شهادات ومذكرات

عبد السلام فاروق: وداع متأخر لصديق قديم

في مهرجان الجواهري الأول الذي احتضنته جبال السليمانية وسهول أربيل، حيث كان الشعر لغة مشتركة بين العرب والأكراد، التقيت فوزي كريم لأول مرة. كان المهرجان، الذي أشرف عليه المثقف العراقي البارز فخري كريم، بمثابة واحة ثقافية في زمن كان العراق يئن تحت وطأة الحروب والعقوبات. لم تكن معرفتنا بحاجة إلى مقدمات طويلة، فكأن الروح كانت تعرف بعضها قبل أن تلتقي الأجساد. صرت أنا وهو والشاعر المغربي ياسين عدنان، ثلاثية لا تفترق، نتنقل بين جلسات المهرجان وندواته، نتبادل الأحلام والأسئلة، وكأن الزمن قد توقف ليسمح لنا بأن نعيش في فقاعة من الجمال والفكر. 

كان فوزي كريم مختلفا عن كل من قابلت من الشعراء والنقاد. لم يكن يرفع صوته، ولا يتكئ على شعارات جوفاء، بل كان حديثه يشبه نهرا هادئا يحمل في أعماقه كنوز المعرفة والصدق. أهداني نسخة من كتابه النقدي "ثياب الإمبراطور"، وكتب عليها إهداء رقيقا بخطه المنمق: "إلى أخي المثقف والصحفي المصري والعربي... فلان". ذلك الإهداء البسيط كان بمثابة عقد صداقة روحية استمرت لسنوات، حتى بعد انتهاء المهرجان، حين كنا نتبادل الرسائل والمقالات قبل أن يغزو الإنترنت عالمنا. 

 "ثياب الإمبراطور" 

لم يكن كتاب "ثياب الإمبراطور" مجرد كتاب نقدي، بل كان زلزالا هز أركان المشهد الأدبي العربي. في هذا الكتاب، الذي صدر عام 2000 عن دار المدى، حمل فوزي كريم مطرقة الناقد الصادق ليكسر بها أصنام الحداثة الزائفة، ويكشف عن عري الشعر العربي الحديث. 

قسم فوزي كريم الشعر العربي إلى صنفين: 

- شعر الراية: وهو الشعر الذي يلهث وراء اللغة الباذخة والصور المتكلفة، لكنه فارغ من التجربة الإنسانية الحقيقية. شعر يقلد نفسه، ويكرر الماضي دون روح، كأنه راية ترفع لأجل الراية نفسها. 

- شعر المتاهة: وهو الشعر الذي ينبع من وجع الإنسان، من أسئلته الوجودية، من بحثه عن معنى في عالم يزداد عبثية. هنا يتحول الشاعر إلى مستكشف يجوب متاهة الذات والكون، لا إلى خطيب يرفع شعارات. 

بهذا التقسيم، ضرب فوزي كريم على وتر حساس في الثقافة العربية: وتر "المقدس الأدبي". فكثير من النصوص التي يجلها النقاد ليست سوى أقنعة فارغة، وكثير من الشعراء الذين يتبوؤون مناصب عالية ليسوا سوى "عرابين" لخطابات مكررة. 

 الحداثة الخادعة 

انتقد فوزي كريم ما سماه "مرايا الحداثة الخادعة"، وهي تلك الأساليب التي يتخذها بعض الشعراء والنقاد لتبرير خواء نصوصهم. هؤلاء يهربون من الوضوح إلى الغموض المفتعل، ومن المعنى إلى اللغو، وكأنهم يخشون أن يكشف القارئ عن عري أفكارهم. 

لقد كان فوزي كريم صريحا إلى حد القسوة حين وصف بعض رواد الحداثة، مثل أدونيس، بأنهم يمارسون "التدليس" على القارئ باسم التجديد. وكان يعتبر أن كثيرا من الشعر الطليعي لم يكن سوى "خطى بائسة تخوض في وحل إيهامها". 

 لماذا أغضب الكتاب النخبة الثقافية؟ 

لأنه كان صادقا. والصدق في عالمنا العربي جريمة لا تغتفر. لقد كشف زيف العديد من "الأصنام" الأدبية، وفضح الحشو اللغوي الذي يقدم على أنه إبداع. كان يقول ما يعتقده دون مجاملة، وهذا ما جعل الكثيرين يحاربونه، ليس بالحجج، بل بالتجاهل والتهميش.  

في تلك الأيام الخمسة عشر التي قضيتها معه في كردستان، لم أر فيه ذلك الناقد المتشدد الذي يظهر في كتاباته، بل رأيت إنسانا بسيطا، عميقا، يمتلك روحا شفافة كالنسيم. كان يحب الموسيقى الكلاسيكية، ويسمعها كأنها صلاة، وكان يكتب الشعر كأنه يترنم بصوت خافت لا يسمعه إلا من كان له قلب واع أو أذن مصغية. 

كان فوزي كريم يؤمن بأن الشعر الحقيقي هو ذلك الذي ينبع من معاناة الإنسان، لا من صراع الأفكار. وكان يرفض أن يتحول الأدب إلى ساحة للصراعات الأيديولوجية، كما كان حال الكثير من الأدباء في ستينيات القرن الماضي، الذين حولوا قصيدتهم إلى "بالونات للتجريب اللفظي والذهني". 

 العزلة والرحيل

في سنواته الأخيرة، اختار فوزي كريم العزلة عن صخب المشهد الثقافي، لأنه أدرك أن الزمن لم يعد زمنه. لقد رحل عن عالم يمجد "المثقف المهرج"، ويكافئ السطحيين، ويهمش العقول النقدية الحقيقية. 

لكنه رحل وهو يعرف أن شراعه لم يضع. فالكلمات الحقيقية لا تموت، والأفكار الجريئة لا تدفن. لقد ترك لنا إرثا يشبه المنارة في عتمة الثقافة العربية: نور لمن يريد أن يبصر، وصوت لمن يريد أن يسمع، وصرخة لمن يريد أن يستيقظ. 

وداعا أيها الشاعر الذي لم يخن كلمته.  وداعا أيها الناقد الذي لم يخش سطوة الأصنام. 

وداعا أيها الإنسان. 

فإنك لم ترحل، بل صرت شراعا أبديا في بحر الثقافة، يرشد الضالين إلى شاطئ الحقيقة.

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم