نصوص أدبية

لغة تحتاج الى تدوين / عقيل العبود

 هنالك بعيدا عن مغريات الواجهات الزجاجية الأنيقة، تلك التي تدور خلال بريقها فاتنات يرسمن الإبتسامة في وجوه المتسوقين، طمعا بشدهم الى زخرفة معروضات البيع وبريق الإكسسوارات التي تشغل مساحة هائلة من ألأرض .

 مضافا إليها مساحات ال   McDonald s أي مطاعم الوجبات السريعة، التي تتهيأ يوميا، لإستقبال مهارات أكثر إغراءا في عروض الزينة الفاخرة مع الملامح الأخاذة، كوسيلة من وسائل الجذب، التي تعد أحد الشروط المهمة، لعمل شركات البزنز BUSINESS  واسواقها المكتظة بأرصدة رؤوس الأموال،

 

لهذا إذ نظرًا لشروط تلك البقعة، قررت فقط  أن ادعو نفسي، لتناول كريم الفانيلا، ليس تلبية لذائقتي، بل إستجابة لما تمليه جاذبية المكان ورغبة لما تفرضه تلك المسارات من الفطرة، لإن تأخذ طريقها الى التأمل والإسترخاء بعيدا عن عالم تتسارع فيه حركة رأس المال وتتطور فيه لغة التكنولوجيا الحديثة، لتفرض أنماطا من الموضوعات، جميعها تندرج تحت تأثيرات زمن متسارع ؛   

 

فيزياء الجسم ـ حركة الأشياء ـ لغة العقل ـ هندسة المكان ـ الناس ـ إختلاف البشر،  لغات أراها تتحرك بطريقة لا يستشعرها إلا من أتيح لشروط وحدته أن تأخذ طريقها الى فضاءات تلك العوالم، تلك التي تحتاج الى بصيرة تقدر أن تستوعب حركة التفاصيل، كما تلك  الذبذبات  التي تحتاج الى توليف دائم في ادارة الاقمار .

 

الوصف ـ سكة الحديد المعلقة فوق سيور عالية محاطة بكتل خضراء ترفل في مناخ ساندياكو، العربات تلك الفضاءات الحمراء المتماسكة، يوميا تتحرك بطريقتها المعهودة، لكأنها تتحدث عن كائنات تمشي وفقا لتأثيرات تحكمها قضايا شتى ؛ اسرار هذه الكائنات، سجلات مقفلة تنتابها عوامل لا يمكن للإنسان أن يستدرجها بطريقة هذا التكرار .

 

المسافرون هم أولئك الذين يتحركون بين مناطق سكناهم وأمكنة عملهم، من غرب الولاية الى شرقها وبالعكس ـ الكتل الحديدية، تجاويف ترتبط كما عقارب الزمن بطريقة معادلة ثابتة، لكأنها تستضيف اسراب ارواح تبحث عن منتجعات صيفية  أو نفوس تحكمها متطلبات عالم مكتظ،

 

ما يرتسم حولي سيناريو، استرجع عبره صفير القطار الصاعد والنازل أيام زمان، مضافا اليه تباطوء عربات شحن أتعبها الإنتظار، أبان رحلتها من الجنوب الى الشمال، لكي تتعانق مع نوبة (فاركون) معطل في منطقة تكتنزها صفرة عمود كهربائي، يبحث عن مصباح شاحب ورصيف يبحث عن سندويشة جائعة، وقرية تضمها بيوتات طينية عائمة فوق مجمعات من البرك المائية، يسكنها عواء كلاب تحب النباح، وأطفال يبحثون عن طرقات تساعدهم للوصول الى مدارسهم  الطينية، تلك التي تحتويها بقاع ممطرة .

 

بينما بعكس ذلك،  تسري قربي صورة كرفانات محاطة بمناظر لها علاقة بأشجار وبنايات تسير بطريقة ونظام يكاد أن يكون متناسقا مع روعة ذلك النسيج، الذي يظهر عظمة ما توصل إليه الإنسان في عالم الصناعات المتقنة ؛ 

 

لذلك عند تلك الزاوية تحديدًا، بينما بقية الطاولات تأخذ طريقها الى إحاديث الجالسين من الزبائن، الذين يحضرون يوميا لإغراض تخص التسوق، أوربما أملا بلقاءات عابرة أوسريعة مع أصدقائهم وذويهم،

فضلت الجلوس بصحبة منضدة مختصة بالإنفراد، هكذا يطيب لي تسميتها مع قرارة نفسي، رغم أنها محاطة بثلاثة كراسي، ربما لكي أتمكن من محاكاة نفسي بعيداً عن أخطبوط خارطة شائكة .  

 

الموضوعات بناءًا على مؤتمرات مشاعري، تمضي سريعا، تشدها انفاس متعبة وتصورات تحتاج الى اختبارات، وفقا لخطوط مساراتها المحمولة، ربما لكي تفرض صحتها، اولتبرهن أحقيتها بين أوساط نسيج ثقافي وإجتماعي قاصر، اوربما لتعلن تمردها ضد اخطبوطات تسعى لإلتهام ما يحيط بها من جبروت ؛

 

المهم بحسب ما يبدو، هو ما يختبيء في محيط ذواتنا، أويمضي بناءًا على مقاسات تسطع خلف خطوط لا تدركها الأبصار، باعتبار ان تجاوب مشاعرنا مع مطلق ألأشياء، يخضع  لما ينتابنا من أحاسيس، الأحاسيس هنا تتغير رغم تشابه الموضوعات، ألإنفعالات، ألأفكار تتغير،

 

 اي ان ما نشعر به تجاه الأشياء والصور يشبه إيقاعات ترن في مسامعنا، تدب في أحاسيسنا بين الفينة والفينة، تتغير بين لحظة وضحاها ؛ القضايا بناءا على ما أنا عليه، أي بناءا على ما أشعر به صور لعوالم  وسياسات وتواريخ وعقول وشخصيات تجمعها مساحات ومربعات من المتشابهات والمتغيرات ؛ تقترب تارة ـ تبتعد تارة ـتختبيء تارة ـ وتختلف تارة أخرى .

 

القديم بناءًا على ذلك، أصوات تتلوها أصداء ما تبقى من عناوين لإصدقاء ماض أصيل، ترتبط بشخصياتهم، بتطلعاتهم، بامزجتهم، بطبيعة ضحكاتهم ونكاتهم، بلباسهم، بأنماط تكوينهم، بطرائقهم في العيش، بمأكلهم، بإحلامهم .

 

بينما الجديد يشتمل على شخصيات حاضر هزيل لا علاقة له  بمعاناة ما تبقى، المهم بناءا على ما يفرضه الحاضر هذا، هو ما يتحقق لإغلبية شخوصه  من منافع وأمتيازات وشهرة .

 

المعنى ان ما يطل علينا من صور اوموضوعات هي خطوط تكاد ان تفصح عن حركة متشابهة في مسيرتها المادية الفيزيقية المكانية، لكأنها عربات القطار هذا، الذي يمضي من النقطة( أ إلى النقطة  ب)، بيد أنها تحمل عبر مسيرتها المحمولة فوق ركام أحاسيسنا خطوات شائكة تتقاطع مع ما نصبو إليه نحن، ويكأنها فاركونات شحن تحمل  أعباءا مثقلة بمرارة واقع عكر   .

 

ولهذا تراني رحت مسافرا تتلقفني خطوط سكتي، التي راحت تحمل مسافات خطاها صوب تلك البقعة البعيدة من الحياة،

 

هنالك وجدت نفسي نائيا أستنشق روعة تمردي وكبرياء عزلتي، هنالك إلتقيت بمسافرين شتى ومحطات شتى، إلتقيت بإحياء وتعارفت الى اموات،

 

 هنالك إتجهت صوب اشواط رحلتي المعهودة، لإتطلع مرة أخرى الى ارصفة حزينة وشوارع تسكن أطرافها جذوع نخيلات متساقطة ودكاكين تسكنها قطط وعناكب وازقة تستغرقها أشباح مضافا إليها لغة قريبة بعض الشيء الى العبرانية وصحبة ترافقها قبور تهاوت بعض أطرافها،

اتحدت ذاكرتي كما يبدو وبطريقة ما مع تلك القوافل، إلتقيت بأزمنة غاب ذكرها عنا، أسماء لم تحضر مهرجاناتنا، الشمس صار عليها أن تبرهن لحظة قدوم المساء، الألوان صار لها بريقا آخر ؛ توحدي مع المكان صار له عمقا أكبر في دائرة الأشياء .  

 

الغربة كما أحسستها، زمن يجبرك لإن تكون رفيقا حميما لوحدتك الحسية، تتفاوض معها رغم ان ذلك بحسب ما يبدو  يحمل شروط عزلة قائمة وغياب ممل ؛ اما انا فأسميه حضور مشوق، باعتباره يمنحني الفرصة لإن أبحر مرةً ً بعد مرة  الى أقصى  ذروة فيه، ليس عبثا أوتكرارا، بل ربما لإستضافة أفياء جديدة وحضورات جديدة،  وربما بحثا عن  قوانين جديدة،أستقريء بواسطتها مظاهر حياتنا الحاضرة .

 

بناءا على تلك الخطوط اللامرئية، التي تحمل عبرها كيانات غير متجانسة من العابرين : طلاب جامعات ـ موظفون ـ طالبات ـ متسكعون ـ متسكعات، إلخ  ؛ 

 

الصناديق الحمراء(قطار مدينتي) مستطيلات تتحرك، لكأنها  تتحدث عن أسرار مغارات هذه الحياة المحكومة بحركة الزمن، أما الوجود المكاني فهو عنوان يشاغل موتنا المكرر، ليتنا نحلق عند سحاباته  الغارقة بالموضوعات .

 

حركة البشر من الداخل والخارج كما أراها خطوط بحر  تتشابه الى حد ما مع انفاسنا هذه التي تستنشق الأوكسجين، لتنفذ ثاني اوكسيد الكاربون ؛ لكأنها تأتي بالحياة من الخارج، تستنجد بها، لتنفث صخب همومها، لعلها تحيا بطريقة ما تصبو إليه . 

لهذا تراني أسعى لإن اسجل مقولة وحدتي، أستنشق كبرياءها وفقا لحركة هذا العالم .

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1535 الاثنين 04/10/2010)

 

في نصوص اليوم