نصوص أدبية

العشاءُ الأخير / سوزان سامي جميل

وشكلُ الرجل يوحي بالإرهاقِ والقلقِ وكأنما لم تغمض له أجفان منذ زمن بعيد. حدّق بها بلهفة المشتاق، ثمّ أطالَ في التحديق. رمقته بنظرة من طرفِ عينها، وسألته بغنجٍ، وإبتسامة خجلٍ تعلو شفتيها الورديتين: لماذا تنظرُ إليّ هكذا؟ إنك تُربكني، سأنهضُ من هنا إن لم تكف عن التركيزِ في ملامحي . لم ينبسْ ببنتِ شفة، بل ظلّتْ عيناه تحدقان في تلك الهالةِ الغريبةِ التي تحيطُ بوجهها المشرقِ الجميل. كانت الأفكارُ تتلاعبُ بكلماته، فتارةً يقول لها : كم انتِ جميلة ، وتارةً يعاتبها على غيابها الطويلِ عنه ، وأخرى يسألها بتوسلٍ أن تبقى معه لمدةٍ أطول، على الأقل هذه المرّة. وكانتْ هي تتجاوبُ مع كلماتِه الرقيقةِ بابتسامةٍ ، أو ضحكةٍ ، أو تكوّر شفتيها لتطلق إليه قبلة في الهواء، كعادتها، عبر الطاولة، فتنتشي بها روحُه ،ويدغدغه الحنينُ والشوقُ لمعانقتها بقوة . طلبَ أن يضمَّ كفيها بين كفّيه فأبتْ مشيرةً إلى قدومِ النادل.

مشى النادلُ الجديدُ إليهما بخطى رشيقة، وفوطةٌ بيضاءٌ ناصعةٌ تتدلّى من على ساعدهِ الأيسر، وفي اليدِ اليمنى يحملُ قائمةُ الطعامِ ودفترَ الملاحظاتِ لتدوين الطلباتِ. بنحنحةٍ خفيفةٍ منه، نبّه النادلُ الجديد عن حضورهِ، وبادر بتحيةٍ مهذّبةٍ وقدّم قائمةَ الطعامِ للرجل فقط. تعجّبَ هذا منه ، إذ ليسَ من اللائقِ أن يقدّمَ النادلُ القائمةَ لرجلٍ دون أن يقدّمها للمرأةِ الجالسةِ أمامَه!! قال بامتعاضٍ شديدٍ: ألم تتعلمْ فنَّ الخدمةِ والتقديمِ في المطاعمِ من قبل؟ أجاب النادلُ الجديد : لماذا يا أستاذ؟ بماذا أخطأتُ؟ قال: كيف تقدّم القائمة لي فقط ؟ ألا تراها تجلسُ أمامي؟ نظر النادلُ الجديدُ إلى الكرسي وهزّ بكتفيه كإشارةٍ إلى اللامبالاة، مما زادَ من امتعاضِ الرجلِ، فصرخَ بغضب طالباً حضور المدير.

أقبل المديرُ مسرعاً الخطى صوبَهما وابتسامةٌ خفيفةٌ تعلو شفتيه. أشار إلى النادلِ الجديدِ بإيماءة من رأسهِ أنْ إنصرفْ. بدا الغضبُ على الرجلِ وهو يؤكدُّ على عدمِ أهليةِ ذلك النادلِ للخدمةِ ،والمديرُ يحاول بكل كلماتِ الأسفِ أن يخفِّفَ من غضبه، حتى قرَّر أخيراً أن يخدمَه ويسجّل طلباته بنفسه. هدّأتْ معالجةُ المدير للموضوعِ من حنقِ الرجل ، إلاّ أنه قررّ أنْ يغادرَ المطعمَ. طلب منه المديرُ أنْ يبقى جالساً ريثما يُحضروا الطعامَ وعلى حساب المطعم هذه المرّة، إلاّ أنه أبى وقررّ أن يغادرَ. وحينما ألحّ المديرُ لمعرفةِ السبب، أخبرهُ الرجل بأنّ حبيبتَه غادرتْ المطعمَ، ولا مبرِّرَ لبقائه وتناولَ العشاءَ لوحده. إعتذر المديرُ مرةً أخرى ووعدَه بألاّ يتكرّرَ هذا الخطأُ الفادحُ . قَبِل الرجلُ الإعتذارَ وغادرَ المكانَ بخطواتٍ متثاقلةٍ وكأنَّ ساقيهِ مشدودتان إلى حجرٍ كبير.

استغربَ النادلُ الجديدُ من الرجلِ وإدِّعائه الغريبِ وغضبِه اللامعقول، وعندما أقبلَ المديرُ عليه أقسمَ بأنه لم يرَ إمرأةً جالسةً إلى الطاولةِ أمامَ الرجلِ، فأجابهُ المديرُ بأنه يصدِّقُه فيما يقول ، وأنه فعلاً لاوجود لإمرأةٍ هناك، لكن هذا الرجلَ مسكينٌ فعلاً ، فقدْ أصيبَ باضطرابٍ نفسيٍ بعد أنْ فقدَ حبيبتَه منذ عامين ، إذْ دهسَتَها سيارةٌ مسرعةٌ في الشارعِ الذي يطلُّ عليه المطعمُ بينما يهمّان بالعبور ليستقلاّ سيارتَهما ، وكان ذلك هو عشاؤهما الأخير معاً.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1558 الاربعاء 27/10/2010)

 

 

في نصوص اليوم