نصوص أدبية

حضرة البليد (5)

جيئ بهم الى داخل الأسوار، حملوا البنادق منتشرين هنا وهناك، كانوا طيبين، لكنهم لم يبقوا كذلك، لسبب غامض صاروا غلاظاً شداداً، قيل أن ريحاً مسمومة لفحتهم ذات مساء، فأحرقت طيبتهم.. وقيل بل هي روح شريرة تحوم في تلك المنطقة، تظهر بين فترة وأخرى، تنفخ في وجوه الطيبين زفيراً نتناً ، فتقلب طباعهم، تنفذ في الأعماق فتغرز القسوة في القلوب، ثم يصابون بهوس البقاء.. ويذكر الناس قصصاً لأشخاص كانوا يعرفون بالطيبة والصلاح، لكن الروح الشريرة نفخت في وجوههم، فانقلبوا قساة عتاة.

وقال آخرون أن آلهة الغضب في رحلتها الى الشرق، توقفت في هذا المكان، وأرادت أن تصيره معبداً، لكنها وجدت أن الكهنة يتكاسلون عن عبادتها، ويتوقون لأخذ مكانها فحرّقتهم بحطب الشمس ونثرت رمادهم على كل البقعة، فصار من يطؤها يعشق الخلود. 

وكانت إمرأة عجوز تنام عند حافة النهر، تقول وهي تشير بعصاها الى حفرة يملأها الرماد، إن تنيناً خرج من باطنها ساعة الكسوف، تنين ضخم برأسين، كان جائعاً، فتصارع الرأسان، حتى أكل أحدهما الآخر، ثم تبول على هذه البقعة، فأزدهر فيها العمران وبرك الماء، وصار كل من يسكنها ويشم رائحتها، يصاب بجوع التنين. ومن يومها والعجوز تقيم عند حافة النهر، تخشى العودة الى كوخها في طرف المدينة، حذر أن تشم الرائحة فتصاب بما أصاب القوم.

وقال صياد قد بلغ من العمر عتياً، ينام بقاربه على الطرف الآخر من النهر، إن فيها عيناً مسحورة تصب ماءها في بركها وبحيراتها وجرفها، فمن يأكل من سمكها يلتاث عقله، وتفسد روحه، ويصاب بالهراش.

:::::

وسط تلك الأسوار والحرس والحكايات، كان يزداد خوفاً وقلقاً، وأكثر ما كان يخيفه خطر مجهول متربص به من ورائه، كان يدير رأسه بين فترة وأخرى ينظر خلفه، يريد أن يفاجئ الخطر بنظرة خاطفة، لكنه لا يرى سوى الجدار.

وكثيراً ما كان يسيطر عليه الخوف من عدوه الجاثم وراءه، وهو في إجتماع مهم مع كبار المسؤولين، فينشغل عنهم بما يتهدده، يستنفر حواسه كلها، لئلا يأخذه الخطر على حين غرة. وحين ينتهي الإجتماع ينتصب قائماً، ينظر خلفه فلا يرى سوى الجدار، يكرر الحركة ثلاث أو أربع مرات، قبل أن يبادره الحاضرون بتحية الوداع.

نشأ عنده خوف جديد، صار العدو المتستر يكمن على يمينه، على مبعدة ذراعين، خطر يريد أن يغلق عليه الجهات، فيحيط به من كل جانب.. سيقتل هذه العدو السري قبل أن ينال منه، قبل أن يكمل طوقه.. سيزيد الحرس من حوله، سيجعلهم يلتصقون به جلداً بجلد، حرس لا يأخذهم نوم ولا تعب، لا يطرف لهم جفن، عيونهم تبرق حيطة وحذراً، يسمعون الهمسة من بعيد، يباغتون الخطر قبل أن يرفع قدمه.. وسينشر العيون والآذان هنا وهناك، يتخيرهم من عشيرته ومواليه، فقد تكون للخطر المجهول أذرع وأشباه، سيسحق من لا تثبت طاعته.

ذات يوم دارت في ذهنه فكرة مقطوعة الجذور، ظنَ أن أحدهم يحدث نفسه بمنافسته ورهطه، قصد منزله متدرعاً بحرسه، قال له بنبرة حادة:

ـ نحن نسحق من يقف أمامنا.

:::::::

صار يرى أحلاماً لا يفهم معناها طوال الليل.. رأى مرة رجالاً يعرفهم منذ زمن، كان يتمنى ان يكون مثلهم، أو يكسب ودهم، لكنه الآن يمقتهم بشدة، يطلب منهم أن يتواروا عن نظره، يصرخ بهم بصوت يشبه رغاء الجمل، لكنهم لا يعيرونه إنتباهاً، يمضون في حديثهم مع بعضهم.. يكرر صراخه بصوت أعلى، فلا يلتفتون اليه، يبقون على هدوئهم تغمر وجوههم إشراقة واثقة، تزيده حنقاً، تحرق أحشاءه بغضاً.. يستعين بعصا لها رأس ذئب، يلوح بها كالممسوس، يهم أن يهجم عليهم، لكنه يرتعد خائفاً، فيجلس في زاوية قصية، يبكي بصوت ضعيف يشبه ضغيب الأرنب.

ورأى نفسه مرة، يجلس على عرش مرتفع بمقابض من فحم، وخلف رأسه حيوان بعين واحدة وأذن واحدة، تمر أمامه أجساد أنهكها التعب والجوع، وقد قيدوا بسلاسل صدئة، وحينما يبلغون موقع العرش تنتصب قاماتهم، تتورد خدودهم حيوية، تبرق عيونهم نشاطاً وكبرياءً، يرمقونه بنظرة إزرداء، يضحكون بصوت عال.. فيتفجر غضبه المجنون، يصرخ بهم صرخة خرساء لا يسمعها غيره، يكرر صراخه، يقذفهم بالسباب والشتائم مراراً حتى يزبد شدقاه، لكن احداً لا يسمعه، فيعييه الصراخ، ويجلس يلتهم قطعة الفحم من مسند العرش.

وذات مرة رأى في منامه، عيوناً تخرج من الظلام تحدق فيه من مسافة قريبة، تتزايد عدداً، تتضاعف كل دقيقة، فيهرول مبتعداً لكن المسافة تبقى كما هي لا تزيد ولا تقصر، يغمض عينيه بقوة، لكنه يكتشف أنه بلا جفنين، يضع كفيه على وجهه، فيجد ثقباً فيهما، يواصل هرولته وقد تصبب جسمه عرقاً ذا لون أصفر، ثم ينتهي الى أرض مهجورة، تكسوها طبقات من الملح وملابس قديمة وأوان مهشمة، كلها مهشمة، ماعدا إبريق ماء يمسكه صبي نحيل.. يطلب منه ان يغسل وجهه ويديه، فيسأله الصبي:

ـ هل تعود؟

يبقى صامتاً لوقت لا يعرف مدته، وقبل أن يجيب بالرفض، يضع الصبي الإبريق ويتوارى، ويتحول الماء الى زيت اسود.

كانت الأحلام المزعجة تدهمه طوال الليل، حتى صار يضيق صدره مع الغروب، يتمنى لو طال النهار به، لو استمر لساعات أخر، لكن الأمر كان يجري خلاف رغبته، فقد صار يشعر بالنهار قصيراً، يمر بسرعة لم يعهدها من قبل. ما بال الزمن قد إختل نظامه عندما توليت المنصب الجديد؟.

أيعقل أن قوى خفية تتحكم بعقارب الساعة؟.. قوى غير مرئية تبادلني العداء تريد أن تسقطني في دوامة الخوف والقلق؟.

هل هي نظرات الحاسدين تتدخل بحركة الليل والنهار؟.

سأسحق قدراتهم الخفية، سأحطم ما في النفوس، وأنا الذي يملك المنصب وفرصة العمر، سأطيل الزمن ما استطعت، فهذه قلعتي الحصينة، وسأزيد السور علواً، سأضاعف الحرس عدداً.. حرس يطرد الأشباح والهواجس والمخاوف.

 يتبع، فالقصة لم تنته بعد.. إنها طويلة جداً

في نصوص اليوم