نصوص أدبية

حضرة البليد (6)

فقد صار يقضم ظفر سبابته اليمنى كلما أخلد للنوم، ولم يعد يطيق سماع الصوت الخافت، كان يحشر قطعاً مطاطية في أذنيه، لكنه يبقى يسمع الأصوات، يعصر رأسه بالوسادة، يضغط بكلتا يديه.. لا فائدة فالصوت يخترق أذنيه حاداً مثل الصفير. وحين ينتزع القطع المطاطية يراها قد تحولت الى مادة متخشبة خشنة سوداء اللون وقد ملئت ثقوباً.

كما صار مسكوناً بالشك، يرتاب من كل شئ، من الطعام والشراب، من كل عين تنظر اليه، من كل شفتين تنبسان بكلمات خافتة، من كل قلم يكتب على ورقة.. وكان الشك ينمو بسرعة مع كل يوم، يتضاعف حجمه، يضج برأسه وكيانه، يوقظه وسط الليل، يقلقه عند الخلوة، يعكر نهاره.

كان يستيقظ على كف خفية تدفعه من الخلف، كفّ صلبة غاضبة، كان يتحسس أصابعها الخمسة القوية على ظهره، تستمر بدفعه حتى ينسل من فراشه، ثم تواصل بعد ذلك سيرتها بأوقات غير منتظمة طيلة النهار. لكن دفعها كان يشتد عند الفجر والزوال والمغيب، وحين يولي وجهه شطر الجنوب الغربي، فلا يعد يقوى على الوقوف بثبات. وكان في هذه الأوقات الثلاثة حين يغسل وجهه وذراعيه، فانها تجف من لحظتها، ثم يلحظ قطرة دم على سبابته اليمنى، وتتداخل في أذنيه أصوات خافتة.. صرير باب حديدي، أنين جسد منهك، نحيب إمرأة ضعيفة، شكوى إنسان مهموم.

وكان في بعض الأيام وهو يجاهد ليستقر في وقفته، يرى ممراً طويلاً أمامه في نهايته نار مستعرة وسط ظلام دامس، ويرى خلفه درباً هادئاً ينبعث منه نسيم رقيق، فيود أن يعود، ويرغب أن يمضي، وفيما هو يصارع نفسه، تخطو قدماه الى الأمام، فيختفي النسيم والهدوء، ويزداد الصخب في أذنيه، فيما تزداد النار إشتعالاً.

:::::::::::

استيقظ ذات يوم وقد إختفى وخز التأنيب، لم يعد يشعر بالألم، كان يظن انه سكون مؤقت وسيعاوده الألم مرة أخرى، لكنه امضى يومه والأيام التالية دون ان يشعر به مطلقاً.. لقد إختفت تلك الوخزات الحادة، تلاشت كلياً، كما اختفت صرخات داخلية كان يسمعها بين فترة وأخرى، حين ينفرد مع نفسه يسترجع ماضيه وايامه الخوالي.

والأكثر من ذلك أنه بدأ يسمع صوت الضحك ينطلق من داخله مجلجلاً، حين يعيق أمراً وحين يخرج من مكتبه الزائر وقد كسته الخيبة، وحين يعبس بوجهه أمام موظفيه.

ففي مرة من المرات، جاءه موظف يحمل كتاباً مذيلاً بتوقيع الحاكم، يأمره بتنفيذ أمر عاجل، نظر الى الكتاب نظرة جامدة خالية من التعبير، مسك قلمه، ودفع بطرفه الكتاب، سقطت الورقة على الأرض، إنحنى الموظف المسكين يلتقطها، رفع رأسه وجده عابس الوجه.

خرج الموظف من مكتبه، مجروح الكرامة، أما هو فقد انطلقت ضحكة مجنونة بداخله، حتى حسب انها تتسرب الى فضاء الغرفة.. أسعدته الضحكة الشامتة، غمرته بنشوة لم يشعر بها طوال عمره، عبّ نفساً عميقاً واغمض عينيه يريد أن يتحسس كل لحظة من هذه السعادة الفياضة، يريد ان يمسكها بيديه، أن يتذوقها بطرف لسانه، أن يجعلها تدوم حتى نهاية العمر الطويل الطويل.

إعجبته النزوة، فراح يكررها مرات عديدة في اليوم الواحد، لتجلجل الضحكة في ظلام الروح.

وفي مرة أخرى قرر أن يطارد موظفاً برزقه وراحته وسكنه، فأرهقه بكتابة الطلبات، وفي كل مرة يريح نفسه بالرفض، ثم يعيد الكرة معه مرات ومرات.. كان يريد أن يحول هذا الإحساس الى سائل يستطيع ان يشربه، الى لقمة يمكن أن يمضغها على مهل.. يريد أن تدوم الضحكة الشامتة بداخله لتسكت كل صوت آخر.

لا أحد يعرف من ضحاياه السرَ الكامن وراء سلوكه، تجول الأسئلة في أذهانهم، يقلبونها على كل الوجوه، فلا يجدون جوابا.. وقد لاحظوا أن وجهه العابس يمتلأ بالبشاشة حين يجالس جلاديهم، ينقلب الى إنسان وديع، الى كائن أليف يتلطف مع ذوي الماضي الملوث بالدماء، يحقق أمانيهم، ينفذ طلباتهم ويبحث لهم عن المزيد.

قال شيخ الحكمة ذات يوم:

ـ يترك الجلاد في ضعاف النفوس من ضحاياه، جمرة فرعون.. جمرة بجانب القلب، تنطفئ كلما رأى القساة، فيصاب بالخنوع.. وتشتعل كلما رأى الضحايا فيصاب بجنون الانتقام.

كان ضحاياه من رفاق الأمس، من أخوة الطريق الطويل، من الذين أدمت الأشواك أقدامهم.. رجال قبضوا على الجمر وهجروا النعيم، أرادوا له ولغيره الخير.. تشردوا في الآفاق، ملأوا السجون، اخترقوا حافات الموت، ضاقت بهم الوديان والجبال والسهول، ثم عادوا، كانوا يريدون أن يكملوا ما بدأوا.. يوقدون شمعة هنا وثانية هناك.

وأراد بعضهم أن يركن الى بيته، يطعم صغاره لقمة من كد يمينه، وطلب بعضهم حقاً له سلبوه قبل سنين.. لقد انتظروا طويلاً، عضّوا على الجرح سنين عددا، فما ذهب صبرهم سدى، عادوا من وراء الحدود، وخرجوا من البيوت، يأملون بعيشة كريمة، بلمسة حانية تسكن بعض الوجع.. لكنهم وجدوه أمامهم.. وجه صخري، وقلب متيبس، وعقل ذابل.. وجدوه يصدهم صدود الناقم الموتور.

  ثمة ذئب صغير ولد في صدره، ذئب شرس يكبر كلما أذل إنساناً أو طرد موظفاً أو أرعب عاملاً، وكان يشعر بمخالب الذئب الجارحة، حادة حارة، تكاد تشق صدره فتخرج لتنهش هذا وذاك، لكنه يحبسه بين ضلوعه، يريده أن يتحرك بداخله، أن يهيج شراسة وعنفاً تحت جلده، فلا يخرج منه، ليكون هو مخالبه وأنيابه وعواءه.

إحمل عليهم أيها المسؤول، فلا قوة لهم ولا حول، لقد أنهكهم الزمان والسلطان المدفون.. أجهز عليهم، فبيمينك ريشة السلطان تفعل بها ما تريد.. فما رفقة الأمس إلا لحظة عبرت، إنتزعها من رأسك، واملأه أحلاماً بعدد آهاتهم.. وخذ من الدنيا المتاع.. ففيك جمرة فرعون.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1417 الجمعة 04/06/2010)

 

 

في نصوص اليوم