نصوص أدبية

حضرة البليد (2)

تحركت عيناه بسرعة فائقة تتنقل يميناً وشمالاً، حملق في السقف وفي السجادة الكبيرة الفاخرة، تفحص الكراسي والكنبات الضخمة بزخارفها والوانها الزاهية، وأبهره المكتب الكبير بسطحه البراق وكرسيه الفخم المكسو بالجلد الأسود، شهق بلا وعي منه شهقه مسموعة، إمتزج فيها صوت يشبه الآهة الساخنة، ربما كانت حسرة على الأيام التي ضاعت منه قبل أن يلج هذا المكان، أو أنه الخوف من المجهول.

بذل جهداً جباراً لكي يتماسك، وبذل جهداً أكبر ليحرك قدميه صوب الكرسي الفخم، تصبب عرقاً وهو يخطو هذه الخطوات، أحسن أن الأرض لينة تحت قدميه، رخوة تتحرك باضطراب مزعج. 

جلس خلف المكتب جلسته التقليدية الثابتة، أسند ظهره ووضع ساقاً على ساق، جال ببصره في أرجاء الغرفة، رآها اكثر اتساعاً من النظرة الأولى، بدت ضعف حجمها الأول، والأمر ذاته مع مكتبه الضخم، زاد عرضاً وطولاً وارتفاعاً.

التفت يساراً، باغته وجود حاسوب بشاشة كبيرة، مد يده يتلسمه، سحبها بحركة عصبية، كمن مسه صعق كهربائي.. كان يمقت هذه الأجهزة الحديثة المعقدة، ويكنّ كرهاً خاصاً للحاسوب، لم يحسن استخدامه رغم الأيام الطويلة التي قضاها في التمرن عليه، فلم يفلح حتى في كيفية استخدام البريد الالكتروني، فبقي يكتب رسائله بيده، يبعثها بالبريد، او بيد رسول الى هذا البلد و ذاك.

أصابه الحاسوب الجاثم على يسار مكتبه، بنوبة من القلق، إذ كيف سيكون حاله اذا كان العمل هنا يجري عبر الرسائل الالكترونية؟. أمر لم يخطر بباله.

أشاح بوجهه عنه، وراح يحملق في الغرفة الوسيعة، يراها تتسع مع كل نظرة جديدة، ويرى مكتبه يزداد ارتفاعاً وكرسيه يزداد فخامة مع كل حركة من حركاته المهتزة.

لكن الذي رابه، أنه رأى جسمه أقل حجماً مما كان عليه قبل ان يلج المكان، وشعر بأن قامته الطويلة أقصر مما كانت عليه قبل دقائق.

::::::

قرر المسؤولون تدريبه على مهام المنصب الجديد، فلم يسبق له ان دخل هذا المجال، او اقترب من هوامشه.

بذل سلفه الذي شغل المنصب مساعيه لكي يلقنه العمل تلقيناً، يفصل له كل شئ، يعيد الشرح عليه، يعلمه أي لون من الحبر يستخدم في التوقيع على الكتب الرسمية، وهو أمر لم يسمع به من قبل.. يرشده الى أدق التفاصيل، كيف يستقبل المسؤولين وموظفي الدولة الكبار.. وكيف يسجل الملاحظات وبمن يتصل في هذه القضية وتلك.. ومتى يراجع حاكم البلاد.. وحالات الاتصال بالوزراء.. واين يجلس في الاجتماعات الرسمية.. وما هي صلاحياته ودائرة نفوذه.. وأمور كثيرة كان يسمعها فيتظاهر بفهمها حتى لا يشك أحد بأمره، ثم يعود مرة أخرى يستفسر عنها، بعد ان تختلط الأمور في رأسه.

كانت أيام التعليم مرهقة متعبة، تزيده قلقاً وخوفاً من هذا العالم الجديد الذي دخل فيه. وكانت ثورة الاسئلة التي انطلقت يوم تلقى خبر إختياره، قد عادت تتفجر بأعنف من ذي قبل، بدأت تظهر اسئلة أخرى، من نمط مرعب يثير الفزع في كيانه كله.

ربما تكون هناك إرادة خفية، من تلك التي تصنع الاخبار والاحداث في العالم، قد راقبته منذ زمن، فأرادت ان تزجه فيما هو فيه الآن، لتحقق غاية سرية غامضة.

ربما جاء به صديقه ليحقق هدفاً مجهولاً.

أو أن مؤامرة كبرى تحاك خيوطها في غرفة معتمة، وأرادوا الاستعانة بشخص لا يعرف خفايا الأمور، فكان هو ضحية هذا الاختيار.

لكنه كان يكمم هذه الثورة الصاخبة، بنظرة واحدة الى غرفته الواسعة ومكتبه الفاخر وكرسيه الدوار ذي الجلد الأسود.. وكان يخمد صوت التأنيب المتعالي بداخله، بوضع ساقه اليمنى على اليسرى، واذا اشتد عليه وخز الضمير الحارق، فأنه يغمض عينيه مقارناً بين ما كان عليه وما آل اليه، نقلة هائلة تستحق تحتمل الصراخ والتأنيب وصخب الأسئلة المحيرة.

:::::

ذات يوم وقبل ان يدخل مكتبه، شعر بأن تمرينه على شؤون المنصب، خطأ وقع فيه، وكان عليه أن يرفض ذلك، لكي لا يعرفوا انه الرجل غير المناسب، فيراجعون اختيارهم، وقد يعيدونه من حيث أتى.. عليه ان يحسب مواقفه وتصرفاته، أن يعيد الفكرة في رأسه مرات ومرات، فضربة الحظ لا تتكرر إلا مرة واحدة، وهو على يقين ان ربعها او ما هو دون ذلك لن يتكرر معه ثانية.. لقد جاءت اليه فليتشبث بها بكل ما أوتي بقوة، يعض عليها بالنواجذ، يحتضنها بذراعيه، يعصرها الى صدره، يطرد عنها من يرتاب به ان يكون منافساً، حتى لو كان ذلك وشاية من الهواجس والأوهام.

جلس على كرسيه، أبلغ موظفيه بقرارات جديدة، إنه يريد أن يبدأ من هذا اليوم، يريد أن يملأ مكانه، ان ينتزع الإحترام من الآخرين، يجبرهم عليه. لقد أضاع أياماً ثمينة يستمع فيها النصائح والارشادات، لن يكون بعد الآن من يعلمه مسؤولياته وعمله.. ولكي يرضي نفسه، قابل معلمه بجفاء مصطنع، كان يتكلم معه بنبرة متعالية، أخبره أنه لن يحتاج اليه بعد اليوم.

كان ذلك قراره الأول، وسيتبعه بقرارات أخر، لا مجال للتردد واضاعة الوقت، لا بد أن يثبت قدميه على هذه الأرض الهشة، أن يتحصن بالأقربين، يختارهم بعناية فائقة، فلا مجال للخطأ.. خطأ واحد يعني حسرة تدوم حتى نهاية العمر.. سيبحث عنهم في تجاويف ذاكرته، يحولهم من اسماء بعيدة في هذا البلد وذاك، الى شخوص قائمة تحيط به، سيكونون عيونه وحصنه.. سينتقيهم بدقة الخبير، الولاء أولاً، قانون يجب الإلتزام به، فهو الضامن لإمتلاك أسباب القوة، ودرء الخطر.

:::::::

كان عمله متلكئاً مرتبكاً، يخلق الفوضى في كل ركن، لكن لعبة الحظ وقفت معه، فكل شئ من حوله كان فوضى عارمة.

حاول أن يكون جديراً بمنصبه، لكن قدراته خذلته، فلا قبل له بهذا الزخم الكبير من الحركة والمسؤوليات والإجتماعات والمراجعات والاستفسارات والإجابات.

لقد كان في آخر عمل له، يمضي النهار كله، في عدد من المجلات لا يدري كيف يؤرشفها، وقضى ثلاث سنوات على هذا الحال، حائرا بين عدد بسيط من المجلات والاوراق والصور، ينقلها من هذا الرف الى ذاك.. يعيد قراءة العناوين، فينقلها من جديد، ثم يكرر بعد اشهر قراءة العناوين فيغيرها ثانية وثالثة ورابعة وهكذا.

ولبطئه في مهمته البسيطة تلك، أراد صاحب المؤسسة التي عمل فيها أن يستعين بغيره، عسى أن يدفع بالعمل بضع خطوات، لكن أحداً لم يستجب له، كانوا يزهدون بالمهمة، يرون فيها أمراً عادياً، وعملاً عضلياً لا يستدعي التفكير والنشاط الذهني.

إن الحال قد تغير كلياً، فمن غرفة مركونة في أحد الزوايا، أصبح الآن في مكتب ضخم بمستشارين وموظفين واداريين وشؤون معقدة، يراجعه كبار المسؤولين في البلد، يتصل به وزراء وضباط كبار ومحافظون ورجال سياسة، تأتيه رزم من الكتب الرسمية عليه أن يقرأها ويبدي رأيه فيها، إنها قضايا حساسة خطيرة تستدعي الدقة والتفكير والحزم والسرعة.. والأكثر من ذلك هناك حاسوب على يساره يستفزه كلما نظر اليه.

لقد صرف ثلاث سنوات في عمل ينجزه غيره في ثلاثة أيام، فكيف سينجز هذا الركام اليومي المتجدد من الكتب الرسمية المهمة؟.

كان ينهي ساعات دوامه الرسمي، فيجد ان رزمة الرسائل الرسمية لا تزال جاثمة أمامه، كأنها تتحدى كفاءته، تشكك بقدراته، وكان أحياناً يسمع صوتاً هازئاً ساخراً ينطلق من بين الأوراق.

في لحظات نادرة، كان يجلس مع نفسه يشعر بالندم يأكله، ينهشه من الداخل بأنياب قاسية، يستسلم لإحاسيسه، يريد أن يعود الى سابق عهده، يصارحهم بأنه لا يقوى على شؤون هذا المنصب، أو يختلق عذراً ليحفظ ماء وجهه. لقد دخل عالماً غير عالمه، جلس في مكان يتيه فيه، وقد يفاجأ ذات يوم بالحقيقة الصادمة، فيقرأ قرار الإقالة دون سابق إنذار.

لقد أتعبه هذا الوخز الموجع المتعاظم، وخز التأنيب.. أزعجته قامته الآخذة بالقصر كلما نظر الى نفسه بالمرآة.. أرهقته نظرات الآخرين التي تتكلم بصراحة لا تقبل التأويل والتفسير.

في تلك اللحظات يوشك ان تجتاحه رغبة عارمة باتخاذ قرار حاسم، بنطق كلمة تعود به الى الهدوء وتنقذه من صخب الذات، بخطوة يتخلص فيها من هذه الارض الرخوة، ليقف كما هو على ارضه وفي مكانه ثابتاً مستقراً.

غير ان هذه اللحظات تتلاشى فجأة بصرخة عنيفة مجنونة، تنبعث من عمق سحيق بداخله، صرخة مدوية تختلط فيها اصوات متنافرة، ثم تختفي مرة واحدة، ليجد نفسه واقفاً منتصباً متحفزاً كمن يريد منازلة خصم غير مرئي، يطرد عنه تلك الأفكار، ويردد مع نفسه: فرصة لا تتكرر.

::::::::

عاتب بعض الاشخاص، صديقه الذي جاء به الى هذا المنصب، كان إدانة اكثر مما هو عتاب، إذ كيف يرتكب هذا الخطأ وهو المشهور بمعرفة الرجال؟

هل خانته الذاكرة فلم يجد فيها إلا اسمه؟.

أين كلامه عن الكفاءات والطاقات والرجل المناسب في المكان المناسب؟.

لماذا شطب على الآخرين وهو يعلم كفاءتهم، فتخطاهم الى هذا؟.

هل فقد فجأة القدرة على معرفة الرجال؟.

كان صديقه يواجه إسئلة الاستغراب كلما دار الحديث عن هذا الإختيار، وكان يجيب إجابات غير مقنعة، كلمات تخرج من فيه، ثم تتلاشى قبل ان تصل الى الآذان، لم يقتنع بها هو، فكيف يقنع بها الآخرين؟.. وكانت ومضة مجهولة تبرق في عينيه، ومضة لا يمكن فهمها، لكنها بالتأكيد ليس فيها شئ من الندم، إنما يختفي وراءها سرّ كبير.. سرّ يصعب عليه البوح به، أو حتى الاشارة اليه. وكان واضحاً عليه أنه ينوء بعبئه، يتحمل بداخله وخزاً مزعجاً، يبرق بعينيه من أثر الألم.

::::::

أطلقوا عليه لقب (حضرة المدير الخطأ)، سمع بهذه التسمية، استفزه صدقها، أقسم بداخله أن ينتقم من الذين يتلفظون بها، حتى لو كان همساً، حتى لو كان خفياً مع النفس، حتى لو كانت فكرة تدور في الذهن. سيقطع دابر الذين يرمونه بنظرات الإستصغار.. ليس أمام هذه العيون الفاحصة وقت طويل، سيطفئ هذه النظرات التي تخترق أعماقه.. سينشر الرعب من حوله، سيجعل الموظفين والمحيطين به يدينون له بالولاء القسري من فرط الخوف، وسيوسع دائرة الرعب هذه الى أقصى نقطة تطالها يده، ويده مبسوطة في البلد، فلم التردد إذن؟.

نزوة الضعيف حين تتمرد، فإنها تتفجر مجنونةً رعناء، عابثةً متهورة.. تنطلق كبركان من غضب أسود.. تضرب كإعصار طائش أعمى.

لن يصفه أحد بعد الآن بالبلادة والتلكؤ والنظرات الحائرة، سينفث عليهم ناراً، سيحول نظراتهم الى خوف دائم كلما مروا من أمامه أو ذكروا اسمه.

حين تأتي الضعيف قوة طارئة، فانه ينقلب بها الى كائن يمزق جلده، كائن يحرقه العطش، فلا يرتوي إلا حين يرى الذلة في عيون الآخرين.

لن يعترض أحد بعد اليوم على أقواله وأفعاله، سيطردهم من لحظتهم، يقطع عنهم أسباب الرزق من فورهم، يطوَح بهم في طرقات التعب والعوز.

الضعيف المنسي حين يلج دائرة الضوء دفعة واحدة، يتحول الى تنين مسعور، ينفث النار على كل شئ يرتاب فيه، فلا يتركه إلا بعد أن يتحول الى كومة من رماد. 

سيكون هو صاحب الرأي والقرار، سيجبر ذوي الحاجات على الركوع أمامه، سيجرد النفوس من عزتها، سينتزع نظرات الإحترام من العيون، والويل لمن تحدثه نفسه بمجادلته او الإعتراض عليه.

لقد حرم نفسه من الإبتسامة في العلن، فسيضحك ملء شدقيه بداخله، نشوة وزهواً.. فرصة لا تتكرر، وسيعرف كيف يستغل كل نقطة قوة في هذه الفرصة الطارئة، والبعد كل البعد لمن لا يمالئه ولو كذباً مكشوفاً.

  يتبع، فالقصة لم تنته بعد.. إنها طويلة جداً

في نصوص اليوم