نصوص أدبية

حضرة البليد (1)

لكنها معتمة بالتأكيد، لم تمتلء بعد بخبرة الحياة والثقافة المعاصرة، لذلك لا يتأخر بك الحال حتى تكتشف ان الرجل لا يزال يعيش قبل اربعين سنة على أحسن حال. لقد  مر عليه عقد السبعينات من القرن المنصرم، فتشبت بتلك الحقبة التي كانت حقبة ذهبية بالنسبة للإسلاميين، ويبدو انه قرر البقاء فيها الى أجل غير مسمى، ولقد نجح في ذلك أيما نجاح.

 

هيئته، حركاته، نظراته، عباراته، طريقة فهمه ومعالجته للأمور، كلها تعود الى تلك الحقبة، وتحديداً الى السنوات الثلاث الأولى من عقد السبعينات.

 

ينظر الى نقطة غير موجودة عندما يجمعه المكان مع آخرين، ثم يتطلع الى الوجوه بنظرة تقترب من التكلس، حتى لتحسب انه لا ينظر اليك، بل الى مكان خلفك تماماً. وصمته اشبه بحالة ذهول، وكأنه قد تلقى تواً خبراً صاعقاً، أفقده قدرة التركيز، وأحال مشاعره الى كتلة جامدة من سوء ما بشر به.

 

والغريب فيه انك عندما تنظر اليه من الخلف فانك ستخرج بنفس الإنطباع عن شخصيته، وكأنه مخلوق بظهرين أو بوجهين.. والأغرب انه عندما ينظر للمرآة يستطيع ان يطابق ظهره بواجهته.

 

:::::::

 

في لقائي الاول معه، شعرت اني اتبادل التحية مع تمثال قديم من الاسمنت، لم ترتسم على محياه ابتسامة، انما كانت شفتاه تتحركان بميكانيكية بليدة، ومن النظرة الاولى ادركت انه يستخدم عينيه للنظر فقط دون أن يحملهما عبء الإحساس والتعبير والتأثر، قدرة نادرة لا يقدر عليها كل شخص، زجاجتان مستورتان بنظارة طبية، يصعب قراءتهما، بل يستحيل ذلك.

 

قامته الطويلة المنتصبة بقوامها الممشوق الرائع، حولها بمشيته القديمة الى هيكل عتيق، يؤكد فيها انها ليست من هذا الزمن، إنها من هناك متمسكة بتقاليد السبعينات وهيئتها. ولكي يحافظ على ثبات هيئته، فانه جعل مواقفه وأحكامه ثابته بشأن الناس والمواقف والأحداث، فالحكم الأول الذي يتخذه تجاه قضية معينة، سيكون الأخير حتى لو تغيرت الآراء والمواقف والأحداث، فلا مجال للتغيير أو التعديل أو المراجعة، ربما يريد ان يعطي صورة متطابقة عن الشكل والمحتوى، وهو الرجل العاشق لحالة الثبات، المفتون بالجمود حد العبادة.

 

قال أحد أصدقائه أنه أصيب بـ (مس القات)، مرض نادر الحدوث، يصيب بعض المهاجرين عندما يفاجأون بعد تسعة أشهر وتسعة أيام، من إقامتهم باليمن بأن اهلها يتعاطون القات، وأن الذهول قد لازمه من يومها.... وقيل أنه أصيب بـ (بالتوحد الدوري) مرض يظهر كل عشرة أعوام في فصل الربيع فيصيب شخصاً واحداً فقط.. وقال آخرون إنما صار على هذه الحال عندما سمع قرع الباب لوحده دون أفراد البيت، فهرع يفتحه فإذا به يرى الطارق يماثله شكلاً، كأنه أمام مرآة، فالتبس عليه الأمر، أيهما هو إذن؟.. وقالت إمرأة عجوز انه ولد ساعة ظهور (كوكب أور)، وهو نجم يظهر مرة كل عامين، ينبض في الليل بريقاً متناوباً، فمن يولد ساعتها ولا يحرق أهله سعفة نخل، فانه يصاب بالذهول.

 

:::::::

 

في المرات القليلة التي رأيته يضحك فيها، كان كمن يرتدي الضحكة ببطء شديد ثم يخلعها ويضعها في جيبه بسرعة رشيقة، ليستخدمها في مناسبة قادمة. أما الإبتسامة فهي نادرة عنده، ويأخذ بداخله على الذين يبادلون الناس الإبتسامات، يرى فيها تعبيراً ماجناً إذا زاد على مرة واحدة في الإسبوع. وهو يلوم نفسه كثيراً عندما تفلت منه ابتسامة، فيمضي ليله مسهداً يقرّع نفسه، يختلي لوحده، حذر أن يكتشف أبناؤه وزوجته أن إبتسامة قد فلتت منه. ويمتنع في يومه التالي عن لقاء الأصدقاء لذات السبب.

 

ورغم أنه مارس التدريس لسنوات طويلة، وانه يحرص على الحضور في المناسبات العامة، إلا أنه لا يعلق بالذاكرة، فمبجرد ان يترك المكان، يختفي من مخيلتك بسرعة، يندر ان تستذكر شكله وحركاته وكلماته، وكأنه يسحب وجوده من الذاكرة حينما يبرح المكان. وقد تنبهتُ الى هذه الظاهرة العجيبة فيه، فقررت أن احفظه في لقاءاتي التالية، وأعترف أني عجزت عن حفظه كاملاً، سوى المواقف والحركات التي يكررها ولا يحيد عنها، مثل جلسته الثابتة، حيث يسند ظهره باستقامة على الكرسي، ويضع ساقاً على ساق، فيغرق في ذهوله ويبادل الحاضرين نظرته غير المبصرة.. إنه يعتقد أن مساند الكرسي قد صنعت لكي تستخدمها أعضاء الجسم مرة واحدة، وإلا خرجت الجلسة عن حدود الأدب، وكذلك الساق اليمنى يجب ان ترتقي على اليسرى دون حراك منذ البداية حتى النهاية، فقد خلقت لتكون على هذا الشكل.

 

وكذلك أتذكر طريقة استماعه، فعندما تتحدث اليه، تدرك بعد لحظات قليلة، أنك تتحدث الى رجل لا يعيرك إنتباهه، يحدق فيك بنظرة خالية من المعنى، يركز نظره على نقطة خلف رأسك، نقطة وهمية يراها هو دون غيره، أما الصوت فيذهب بعيداً، يمر جنب أذنيه دون ان يخترقهما، ويكتفي بإلتقاط كلمات معدودات من كل الكلام. كلمات يلتقطها بعشوائية فتأتي غالباً جملاً غير مفهومة، فيظن بالمتحدث ظنوناً شتى، ويحلق بعيداً في التفسير والتأويل، ولا يخرج من حالة التحليق إلا بعد ان يشعر بيد محدثه تصافحه بالوداع.. وتأتي أحياناً أخرى جملاً مفهومة فيواجهة كارثة المتابعة والمجاراة، ويحاول أن يهرب من مأزقه بالنظر الى أقرب جدار منه، ويبقى على هذا الحال حتى يباغت بكلمة وداع من محدثه.. حيرة دائمة تفرضها الأيام عليه ولا يقوى على الخروج منها، ما بال هؤلاء الناس يتكلم معظمهم بكلام يفوق مداركه، ويتكلم القلة منهم بكلام مفهوم لكنه عصي على المجاراة.

 

:::::::

 

كان يقضي أيامه برتابة لا يملها، يمضي صباحاً لوظيفة يقتل فيها الوقت، يعود الى منزله مثل بقية المهاجرين العراقيين، ينتظر بداية الشهر، يتسوق، يأكل، ينام، يلتقي اصدقاءه بطريقة روتينة، لا يدفعه الشوق أو الرغبة بلقاء الأصدقاء، إنما يظن أنها عادة يجب الإلتزام بها، فلا مجال للعاطفة عنده، يعرف أنها موجودة في الانسان، ويعرف معناها اللغوي بدقة، لكنه لم يعثر عليها بداخله، كان يظن أنها موهبة من المواهب، تولد مع شخص ولا تولد مع آخر، مثل الرسم والموسيقى.. وقد فكر مرة أن يتعلمها، لكنه تراجع عن قراره بعد أن تذكر أنه أنهى تعليمه العالي، وان تعلم موهبة جديدة، سيشغل حيزاً من ذهنه قد تلجئه الأيام لما هو أهم.

 

كان يجيد الجلوس الطويل الى المكتب، ينظر بذهول الى كل شئ يقع تحت يده، حتى لو كان قد رآه سابقاً. ويطيل النظر اليه، يتهيب من قراءته، ينظر الى الكلمات كمن يريد ان يفك رموزاً سرية، تسحره ألوان الغلاف، يغرق في نظرة بلا معنى على لا شئ. تتساوى النظرة عنده في حالتي الإعجاب والإزدراء، فلا فاصلة بين الإثنتين.

 

ذات مرة أمضى أربعة اشهر كاملة وهو يتأمل مجلة قديمة أمام مكتبه، يأتي صباحاً يجلس جلسته المعروفة، ثم يغرق في نظرته التأملية على غلاف المجلة، نظرة سارحة تذهب به الى حيث لا يمكن معرفته، وربما الى حيث لا وجود له. خيال من طراز غريب، إنه خيال الفراغ التام.

 

يتردد طويلاً قبل أن يلمسها، ثم يستجمع قوته مرة واحدة، فيقلب صفحاتها ببطئ شديد، وكأنه يحذر من تساقط الصور والكلمات، يعيدها تارة أخرى الى مكانها، ويغرق في تفكيره المبهم.

 

::::::

 

تدور في رأسه على الدوام هموم كبيرة، لا مصدر لها ولا سبب ولا حقيقة، إنما هي هكذا، مجرد هموم تشغله، يتعامل معها على أنها كبيرة شاغلة، ينوء بحملها طوال نهاره وشطراً من ليله، رغم انها لا شئ.

 

وما يزعجه أنه يرى الآخرين لا يحملون ما يحمل من هموم، أو أنه يراهم يعرفون همومهم، فما بال همومه من هذا النمط المجهول؟. إنه يعرف أنها لا تكبر ولا تصغر، ثابتة مثل بقية الأشياء التي يألفها.. يشعر بها في مكان ما من جسمه، لكنه لا يقدر على حصرها، هل في رأسه أم في صدره؟.

 

لمرات كثيرة في حياته حاول أن يتحدث بهذه الهموم العجيبة لأصدقائه، غير أنه لا يعرف كيف يصفها، لا يعرف ماهي بالضبط، لا يدرك ماهيتها وجنسها وشكلها وطبيعتها، يجهل مصدرها وسببها، لا يتذكر متى دهمته وكيف. وأكثر ما يزعجه أنه لا يعرف مكانها. ورغم عجزه عن كل ذلك، فلم يطرأ على ذهنه ولو للحظة أنها لا شئ.

 

::::::

 

ذات يوم اتصل به صديق من بغداد، أخبره أن الإختيار وقع عليه لتولي منصب رفيع، لم يصدق، لم يفكر في يوم من الأيام أنه سينال مثل هذا المكان أو جزء منه، وهو الرجل البعيد عن شؤون السياسة، بل كان ينظر الى السياسة على أنها موهبة خاصة، وهي من الشؤون التي لم يخلق لها. كان يذهله الخبر العادي على التلفاز، ويعتقد ان أية حادثة تجري في هذا العالم، إنما هي خاضعة لقوانين خاصة، وان هناك إجتماعات ولجان وهيئات تقف وراءها، كان يرى ان كل ما يدور حوله مصمم بطريقة ذكية، تشرف عليها عقول خفية، تراقبها عيون سرية،  تسخر المئات أو الآلاف من المخبرين والموظفين والخبراء، قبل ان تخرج للضوء.

 

لم يصدق كلام صديقه، حاول ان يطيل الكلام عبر الهاتف، يريد أن يتأكد ان صديقه على الطرف الآخر، وليس شخصاً عابثاً. وكان يضغط بقبضته على سماعة الهاتف بقوة ليتأكد أنه في يقظة لا في منام، وأن ما يسمعه صوت حقيقي وليس شيئا من هواتف الغيب.

 

إنتهت المكالمة، أحس بخدر يسري في أوصاله، خدر يتحرك بسرعة لم يعهدها من قبل، يتنقل بطريقة عشوائية بين أعضائه، يغور فيها عميقاً، ثم يقفز على جلده، وما يلبث أن يلف رقبته، يقفز الى إحدى ساقيه، يحررها ليقبص على إحدى ذراعيه. حركة عشوائية زادته ذهولاً.

 

حاول أن يستذكر المكالمة، أن يسترجع ما دار عبر الهاتف، لم يجد في ذاكرته كلمة مما قيلت رغم طول مدتها.. أين أختفت الكلمات والجمل؟.

 

كيف يعقل أن يضيع أمراً بهذه الأهمية في دقائق معدودة؟.

 

تحول الخدر الى وخزات حادة، وخزات تتكثف عند نقطة محددة، تتجمع مع بعضها بعضا، حتى صارت وخزة واحدة، تضغط على مكان حساس بداخله، إنه يعرف هذا الوخز بدقة، يعرفه بتفاصيله الكاملة، ويعرف متى يكون ولماذا يكون.. وخز يمتزج به الندم والتأنيب حين ينشط الشعور والعقل، وخز مؤلم جارح حاد، تستتبعه حسرات مكتومة، ورغبة واعية عارمة بالتمرد على ماحدث.. وخز معروف سمع عنه حكايات كثيرة، وتحدث عنه بحكايات كثيرة، ورأى غيره يعاني منه، بل لقد عانى منه في فترات سابقة، فهو الألم النبيل الذي يشعل في الناس ومضة الخير.

 

نقطة مضيئة توهجت في داخله، كانت تكبر كلما يشتد وجع الوخز حدة، أدرك بما لا يقبل الشك أنها لحظة الإختيار، هذا هو الألم النبيل الذي يزيح الغبش من أمام العين لترى بأقصى درجات الوضوح.. لقد مرت به هذه اللحظات من قبل، لم تكن بهذا الإندفاع الفوار، لكنها مرت عليه، وقد أحسن الإختيار.. فما باله هذه المرة يسقط في التردد؟.

 

كانت النقطة قد وصلت ذروة التوهج، والوخز قد تحول الى جمرة حراقة، صرخة محبوسة في ضميره، غير واضحة الحروف، تتموج كلماتها بين القبول والرفض.

 

حدق ملياً في أعماقه، غار بها بعيداً، إقترب من النقطة المضيئة، أوشك أن يمسكها ويطلق صرخة الرفض، لكن أخرى سوداء ظهرت فجأة، كانت صغيرة لا تكاد ترى.. بدأ يردد بصره بين الاثنتين، أدرك أن لحظة الإختيار ستطول، لقد مرَ بذلك من قبل، وكان دائماً يشيح ببصره عن السوداء ليبقيه مثبتاً على المضيئة، ثم يمسكها بقوة بكلتا يديه، فيموت وخز الوجع ويشعر براحة لذيذة لا توصف.. فهل يقوى هذه المرة على تكرار نفسه؟.

 

طالت لحظة الإختيار، صارت دهراً، بدأ الوهج ينطفئ رويداً رويداً، فيما كانت النقطة السوداء تكبر بسرعة فائقة، لكن الوخز النبيل بدأ يتضخم كبركان ثائر، حتى حسب أنه ينزف من كل جسمه.

 

تحولت النقطة السوداء الى حجم لا متناه، غطت على الألوان والأشكال والأيام والسنوات والأفكار والمواعظ والقراطيس. لقد قضي الأمر، فهمست نفسه بصوت مبحوح إنه لن يتغير، كلمات جرب كذبها من قبل، لكنه شعر برغبة جياشة لأن يصدقها هذه المرة.. سيستجيب وسيتحمل ألم الوخز حتى لو تحول الى لهيب مستعر.

 

سيكون صاحب المنصب الكبير، سيخرج من الظل الى العلن، سيتحول من شخص يغطيه ركام هائل من العزلة الى إحدى القمم في زمن يمضي سريعاً، يتسابق فيه الكثيرون على الفوز.. هكذا بدأ يمني نفسه، يريد أن يتقوى على تحمل ألم الوخز المستعر بداخله، يريد أن يقمع نداء الحقيقة في أعماقه.. إنها فرصة لاتتكرر.

 

 

 

::::::

 

إنتشر خبر تعيينه في المنصب الرفيع، استغرب الناس كيف وقع الإختيار عليه، فما كان يخطر على بال أحد أن يكون هو دون سواه لشغل هذا المنصب. ثمة خطأ قد حدث.

 

هل هناك تشابه في الأسماء وأن المقصود شخص آخر غيره؟.

 

كيف غابت الأسماء الأخرى من ذاكرة الذي اختاره، فلم يبق إلا اسمه؟.

 

هل هي صعقة المفاجأة التي ضربت الجميع، فأصيبوا بخبل الإختيار؟.

 

أيعقل أن العقول قد دارت نصف دورة، فتقدم المتأخر، وتأخر المتقدم؟.

 

هل هو زمن البلادة؟.. موجة تضرب اصحاب الحكم الذين يحالفهم الحظ بصدفة عمياء، فلا تزول منهم إلا بعد أن يزول الحكم.

 

أيكون هو الرجل المناسب الذي لا يعرف نفسه ولا يعرفه الآخرون، إلا شخص واحد في طول البلاد وعرضها، استله من أكوام المنسيين ليشغل المنصب؟.

 

أيكون الذي رشحه قد حمل طلسم الإقناع، فقنع به أصحاب الحل والعقد؟.

 

ومثلما كانت هذه الأسئلة تدور في أذهان من عرفوه، فانها كانت تدور في ذهنه أيضاً، بل كان يزيد عليها أضعافاً مضاعفة من الإسئلة، يخلط معها الأوهام والشكوك والهواجس، ومما يزيد الأمر مشقة عليه، ذلك الوخز المتعاظم بداخله، ما كان يعرف من قبل أن للتأنيب مثل هذا الوجع.

 

في الايام القليلة التي سبقت سفره الى العراق لتولي المنصب، كان يخرج صباحاً يدور في الشوارع يكرر الأسئلة على نفسه آلاف المرات، يتمنى أن يعثر على جواب واحد لسؤال واحد فقط، عساه أن يسكت فورة التيه بداخله.

 

كانت تلك الأيام هي الأكثر شروداً في حياته، وكان في دورانه الضائع في الشوارع، يشعر بصخب الأسئلة في رأسه، صخب مسموع لمن حوله.. هذا ما رآه في عيون المارة، فهم يحدقون به بنظرات متسائلة مندهشة، يرمقونه بنظرة الشك والريبة والإستغراب، نظراتهم تحمل نفس الأسئلة.. كيف عرفوا الخبر؟.. من الذي أخبرهم عنه وعن أحواله وطباعه؟.. إنها جيوش الدوائر الخفية المنتشرة في كل مكان، عرفت بالخبر قبل حدوثه، فسخرت هؤلاء يتلصصون عليه، يراقبون حركاته وسكناته، يتسمعون كلامه وصمته.. الدوران في الشوارع كان خطأ فادحاً، ما كان عليه أن يبرح منزله، ستضيع الفرصة منه، أجل ستضيع بلا شك، عليه أن يلزم بيته، يغلق الباب والنوافذ ويطفئ الأنوار، ولا يتكلم مع أفراد عائلته إلا همساً.

 

في تلك الأيام القليلة، كان جرس الهاتف يهز كل عصب من أعصابه، يخشى أن يأتيه خبر ضياع المنصب منه. وكان يكرر الاتصال بصديقه، يختلق الأسباب ليتحدث معه، يحاول أن يتأكد بأن إختياره باق على حاله لم يتغير. وحين ينهي المكالمة يلوم نفسه كثيرا، يعنفها بقسوة، يتمنى لو أجل الإتصال بضع دقائق، فربما يكون أمراً قد حدث في هذه الدقائق الغالية.. ثم يعاهد نفسه أنه سيحاول تأخير الاتصال الثاني قدر الإمكان، ليكسب الوقت، ليعرف آخر مستجد، لكنه يعجز عن الإنتظار، تتفجر فيه براكين مدوية لا تهدأ إلا بعد أن يجري إتصاله الهاتفي.

 

وحين يجن الليل، يغوص في عذابات لا متناهية بانتظار الصباح.. تنطلق الهواجس والظنون والمخاوف كعواصف مجنونة، تلف كيانه كله، تعصف به عصفاً، حتى ليشعر أنها ستطيح به أرضاً، وليتها فعلت، إذن لإستراح شطراً من الليل بهذه الإغماءة اللذيذة.

 

قبل اختياره للمنصب، كان يضع رأسه على الوسادة فيغرق في نوم ثقيل مريح، أما الآن فقد جفاه النوم، فلا وسن ولا نعاس، يقظة طويلة مستمرة.. ووخز موجع ملتهب، وصوت داخلي مبهم له لحن التأنيب والعتاب والتقريع.. كان يعرف بيقين لا يقترب منه الشك، انه صوت الضمير الذي يريد أن يعيده الى توزانه، أن يحذره من قبول أمر لا يقوى عليه، لكنه كان يصم أذنيه بقوة، يعصر رأسه بكلتا يديه، لكي يُخمد هذا الصوت الموجع، ويتغلب على وخزه الحارق.. فرصة لا تتكرر، كلمة يرددها في أعماقه، لكنها كانت تضيع أمام صراخ الضمير، فيعود الى تكرارها بين شفتيه مرات متتالية، وسيبقى يكررها حتى يسكت الصراخ ويقتل الألم.

 

يتبع، فالقصة لم تنته بعد.. إنها طويلة جداً

في نصوص اليوم