد. يكتب تولستوي: " يمثل نابليون للمؤرخين الروس، ويا للعجب مصدراً للحماس والإعجاب. يرونه عظيماً، وهو ذلك الأداة التاريخية المتناهية التفاهة، الذي لم يظهر أي قدر من الكرامة الإنسانية في أي مكان حتى في المنفى ".

يقال أن تولستوي كان يكتب صفحات الحرب والسلم ببطأ، لكنه كان دقيقا سريعا عند كتابته " آنا كارنينا "، وسيخبرني فؤاد التكرلي بعد سنوات ان قراءة الحرب والسلم اتعبته، فهي عمل اشبه بالملحمة، شخصيات تدخل وتخرج واحداث تتواصل، كان تولستوي يقول عن روايته إنها ليست رواية، وليست قصيدة، وليست سردا تاريخيا كذلك. تخيل لو انني قلت هذه الجملة وانا انتهي من المجلدات الاربعة للرواية، سأتهم بالجهل.في تلك السنوات كنت اقرأ لكي اعرف مضمون الكتاب، لا يعنيني موقف الكاتب، وعندما اخوض نقاشا مع بعض الاصدقاء اتكلم عن الروايات التي قرأتها لأنني قادر على شرح حكاياتها، فكل حديثي عن الكتب يخلومن الاحاطة بعناصر الكتاب، فلم اكن مهتما بعلاقة الرواية بمؤلفها ومحيطها.

في السادس من تموز عام 1863 يكتب تولستوي رسالة الى أحد أقاربه يخبره فيها بأنه يستعد لكتابة قصة تتعلق بتاريخ روسيا، كانت زوجته صوفيا تشاهده وقد وضع امامه عشرات الكتب التاريخية: "لم أشعر من قبل قط كما أشعر الآن باستعدادي الذهني والخلقي للعمل والجدارة به. وعندي ما أقوم به قصة تتعلق بالفترة(1810-1820) هذا العمل الذي شغلني منذ بداية الخريف"، كان تولستوي قد تفرغ لأكثر من سنتين لقراءة عشرات الكتب عن تاريخ نابليون، والإسكندر الأول، وقد وجد نفسه مغطى بأكوام الورق والخرائط: "امتلأ ذهني باحتمال القيام بعمل عظيم، كتابة قصة نفسية عن الإسكندر ونابليون، عن كل خسة حاشيتيهما وحماقتهم وكلامهم الفارغ وخياناتهم"، شغلته كتابة الحرب والسلم خمس سنوات، وأبعدته عن كل عمل آخر، وتتذكر زوجته صوفيا أن تولستوي كان كلما يخرج من غرفته بعد أن يكون قد كتب صفحات من الرواية يقول لها: "إن قليلاً من دم حياتي إنصب في المحبرة". عملت زوجته سكرتيره له منذ بداية كتابة الرواية حتى نهايتها، تتصارع مع المسودات التي كان يغيرها بين الحين والآخر، في يومياتها تكتب: "إني أقضي وقتي بأجمعه مستنسخة قصة ليون، وهذا فرح عظيم لي، وكلما استنسخ شيئاً أعيش في عالم كامل من الأفكار والانطباعات الجديدة". وبعد شهرين تكتب: "ظل ليون يكتب هذا الشتاء بأسره، وكان طوال هذه المدة منشغلاً تطفر الدموع من عينيه، ويغلي قلبه، أعتقد أن قصته هذه ستكون عظيمة".. يطلب من زوجته ان تنسخ رواية الحرب والسلم كاملة بخطها، الذي كان يصفه بالانيق والناصع.

موضوع الحرب والسلم، هو مصير البشرية التي تتخبط في نشوة الحرب العجيبة وفوضويتها. أما المشاهد التاريخية فيستخدمها تولستوي كسند توضيحي من أجل تعزيز مواقف الشخصيات. إن الحرب والسلم تتناول حياة أسرتين، أسرة روستوف الذين أفقرتهم الظروف، وال بولكونسكي الذين يقفون على قمة المجتمع ثراءً، ويقدم لنا تولستوي فكرتين عن الحب الأولى على لسان اندرو: "من الممكن ان تحب قريبك فهذا هو الحب الإنساني، أما أن تحب عدوك، فهذا هو الحب الإلهي"، أما بيير فأنه مشغول بسؤال آخر: "ما الخير، وما الشر؟ وما ذا ينبغي على المرء أن يحب؟ وماذا ينبغي عليه أن يكره، من أجل أي شيءيعيش المرء".

ليس في الرواية بطل واحد، وانما هناك اناس مثل كوتوزوف والأمير اندريا وبلاتون كاراتاييف، بل نابوليون نفسه، حيث يستحوذون على القارئ، البعض يثير العطف والبعض الآخر يثير الغضب ، فها هو نابليون في الرواية ليس اكثر من " أداة لا معنى لها في يد التاريخ". وفي المقابل هناك الجنرال كوتوزوف الذي اراد ان يرمز به الى الارض الروسية، يعرف كيف يصبر ويتكلم ومتى يصمت ومتى يدفع بنابليون ان يهزم نفسه بنفسه. والأمير اندريا المتطلع الى المجد العسكري، وهناك ناتاشا التي ترمز إلى الحيوية ، ووسط هؤلاء نجد بلاتون، الذي يحمل في أعماقه كل تلك الأفكار النيرة والعظيمة التي اراد تولستوي ان يبثها بين الناس.

بين فترات الاستراحة يحدث زوجته عن ابطاله كما لو انهم يعيشون معه في نفس المدينة يكتب في يومياته: " إنني اكتب واشطب.كل شيء واضح.لكن ضخامة المهمة الملقاة عليّ تبعث على الخوف " – ترجم يوسف نبيل اليوميات وصدرت بستة اجزاء-. كانت قائمة قراءته في ذلك الوقت تتضمن البؤساء لفكتور هيغو التي وصفها بانها رواية ملحمية عاصفة، التهم كانط وهيغل الذي سخر من اعجابه بنابليون، ثم شوبنهاور الذي اذهله: " ما من أحد كتب قط شيئا اعمق وأكثر صحة، عن ألم الانسان بكل رغبته في الحياة "، يكتب في احدى رسائله الى تشرتكوف: " اتعرف ماذا كان صيفي ؟ حماسة لاهوادة فيها امام شوبنهاور وسلسلة من الافراح الفكرية لم اشعر بمثلها من قط "، فكر ان يترجم كتاب " العالم إرادة وتمثلا " الى الروسية، اشترى لوحة شخصية للفيلسوف الالماني المتشائم وضعها في مكتبه، يعترف ان الافكار الفلسفية التي تدور في الحرب والسلم تنبعث من افكار شوبنهاور اعاد قراءة روسو، والاطلاع على ترجمة جديدة من الانياذة لفيرجل كان حلمه ان يكتب عملا شبيها بالالياذة: " أشعر بي محلقا من الفرح لفكرة انني قادر أن اكتب عملا عظيما ".

نشر الجزء الاول من الحرب والسلم في خريف عام 1865 في مجلة الرسول الروسي ، وكانت الاعداد التي تنشر فصول الرواية تنفذ من المكتبات حال وصولها، في المقابل ينزعج دستويفسكي من وصف الرواية بانها عمل عبقري ومقارنتها باعمال بوشكين، اما تورجنيف فقال ان في الحرب والسلم عشرات الصفحات المدهشة، وكتب في احدى رسائله: " تولستوي عملاق بين زملائه في الادب "، لكنه لم يتحمل فلسفته في الرواية: " عندما يأخذ عصامي من صنف تولستوي بالتفلسف فذلك بؤس حقيقي " – رسالة تورجنيف الى أنتكوف نشرت ضمن كتاب هنري ترويا تولستوي ترجمة خليل الخوري -

ولد ليف نيكولايفيتش تولستوي في التاسع من أيلول سنة 1828 في باسنايا بوليانا، لعائلة إقطاعية روسية، تملك المال والمكانة الاجتماعية، بعد وفاة الاب ينتقل الابناء للعيش في مدينة قازان، في تلك المدينة سيكمل دراسته، وسيقرر في السادسة عشر من عمره ان يختار طريق حياته دراسة القانون، لكن الانطباعات الاولى التي تركها في نفوس اساتذته كانت غير مشجعة، فظاهرة اللامبالاة كانت تلازمه، وقد اعترف في يومياته بانه " كسول جدا "، في تلك الفترة عرف عنه حبه للهو وعدم اهتمامه بالدراسة، وقد كان يقول لرفاقه: " ماذا سناخذ معنا الى البيت مما تعلمناه في الجامعة ؟ نحن لانصلح لاي شيء، من سيحتاجنا ؟ "، في نهاية السنة الدراسية الثانية يقرر ترك الجامعة فقد وجد نفسه اشبه بـ: " "إنسان تائه في مستنقع يسحب أقدامه بجهد كبير ".وضع تولستوي برنامجاً واسعاً لحياته حيث دراسة اللغات الاغريقية واللاتينية والانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية إضافة إلى التعمق بدراسة اللغة الروسية، كذلك دراسة التاريخ والجغرافية والرياضيات والطب والزراعة والرسم والموسيقى وغيرها. وقد حقق الكثير من ذلك البرنامج يكتب في يومياته: " قراءة من العاشرة الى الحادية عشرة، ثم تمشية حتى الثانية عشرة، وكتابة من الثانية عشرة للثانية، ثم قراءة حتى الرابعة، وكتابة من الرابعة للسادسة، وقراءة من السابعة "، وفي الوقت الذي كان الاساتذة يعتقدون ان اللهو والمجون يقفان حائلا امام دراسته، كان ليف تولستوي يصر على ان الدراسة تعيقه عن السير في الطريق الذي خطه لنفسه. في التاسعة عشر من عمره يكتب في دفتر يومياته: " اليوم الثالث من آذار عام 1947 من الساعة الثامنة الى العاشرة صباحا قراءة فاوست.. من الساعة العاشرة الى الثانية عشر ظهرا قراءة جان جاك روسو.. من الساعة الثانية عشر حتى الرابعة عصرا قراءة معجم القوانين..من الرابعة الى السادسة مساء قراءة القانون الروماني.. من السادسة الى السابعة مساء قراءة القانون المدني، من السابعة حتى الثامنة مراجعة دروس اللغة الانكليزية ". في الثامنة عشر من عمره كان قد هام حبا واعجابا بجان جاك روسو، حيث قرر ان يعكف على دراسة اعماله الكاملة. كان تولستوي قارئاً نهماً، يلتهم كل ما يقع تحت يده من الكتب بغض النظر عن الظروف المحيطة به.

عندما بلغ تولستوي سنّ الرشد قررت عمته ان تمنحه نصيبه في ارث عائلته، وكان لديه مطلبا واحدا أن يكون مسقط رأسه ياسنايا بوليانا من نصيبه، وقد استجاب أخوته لطلبه هذا، في تلك السنوات أخذت تلح عليه فكرة انه مسؤول عن مصير الفلاحين الذين يعملون في ارضه وقد كتب في إحدى رسائله إلى عمته: " إنني أحسّ بنفسي القدرة على أن أكون مالكاً صالحاً، ولكي أكون كذلك فلا أحتاج إلى شهادة دكتوراه ولا إلى المناصب التي تتمنينها لي".

يلتحق ضابطا في الجيش القيصري، يشارك في الحرب التي اعلنتها روسيا على تركيا وسيسجل هذه المرحلة من حياته في " قصص من سيباستوبول " ، يكتب في دفتر يومياته: " المناصب العسكرية ليست لي، وكلما تخلصت منها بسرعة لأكرس نفسي للأدب بشكل كامل كلما كان ذلك أفضل"..العام 1856 يقرر السفر الى اوربا وكانت وجهته الاولى فرنسا، هناك حيث يرقد المعلم جان جاك روسو ، تدهشه باريس بجمالها ولياليها الصاخبة ، ومتاحفها الفنية، وبالحرية التي يتمتع فيها الناس، لكنه سيسخر من عبادة الفرنسيين لنابليون.عام 1857 يعود إلى ياسنايا بوليانا فقد قرر ان يصبح معلما في القرية. وهذا التحول ناجم عن قناعته بان: " الهدف الاساسي يكمن في تعليم الشعب. فالامل الوحيد لطلب المعرفة هو صهر كافة الطبقات في سوح العلم "، وقد اتخذ من مونتاني وروسو قدوة له في عمله: " كم اود ان اتخلى عن وجودي كسيد، لأتحول الى فلاح، فاشيد في اطراف القرية كوخا واتزوج من فلاحة شابة، واعمل مثلهم: احرث واحصد واقوم بكل شيء آخر "

1862 يعلن زواجه من صوفيا ونراه يكتب في يومياته: لا اعتقد ان مستقبل حياتي مع زوحة يضارع ما يبدو لي الان مع صوفيا.. المستقبل السعيد الهادىء الخالي من المخاوف ".

يعيش ازمة نفسية، أعلن إنه مستعد أن يتخلى عن شهرته وماله وحياته إذا تطلب الأمر تقديم خدمة لبني البشر، يرتدي ملابس الفلاحين، وسوف يتوقف عن ممارسة الطقوس المسيحية، فقد أخذ ينكر على القساوسة تعصبهم وعلى القيصر طغيانه.. يكتب في إحدى رسائله لصديق: "لعلك غير مصدق، ولكن لك أن تتصور مدى عزلتي أو مدى زراية الناس بشخصي أو هوان أمري عليهم"، كانت مأساة تولستوي أن دعوته لمثل عليا لم تلقَ استحساناً عند المقربين منه، ولم يجد مفراً سوى الهروب.يعلن عن وفاته في العشرين من تشرين الثاني عام 1910.

انتهيت خلال ثلاثة اسابيع من قراءة الحرب والسلم، واجهت خلالها صفحات عصية على الفهم. كانت الرواية طويلة جدا، بعد سنوات وانشغالي بالعمل سألت نفسي: هل استطيع قراءة الحرب والسلم من جديد ، هل املك الوقت الذي يتوزع بين العمل في الصحافة والمكتبة وقراءة الكتب الصادرة حديثا ؟. قلت انتظر، كانت سلسلة اعمال تولستوي تصدر عن وزارة الثقافة السورية بترجمة سامي الدروبي الذي قرر ان يقدم تولستوي كاملا الى قراء العربية مثلما فعل مع دستويفسكي، وصلت نسخ معدودة من الاعمال الكاملة الى مكتبات بغداد، كانت الحلرب والسلم في جزئين فقط، فقد رحل سامي الدروبي في اوائل عام 1976 وكان قد انتهى من الصفحات الاخيرة من الجزء الثاني، سيكمل ترجمة الاجزاء المتبقية صباح الجهيم. خلال السنوات الفاصبة بين قراءتي الاولى لرواية الحرب والسلام، والقراءة الثانية كنت اجمع ما يصدر من الكتب عن تولستوي وحياته الغريبة وفنه، وقد خرجت بفائدة من هذه الملاحقة للاديب الروسي، انها منحتني فرصة كي ألملم شتات ذهني عند القراءة الثانية للرواية، فبعد صدمة القراءة الاولى ادركت ان مغامرتي مع هذا النوع من الروايات كانت مجرد نزهة عبثية، وأن نفوري من الحرب والسلم كان نوعا من انواع الجهل، فهذه الرواية التي صمدت امام اختبار الزمن، لا يمكن لها أن تخضع لتقييم قارئ مراهق. اقتربت من قراءة الرواية من جديد وانا اسعى لسد النقص في معارفي وتَّقبل انني لم اقرأها في المرة الاولى قراءة جيدة. يكتب ستيفان تسفايج أن قراءة مثل هذه الرواية لا يتم مرة واحدة، لان قراءتها هو " عمل لمدى العمر " – تولستوي ترجمة فؤاد ايوب -. عمل نتمرن عليه، انها " مثل ركوب الدراجة. حيث تكون هناك اوقات يكون فيها ركوب الدراجة بشكل متكرر ويبدو كأنه غريزة ثانية " – فيف غروسموب دروس مستفادة من الادب الروسي ترجمة مامون الزائدي – اعادة قراءة الحرب والسلم ربما تعلمنا كيف يمكن ان نكون قراء جيدين. يقال ان تولستوي كان قارئا ممتازا، لا نعرف كم امتلك من الكتب، لكنه كان يتحدث ويقرأ باكثر من عشر لغات.

بعد عقود على قراءة الحرب والسلم ماذا تعلمت من هذه الرواية ؟، بالتاكيد الكثير، حتى في حالة الملل التي اصابتني، وحتى من مطولاته عن التاريخ والبشر والفكر، حيث تمكن هذا الروائي العبقري أن يهز الكثير من قناعاتي، وأن يعلمني ان الثقافة الحقيقية دواء صحي للشفاء من الغرور البشري، وكشاف ضوء ساطع ضد الاستبداد والدكتاتورية والتسلط.

هل يمكن تلخيص الحرب والسلم ؟. يجيب الناقد الشهير هارولد بلوم: " انها مهمة صعبة، لاننا امام ملحمة اشبه بالالياذة قصة أناس بعينهم وهي تشبه الانياذة بانها حكاية امة حفظت في كتاب واحد، من لدن رجل واحد لم يكن يعرف انه كان هوميروس وفرجيل واحد بعد الآخر.لقد اراد تولستوي ان يضع قصة الحياة الازلية في مواجهة الفوضى".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم