نصوص أدبية

حضرة البليد (3)

طلب منه رب عمله السابق، أن يكتب مقدمة لمجموعة شعرية، استجاب للأمر، أحس بنشوة داخلية غامرة، لقد نال رضى صاحب العمل حين أناط به كتابة المقدمة، فهذه أول مرة يطلب منه شخص أن يكتب.. كان على يقين تام أن أحداً لن يكتب هذه المقدمة، فقد أشيع انها مجموعة مشتراة، لكنه رضي بهذا التكليف، وجد فيه فرصة نادرة جاد الزمان بها، لقد أمضى عقود عمره هامشياً، لم يكتب لجريدة او مجلة، لم يطلب أحد منه ان يكتب وريقات بسيطة.. وهاي هي تلوح أمامه فرصة براقة، بأضوائها التي تأخذ بالأبصار، بسحرها الخيالي الناعم، بألوانها الزاهية الخلابة، قفزت اليه من عتمة الغرفة المنزوية في بناية قديمة، فكيف يفرط بها؟.

عاد الى منزله مسرع الخطى، يتأبط المجموعة الشعرية، يرفعها بين دقيقة وأخرى أمام عينيه، ليتأكد من سلامتها.. تساقطت قطرات من المطر، ضمها الى صدره، حشرها تحت سترته ناحية القلب، أبقى يده عليها خوف أن تنزلق، توقف المطر الناعم، أبقاها محفوظة في مأمنها، فربما هي خدعة السماء تريد أن تحطم حلمه.. لن يحرك يده عنها، سيبقيها ملتصقه بصدره حتى لو صارت جمرة من نار.

تعثرت خطاه عدة مرات، وفي واحدة منها ارتطم بحافة باب موارب، فزع من الصرير رغم كونه خافتاً، سار عدة خطوات، ثم عاد يتفحص المكان، خشية أن تكون ورقة قد فلتت منه.. عاد يواصل سيره بخطوات متسارعة، تباطأت خطواته تدريجياً، دهمه إحساس طاغ، بأن ورقة قد انزلقت، عاد الى مكان الإرتطام مهرولاً، تفحصه من جديد، جال ببصره عبر الشارع والرصيف المقابل، لا أثر لورقة.. إنها هواجس الحرص الخداعة.. هذه يدي تضغط بقوتها الخرافية على رزمة الأوراق، لن تفلت واحده منها، لن أدع الإعصار العاتي يحرك حوافها، سأبلغ بها المنزل بأمان، سأحشرها تحت جلدي إن عاودت السماء مطرها، سأدسها تحت شغاف القلب إن اعترضني عابث في الطريق، إنها أوراق الحظ جاد بها عليّ رب العمل.. سأقرأها طوال الليل والنهار، سأعيد قراءتها حتى أحفظها عن ظهر قلب، وسأكتب عنها عصارة فكري وروحي.. لك البشرى أيها السيد النبيل حين أمرتني بالكتابة عنها.

بلغ عتبة منزله، تلفت يمنة ويسرة، لقد راوده شعور مزعج بأن عيناً تلاحقه، تترصده من مكان خفي.. استدار نصف دورة، غطى الشارع الهادئ بنظرات متفحصة، أطال النظر الى جذوع الأشجار الضخمة على جانبي الطريق.. أين يختفي صاحب العيون المترصدة؟.. من هذا الذي يتوارى عن الانظار؟.. أيريد أن يسرقها مني؟.. أيكون رب العمل قد عدل عن رأيه، فبعث من يستعيدها؟.. هل علم سراق الحظوظ بأمري فجاءوا ينتزعونها مني؟.. لن تفلت هذه الأوراق أبداً، ولن تضيع الفرصة.

 

تجاوز منزله عدة خطوات، ثم استدار بسرعة خاطفة، يريد أن يباغت المتعقب، كان الشارع خالياً، هدأت روحه، عب نفساً عميقاً، انعشته رطوبة الهواء، فتشجع على فتح الباب بسرعة.

لم يدخل البيت، بقي خلف الباب يتسمع الخطوات في الشارع، ربما يكون المتعقب يدبر أمراً.. لصق أذنه بالباب، لم يسمع شيئاً، استبدلها بالثانية، ربما تكون هذه معطوبة لا تلتقط صوت الأعداء.. لكن الصمت هو الصمت.

::::::

قرأ المجموعة الشعرية ثلاث عشرة مرة، وفي كل مرة كان يتردد في الكتابة، تقفز أمام عينيه صور وأشكال وكلمات تردعه بقسوة، تحذره من مسك القلم.. لقد كان بالأمس الاستاذ الجامعي، يلقي محاضراته على عشرات الطلاب، فكيف يتداعى من كرسي التدريس الى كتابة مدفوعة الثمن، عن أوراق تحوم حولها الشبهات؟..

كان يتراجع، يدفع بالأوراق والقلم والمنضدة، ينهض منتصباً كرمح محارب، تملأه إرادة الرفض، يحس بنبض عنيف في صدره، يزيده قوة وتمسكاً بالرفض.. لكنه ما أن يبلغ باب الغرفة حتى تنتابه رجفة غامضة، هادئة خفيفة، إلا أنها تحني قامته المنتصبة، تسكت نبض الرفض في صدره، تحطم إرادته وكبرياءه، تعود به الى الأوراق، فيجلس يقرؤها من جديد.

في آخر مرة قرأ فيها الأوراق، إختفت الصور والاشكال والكلمات، أمسك بالقلم، نزع تأريخه من رأسه، ألقى به بعيداً، وراح يكتب.

ملأ الصفحات بسطور سود، لم يقرأ ما كتب خشية أن يتراجع، أن يتفجر كبرياء المعلم فيحرق الأوراق.. أوهمته بلادته أن رب عمله هو القارئ الوحيد، فمضى يكتب بحماسة المصان من النقد.

أتمها، وضع القلم جانباً، تدحرج القلم بسرعة، سقط أرضاً، إنكسرت ريشته، رشحت منه قطرات من الحبر، هاله لونها وشكلها، كانت مقززة تشبه القيح، تترجرج كسائل لزج.. مدَ سبابته يتلمسها، كانت باردة كقطعة ثلج، ثم سرعان ما إمتصها جلده، نفذت في دمه، شعر ببرودتها تتحرك في عروقه، فاستسلم لخدر منعش تمنى أن يطول به لآخر العمر.

:::::::::

مع أول الصباح ذهب الى رب عمله، بادره بآيات التبجيل كما إعتاد في تحيته الصباحية، قدم له الأوراق بكلتا يديه، وانحناءة متوسلة حولته الى قوس متخشب. أذن له رب عمله بالجلوس، رمى بجسمه على الكرسي، حاول أن يجلس جلسته المعتادة، تعطلت ساقه اليمنى ان ترتقي الأخرى، تسمرت في مكانها، إنشغل عن سيد عمله بهذه الساق المتمردة، أتكون قد فقدت وظيفتها؟.. هل أعياها المشي المذعور في طريق قدومه فأصابها عطل الحركة؟.. وفيما هو كذلك إذ بادره الرجل الجالس وراء المكتب (إنها طويلة).

بداية غير مشجعة، صدمة جف لها ريقه، خفت النور في الغرفة، قدمت موجة ظلام من الشباك.. وتفجرت عاصفة ندم في صدره.. لقد كان يعلم انه تعمد الإطالة ليرضيه، لكن تخمينه جاء معكوساً، أيكون رب عمله قد اكتشف الدافع، فاراد ان يعريه بهذه الكلمة؟. ربما.. أليس هو رب عمله، ورب العمل يعلم كل شئ.. كيف سيتصرف إذا ما فاجأه بالحقيقة الموجعة ورفضها؟.. هل يعترف ويطلب السماح والصفح؟.. أم ينكر مستعيناً بنرجسية رب العمل؟

لم تطل حيرته، إذ برق الرضا في عيني الرجل.. فغمرته أمواج باردة من الراحة، أطفأت قلقه وأزالت طبقات الرعب من وجهه.

 يتبع، فالقصة لم تنته بعد.. إنها طويلة جداً

في نصوص اليوم