نصوص أدبية

أبكيتُ قلمي / سوزان سامي جميل

حاولتُ أن أجدَ لنفسي متنفساً في الغناءِ أو في الرقصِ أو في الأبداعِ، لكن الألمَ هو الألمُ، إذا مَسّكَ، لايتركُ فيك إحساساً إلا ويدمّره، وأخيراً قررّتُ الكتابةَ؛ أطلقتُ العنانَ لقلمي، وناشدتّهُ بألاّ يصمتَ هذه المرّة، وأنْ يخطَّ ويدوّنَ كلَّ ما يدورُ في خلدي ونفسي فلربما تطيبُ ذاتيَ المسكينةُ بعدَها، وترقصُ أحلاميَ الكئيبةُ على أنغام قلبي البائسِ الحزين. آه.. إنها الغصّةُ التي كلفتني أعواماً، لا ولن تعود، وعششتْ غربانها على أشجار كياني المنهار فتوالدتْ، حتى غدتْ غصّاتٍ.

أحكمتُ قبضةَ عقلي على قلبي، وصنفتُ ذاكرتي على أنها مستودعٌ ألكترونيٌ عملاقٌ يجيدُ تخزينَ ما هو مرغوب فيه وإزالة ما هو عكس ذلك، ومن هنا وجب عليه إزالة بعض ما في زواياه من متراكمِ التفكير. قلّبتُ الصفحاتِ المهملةَ والغيرَ المقروءةِ، وبدأتُ أقرأُ، وأتمهلُ، وأتمعنُ في القراءة ، وتوقفتُ!! لماذا توقفتُ؟.. لأنني وجدتُ...وماذا وجدتُ؟.. ياللكارثةِ!!!!... إنني تاركةٌ لذاكرتي ومهمِلتُها منذ أمدٍ بعيدٍ جدّاً وعن سبق إصرارٍ و ترصدٍ. لماذا ياترى هذا الإهمالُ والإنكارُ لتاريخِ قلبٍ وروحٍ وجسدٍ؟ ولماذا وصلتُ أنا إلى ما أنا عليه؟؟

فتّشتُ في زوايا ذاكرتي المسكينةِ عن أعوام بعيدة قد مضى على رحيلها مايقارب العشرين عاماً ،ماذا؟  راجعتُ ما قلتُ: عشرون عاماً؟؟ هل يعقلُ أنْ ترقدَ ذاكرةٌ كل هذا الزمن؛ ذاكرةٌ مرهقةٌ ومهملةٌ لعشرين عام ؟؟.... آه ... لأقولها ثانية والحسرةُ تلهبُ صدري، لا بلْ وتزيدهُ لهباً. إنه الألم يمزّق أحشائي ويلتهمها كذئبٍ جائع؛ ألمُ الوحدة رغم وجود الآخرين حولي، وألمُ الإحساس بالذنب رغم كوني أنا المجنية عليها لاسوايَ، وألمُ القهرِ والإضطهادِ من الذين جعلتهم ،أنا، يحتلّون المراتب الأولى في مسيرة عمري.

ظلَّ شغفي بتصفّحِ ذاكرتي متواصلاً ، وبقيتُ أسردُ على نفسي الذكرياتِ المُرّةَ منها والحلوةَ... وبدأتُ أُسائلُني: لماذا حدثَ كلُ ماحدثَ؟؟ ولماذا لم يحدثَ ماوجب أن يحدثَ (على الأقل برأيي أنا)؟ مصيبةٌ أن يعيش داخلك شخصان!! وكارثةٌ، لافرار منها، أنْ يظلَّ الصراعُ قائما بينك وبينك إلى إشعارٍ آخر!!! آه....أتنهد بالآه ثانيةً. لماذا يصمت أحدنا رغم وقوعه في الهاوية؟  ولماذا لايحاول النفاذَ من أية فسحةٍ متوفرةٍ؟ ولماذا وإنْ حاول الخروجَ لايجد ذراعاً ممدودة أو حبلاً متدلّياً أو حتّى خيطاً واهياً لأنقاذهِ؟؟

تركتُ ذكرياتي جانباً، وبدأ الخيالُ يداعبُ فكري؛ لوكنت قد فعلتُ ذلك لما حدثَ هذا!! ولو لم أكنْ قد فعلتُ هذا لصارذلك!! وإذا صار كذا.....سيكون كذلك..... وهكذا صارتْ أمواجُ ال (لو) و ال (إذا)  تتقاذفني كأمواج بحرٍ هائج، حتى تحوّلَ إحساسي بالزمنِ والمكان إلى اللا أدري، وأخذني التأمّلُ بعيداً حيثُ جبال تحاكي السماء بعلوّها، و وديان تشقُّ قلب الأرض بعمقها فخالجني شعور بالضياع!!!. أدركتُ بعدها أني هُزمت!!...نعم هُزمتُ، وهالني إعترافي بهزيمتي، وكررتُ بتعجب: هل هُزمتُ حقّاً؟؟ أهزمتُ أنا؟؟ ربّاه! ماهذا الهُراء؟ وماهذه التفاهة؟ لماذا الأستسلامُ وروحي متلهفة للحياة؟ ولماذا أرضى بالخنوع وأنا أعشق الكبرياء؟ وكيف لي أن أُثبتَ لذاتي بأني ملكٌ لذاتي فقط؟ لا وألف لا...

صفعتُ نفسي الحمقى لتستفيق، ففي داخلي إحساسٌ قويٌّ ولذيذٌ للأبداع، وفي قلبي شوقٌ لاتنطفئ جذوته للعطاء. لقد صارَ ماصارَ وحدثَ ماحدثَ ، والزمن والعمر ماضيان بلا توقف، فلينتهي زمنُ العويلِ على الأطلالِ، ولتكفّ النفسُ عن النحيبِ والعينُ عن ذرفِ الدموع. إستعذتُ بالرحمن من وساوسي وقرّرتُ أن أحلُم من جديد... نعم، يجبُ أن أحلمَ ثانيةً بأملٍ ربيعيٍ أخضرٍ وحياةٍ خاليةٍ من الوساوس والشياطين. لماذا لاأُلقي بنفسي في أحضان مستقبل يزهو بلون الوردِ والعنبرِ،ولماذا لاأبحث في داخلي عن مكنونات الفرح والأبتهاج وأطوي صفحةً ال (كان) المحشوةِ بالقسوة واليأس... وبدأتْ براعمُ ربيعِ روحي المسكينة بالتفتح، وإبتدأتْ رسومُ الآتي القريبِ تحطُّ بظلالها على لوحاتِ خيالي القريب البعيد، و شعرت بنشوة العصفور الذي تعلّم الطيران لتوّهِ، وانتعشتْ روحي كفراشةٍ تحررت لتوّها من شرنقتها وحلّقتْ إلى الفضاء الرحب الواسع بجناحين ملونين بأحلى الألوان، فكم هو جميلٌ أن نحلُمَ بأحلامٍ وردية تنثر الأملَ ورودأ في حدائقِ ذاتنا، وكم هو رائعٌ أن نتركَ الحبَّ يداعبُ شرايينَ وأوردةَ أفئدتَنا البريئة.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1540 السبت 09/10/2010)

 

في نصوص اليوم