نصوص أدبية

حلم على غدير الشوق / هناء شوقي

كبرت وكبر الحلم معي، اللوح الحجري يستأنس الزاد راغبا ً بالمزيد .

قنوعُ البيان لا يكبر! كان الحي معطرا ً بألفة البشر، شذاه يصل بقاع الجوار، من بين أشجار التين وأكواز الصبّار وحر تموز، تعلمت التأني، وأتقنت الصبر، ومن بين أكواز الرمان ونوّار اللوز وحكايا الجدة حلّيتُ حلمي، فازدان ليعبق بين الروح والجسد.

لكن!!

كلما تعمقت بالروح أكثر، بات الحلم أغلى والجسد أكثر إيغالاً في الألم:

كعلاقة الشمس  بالنبات الضوئي، ينحني لدفئها، ويبكي من لهيبها،

لو أثقلت على أطرافه أحرقت.

تبلور القوام، وعبير الأنوثة أخذ يفوح حتى تعطر به من استحقه. أخذ الحلم منحنى الإفلات من شدة العصيان، مصادر التقلب لم تكن بالحسبان، أصبح الحب منتهكا ً، حتى ابتلعه إغراء الرغبات فتلاشى الحلم.

كلما عطـّر الجسد أنف رغبته، ازداد نضوجه، لمع بريقا ً يخلب الأبصار، حتى ضُرب ضربة إغواء حينما هبّت رياحٌ لزجة أثقلت العبث، وألبست الجسد غواية ملتهبةً باعدت بين وترين على سلم موسيقي ليصبحا عازفين منفردين لآلتين مختلفتين.

كانت تئن حاجة الجسد للروح ، إلا أن ذيل الجسد تشعبَ ليصبح فارّا ً بدواخل مشروخة، من ضربة جاءته بنقي الدماغ، فأعادت صرحه القديم له: الحلم من جديد ، الذي أحاط أياما ً سالفة من كل جانب.

في غفوة من اليقظة تحول المكان إلى أثير مطرز بألوان تشبه الجنة التي وعد بها بنو البشر إذا استقاموا، أعاد المشهد تشكيل جراح الحلم الغارق في صقيع التمني.

حط ّ أقدامه على الأرض ِ كما لو كانت أول مرة، رويدا رويدا شقّ النعاس خيوط اليقظة. استقر الحلم بين الجفن والفؤاد، تلاشى الجسد، صخبت الروح كقرع طبول في أعراس. كان مارا ً من منطقة بعيدة في الذاكرة بظلام ٍ خال ٍ من مقصد، برق نجم المرور فأجفل الدماغ لينتفض الحلم. حدقت به من بعيد، خفق القلبُ وغمغم، باعد بين شفتيه لينطق، أغمضتُ عينيّ لأنصت، صمت من جديد ليهز البدن بعدما استولى على الحصن بكامل فتاته.

كانت الصرخة مدوية، أيقنت حينها أن أبعد الأمنيات قد تكون أقرب إلينا مما نتخيل، بالحلم التقيته، سأنام كلما دبّ الشوق في صدري، وسألقاه! على باب الحلم ينتظرني، كان كلما انزلق النهار أفيق بلا إرادة، أشكو صمتي الأخرس لمرآة نفسي، متمنية اللحاق بي في حلم مليء بالرجفات.

 

ذات حلمٍ كنتُ أداعب شعري،  والاسترخاء يعلن الانتظار، اقترب مني وشقّ عتم الفؤاد. لفظت أنفاسي، استمد قوته من خجلي، كان الارتباك ينشط الرغبة ويزود الحلم بفخ الاستمرار. استسلم العناد برقة، وغفا الحلم برفقتنا. على ضفاف غدير الشوق بقي الصمت في الهواء! أبى التحرك وأخذ الغدير يبعث قطرةً قطرة ليروي القلب جفافه.

قصصت الأنفاس إلى الدماغ فصحوت من حلم رجوتُ ألا ينتهي.

 قلت: ما أجملك يا ضعفي !

 

في غفوتي حلمي، وفي حلمي رغبة حياتي، سأغفو باستمرار لأعيش حلما ً بعيدا ً عن البشر والأنظار. سرقني اليوم كلص ٍ جائع، أغفل عني حلمي، أكلتني المسافات، مضغني الشوق، أقعدني كمن به جراح ٌعميقة، فلفظتُ أنفاسي ليلتصق الكلامُ في حنجرتي! عبسَ الحلم، امتشق الضياء وغاب. كجرداء بأرض قاحلة، جافاني النوم وهزّ أرضي لأقبع بذيل الزمن، لا أطال الحلم في نومي ولا الحياة في نهاري.

تاهت نفسي عن  نفسي، انشطرت اللغة، تشوشت تراتيل القوام، فاتخذت النوم الأبدي قراري، ولأحلم به على الدوام.

كانت الغرفة بيضاء الجدران، فارغة ً الا من سرير. كان السرير بتولا ً بشرشفه الأبيض، كنت عروسا بملاءة ٍ بيضاء. تراخت القامة. ارتفعت الأكف تُسبحُ الخالق لتشحذ ابتسامة من عرس الرحيل، تاه الحلم عن الغفوة، أخذت أودع الجسد بالزهور. رششته حتى غرق بالألوان قبل البعث. ابتلعتُ سٌمّ الموت وغصصتُ في صدري حتى بدأ الدم يخفي تدفقه. أرخيت جثتي على ذاك السرير ليحملني عروسا في حلمي، أغمضتُ عينيّ، فشممتُ رائحته التي تطابق نومي، اقترب مني، نزع عني الملاءة البيضاء فحل الضياء. كنت أروي ذبوله، وكان يَسقي براعمي، أصبحنا راقصين على إيقاع منتظم ومنفرد بعالم أبدي.

الجسد راقد بغفوته، والحلم عروس أرضه الخصبة...

 

هناء شوقي- الناصرة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1472 الخميس 29/07/2010)

 

 

في نصوص اليوم