نصوص أدبية

حضرة البليد (4)

بجيوش الخبراء والمخططين والتقارير الخطيرة والمخططات التي تحرك الشعوب والحكومات والدول.

ها هو أمامهم وجهاً لوجه، لا تفصله عنهم سوى بضع خطوات.. إنه يصافحهم بيده، يمسك أيديهم، يتحسس ملمسها، نفس الجلد البشري والملامح والأصوات.. لقد تفحص ذلك بدقة، وحدق كثيراً في رؤوسهم، يحاول أن يكتشف السرّ الغامض فيها، يريد ان يعرف ما تحويه من أشياء، شكلها، لونها، تلافيفها.. لا بد أنها من نمط آخر.

لم يداخله شك بأن هؤلاء الرجال يخفون في داخلهم شخصيات أخرى، لا يمكن أن يكونوا هؤلاء الذين سمع بهم ورآهم على التلفاز.. هل يفعل الحظ فعلة كهذه، فينتشله من النسيان الى حيث يجالس هؤلاء؟.. أيكون زلزال الجن قد ضرب البلاد فاستبدل الحقيقة بالوهم؟.. أم انه وباء الخطأ الذي اجتاح الرؤوس فحدث من أمره ما حدث؟.

كان يسمع بأسماء السياسيين من بلده، فيسقط في حفرة سحيقة العمق من الإسئلة الحائرة.. كيف يفكرون؟.. من الذي يلقنهم الكلام؟.. متى ينامون؟.. متى يستيقظون؟.. كيف يتخذون قراراتهم؟.. من معهم؟.. من ضدهم؟...

فكيف الحال مع هؤلاء القادمين من خلف الحدود، إنهم رجال بمواصفات خاصة، صنعتهم جهات فائقة السرية، دربتهم خبرات خفية لا يعلم بها أحد.. هؤلاء جاءوا ليسمعوا، ليعرفوا كل شئ.. إنهم جند الشيطان، بل هم شياطين الأرض والماء والهواء.. عيونهم تبرق بالمكر، نبراتهم فيها جرس الشرّ، بدلاتهم الأنيقة تخفي مؤامرة كبرى.. إن الحذر مطلوب من هؤلاء.

كان يحملق فيهم بذهول مفضوح، يجلس جلسته الثابتة ساقه اليمنى على اليسرى، وظهره مثبت على مسند الكرسي، يدفع به للخلف بين لحظة وأخرى، ليتأكد من إستقامة ظهره.. ويطيل النظر الى الوجوه، يسمع كلاماً لا يفهمه، يرى حركات لا يعرف معناها، يراهم يبتسمون تارة، ويقطبون تارة أخرى، يجهل السرّ في الحالتين.. ربما كانت إشارات خاصة لم يتعلمها بعد.

تمر عليه لحظات يختفي الصوت، يطبق السكون على القاعة الرحبة، فيهتز داخله برعب المفاجأة، إنه يرى شفاههم تتحرك، فما باله لا يسمع الكلام؟.. هل هي الإشارات ولغة الشفاه التي سمع عنها؟.. أتكون أجهزة الكترونية معقدة يحملونها في حقائبهم أحاطته بسور لا يراه فحجبت عنه الصوت؟.. هل أصيب بالصمم؟.

وفيما هو يصارع هواجس الحيرة، يفاجأ بهم يغادرون القاعة.

ذات مرة، رأى نفسه على شاشة التلفاز، رأى الآخرين يتحركون، يديرون رؤوسهم يميناً ويساراً، يغيرون جلستهم بين فترة وأخرى.. أما هو فكان تمثالاً خشبياً مركوناً في القاعة.

استاء لما رأى، فكر أن يعاقب موظفي التلفاز، أن يطردهم، يستبدلهم بكادر جديد، لقد تآمروا عليه، جعلوه يبدو في صورة البليد، إنه الأقوى من بين الآخرين.. أنا الذي أمنع وأقصي وأطرد.. أنا صاحب الكلمة النافذة، سأبدلهم بغيرهم، ينفخون في صوري روح الحياة والذكاء والحركة. لكنه تراجع فجأة.. قفزت في ذهنه فكرة سريعة، سيحلق شعر رأسه، سيتشبه برؤوس أولئك القادمين من وراء الحدود، سيجلس أمامهم وقد لمع رأسه ببريق الحنكة والحكمة، سيكون كأحدهم يسمع الصوت ويفهم الكلمات.. بل سيحلق لحيته وشاربيه، سيزيل كل معيقات الفهم والإدراك.

شعر براحة كبيرة، وهو في مظهره الجديد، لكنه في صباح اليوم التالي، وجد رأسه أكثر ثقلاً، فجدد حلاقته بشفرة حادة، وصار كلما ازعجه أمر، بادر الى الشفرة من فوره، يمررها على فروة رأسه نزولاً وصعوداً، يفعل ذلك أكثر من مرة في اليوم، وقد حلق رأسه ذات يوم سبع مرات من الظهيرة وحتى الشطر الأول من الليل. لكنه لم يجد تفسيراً للشعر المتساقط على وسادته صباح كل يوم رغم رأسه الحليق، وكان الذي يهون عليه أن شارباه لم ينبت شعرهما ثانية.

::::::::::

حين تشتعل أزمة في أروقة السياسة، يصاب بذعر بالغ، يرتجف كيانه كله، يتصبب نصفه الأيسر عرقاً، فيما يبقى الأيمن جافاً.. تحمر أذناه حمرة داكنة، تلتقطان الصوت بحساسية مرهفة، تتحرك رقبته حركة آلية مع مصدر الصوت.. ويرى الألوان فاقعة من حوله.

ذات مرة وفي واحدة من تلك الأزمات، طلبوا منه ان يشارك بمهمة وساطة، اسودت الدنيا بعينيه، ضاق الفضاء به، شعر بثقل كبير في صدره، وكان يلتقط إنفاسه بصعوبة المخنوق بحبل خشن.. لقد أدرك ان نهايته في المنصب باتت قريبة، إنهم يضعونه على محك الإختبار، سيعود فاشلاً وسيجد قرار إقالته موقعاً.

لم ينم ليلته، تحول فراشه الى اشواك حارة، تدور في رأسه عجلات حديدية صدئة، تصدر صوتاً مزعجاً.. وكان يكرر على نفسه سؤالاً واحداً:

ـ ماذا سأقول؟.

في تلك الليلة لم يتناول عشاءه، كان يحس بعطش شديد، لا يطفئه الماء البارد.. حاول الاتصال ببعض الاشخاص، عله يحصل على كلمة تنفعه، على رأي يستعين به في مهمته، لكنه كان يسمع منهم كلاماً لا يثبت في رأسه، كان الكلام زلقاً لا يعلق بتجاويف مخه.

في تلك الليلة عرف معنى الانتظار، أحس بثقله القاتل، كان يريد ان يحين الموعد ليتخلص من هذا الكابوس المرعب، وكان في نفس الوقت يتمنى لو يمتد الزمن به طويلاً حتى لا يواجه لحظة المصير.. رغبتان متصارعتان، يريدهما معاً في لحظة واحدة، ويمقتهما في نفس اللحظة.

حان الموعد، ذهب لمهمته مع آخرين، عاد لا يعرف ما دار وما جرى، سألوه، استعان بمن معه على الجواب.

كان يسمعهم يتجادولون، ولم يكن يعرف ما يقول، هل يؤيد ام يعترض؟. وقد أمضى الوقت كله متردداً بين الإثنين حتى نهض الجميع يودع بعضهم بعضا.

 

يتبع، فالقصة لم تنته بعد.. إنها طويلة جداً

 

في نصوص اليوم