نصوص أدبية

حضرة البليد (7)

شعر بحرقة في حلقه، وطنيناً في أذنه اليمنى، وصفيراً خافتاً في اليسرى.. إزداد مزاجه حدة، قضى الليل يفرغ مثانته ست مرات كل ساعة، امتنع عن الشرب، فتضاعف إمتلاؤها.. وكان حين يضع رأسه على الوسادة، تنتابه قشعريرة شديدة، يلجأ الى الوقوف، فينضح عرقاً بارداً، ويتسرب الخدر الى ساقه اليمنى.

 

بعد طلوع الشمس شعر بأعياء لا يقاوم، حاول ان يستلقي على سريره، لم تسعفه قوته، فسقط على الأرض لدقائق معدودة، ثم استفاق نشطاً، وقد زالت متاعب الليلة الصعبة.. غير ان ما حدث، جعله ينقل عدواه الى الآخرين.. عدوى البلادة.

 

كانت عدواه من نوع خاص، إنها تصيب جالسيه بعد عشرين دقيقة، تنتقل إليهم دون علامات او عوارض، تتسرب اليهم من الكلمات والنظرات الباردة، فتخترق عقولهم، تستقر في صدورهم، تطبع حركاتهم وسكناتهم، فلا تزول منهم البلادة حتى يتربصوا بأنفسهم أربعين يوماً لا يجالسونه خلالها، فإن عادوا لازمتهم بقية حياتهم.

 

إنتشرت العدوى فيمن حوله من كبار الموظفين والمساعدين، سقطوا فيها دون شعور، لكنها توقفت عندهم، لم تتجاوزهم الى غيرهم. كما ضربت العدوى الحرس كلهم، حتى أولئك الذين لم يروه إلا على مبعدة ربع فرسخ، وكانت عدوى الحرس هي الأشد خطورة فمن بين كل أربعة مصابين، يفقد واحد منهم صوته ليومين متتالين من كل أسبوع، ويفقد سمعه في يومين متتالين آخرين، ويقضي اليوم الخامس في ذهول تام.

 

نجى من العدوى صغار الموظفين والخدم فقد كانوا في مناعة منها، ما عدا واحداً قيل أنه كان يعمل عيناً عليهم، وأنه كان يوافيه مساء كل يوم بما يدور بينهم.

 

وأشد ما لفت الانتباه، إن الذين أتموا المدة، وشفوا من عدواه، توقدوا ذكاءً، صاروا يحفظون ما يسمعون وما يقرأون عن ظهر قلب.. تكشّف عن عيونهم ما كان خافياً فيما مضى من زمنهم، كما رقت قلوبهم فلم يشعروا بعدها بضغينة او كره، أشرقت وجوههم بالابتسامة، عذب كلامهم ورخمت أصواتهم، وغمرتهم الراحة والهدوء.

 

:::::::::::::::::::::::::

 

في تلك الأيام تزايد الجوع والتخمة في آن، ناس يكدون نهارهم وليلهم فلا يجدون إلا لقمة مثلومة يتصبرون بها، فيما كان آخرون يزدادون ثراء، تتكدس أموالهم طبقات فوق بعضها البعض.. وكان هؤلاء من الذين اصابتهم عدوى بلادته، فقد إنتابهم جوع كافر لا يرحم.. جوع لا تشبعه إلا لقمة المسكين وكسرة الضعيف ودواء العليل. فانقلبوا الى سراق، وقطاع طرق، ومحتالين.. كانوا يتهامسون ليلاً قرب بئر الرماد وبركة السمك المسحور وشجرة الصدأ، يقلبون الأوراق على ضوء مصباح من تسعة رؤوس.. يتهامسون بأصوات يخالطها فحيح الأفاعي. يقلبون الأوراق على عجل، يتفقون بسرعة نادرة، يقسمونها بينهم لفافات مشدودة بذيول الفئران.. يمضون شطراً من الليل، فلا يتفرقون إلا عند السحر، وقد ضم كل منهم لفاقته الى صدره، يحرص عليها من الضياع.. وفي تلك اللحظة تدمع عيون أربعة عشر قديساً.. ويغمر التراب القرطاس الكبير، لكنهم يصرفون أنظارهم الى حيث اللفافات، فلا يريدون ان يروا عيون القديسين ولا القرطاس المهجور.

 

وفي تلك اللحظة يموت طفل ويبكي رجل وتعرى إمرأة.

 

يبلغون منازلهم وقد زادوا الحرس عدداً، يتفحصون غرف النوم بعيون حذرة، يوصدون الأبواب بإحكام، يستلقون على مقاعد من جلد أسود، ثم يقفزون مذعورين صوب الأبواب، يعيدون إحكامها ثانية.. يفعلون ذلك بوقت واحد، لا يتقدم أحدهم على البقية ولا يتأخر.. حركات متطابقة تجري دون شعور منهم، تصنعها الروح الشريرة الهائمة في المكان.

 

ينامون وقد وضعوا لفافات الأوراق تحت وسائدهم، تنبعث منها رائحة تشبه جلد الضبع، فيأنسون بها، ويسقطون في نوم قلق مضطرب، تتلاحق به الكوابيس طوال الوقت.. كوابيس متشابهة تتسلسل بنفس الوقت، تزفر أنوفهم أبخرة بلون رمادي داكن، كريهة تخترق الأبواب والشبابيك والجدران، فتضطرب منها الطيور وتحلق بعيدة عالية في السماء.

 

يأتي الصباح بلا شمس، حجبتها عواصف رملية، يخرجون من بيوتهم متعجلين، وقد حشروا لفافات الاوراق تحت ملابسهم، يصلون الى مكاتبهم، ويكون البليد قد سبقهم بنحو ساعة.. يبعثون لفافاتهم مع رسلهم الى هذا وذاك، الى هنا وهناك، ثم ينتظرون عودتهم وقد ثقل وزنهم.. يحمل كل واحد منهم قضمة من لقمة فقير، يأكلونها بشراهة.

 

في تلك اللحظة يموت طفل ويبكي رجل وتعرى إمرأة.

 

يتبع، فالقصة لم تنته بعد.. إنها طويلة جداً.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1418 السبت 05/06/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم