نصوص أدبية
أنا ابن العاهرة / عماد استيتو
بكل قوتهم كسروا الباب الخشبي بحثا عن جرائمنا عن قرائن تؤكد التهم الجاهزة، لم يعثروا سوى على صحون فارغة متسخة تنظر إليهم وغسلها قد تأخر، لم يجدوا سوى الغبار اللعين وبضعة فواتير وضيعة، فتشوا في الجدران المهترئة بحثا عن مشروع حلم يعاقب عليه القانون، عن خطيئة حياة يحرمها الدين، لكن لا شيء هنا في يوم الحادي والعشرين من فبراير، فبراير أصبح شهرا حراما، مواليده جرائم وموتاه مشاريع خيانة .
الليلة، وغدا، وأمس .. كانوا يأتون كل يوم تقريبا بحثا عن اعترافاتنا بخرق دستور الرحلات الأخيرة، كان علينا أن نأخذ ترخيصا أولا، كان علينا أن نعد الوثائق الإدارية .. طلب الانتحار مكتوبا، شهادة العوز، و عقد البيعة والتبرؤ من شر المشاغبين الذي لا يريدون بالوطن خيرا، كانت تلزمنا حقائب السفر هاته لتكون رحلتنا مباركة، كان علينا أن نخضع للقانون البيروقراطي، الموت ليس مزحا يقولون .. وحدهم العظام المضحون من أجل البلاد والعباد من يستحقون شرف هذا الانتصار، باختصار أجرمنا وكفرنا .
صاروا يقلبون ألبوما للصور، هناك تركته لهم ليستأنسوا بين الصور الباكية، ربما يشعرون بدموعها، قد يسمعون صراخ الرضيعين، ويسألون عن حليبها الغائب عن الصور؟ عساهم يفعلون ..، لكن لم يفعلوا، أخذوه إلى قائدهم مزهوين " يا سيدي، من الأب؟ إنها أم عزباء؟ إنها عاهرة؟ إنها امرأة تبيع جسدها حتما يا سيدي "، يقهقهون ثم يتحدث أحدهم " غضب الله يا سيدي، أعوذ بالله إنها بغي خرجت من رحمته حفظنا الله .. حفظنا الله "، ثم أغلق المحضر و رئيس قسم الشرطة يتعوذ بالله من كبائر الضالين " خالفت شرع الله مرتين، زانية ومنتحرة .. أبعد الله عنا مثل هاته الأشكال " .
في الحي حيث كنا لاجئين، جاءت الجارات، لالة زهور و نعيمة بحثا عن خبر أخير، " كنت أعرف أنها ابنة حرام ولهذا لم أكن أطيق صمتها والبراءة التي كانت تبزغ من ملامحها " تتحدث لالة زهور بصوت مزلزل كما وصفته لي ليلى ابنة نعيمة، صمتت نعيمة أمام سلاطة لسان لالة زهور التي لم يكن لسانها يرحم أحدا فوحدها كانت تعرف حقيقة فدوى، لا أحد غيرها كان يجالسها وهي تئن قهرا وهما بحثا عن الهمة التي لم توزع بالعدل، كانت تواسيها نعيمة وتهدىء من غضبها " يا فدوى لست ثائرة نحن مجرد رعايا نحمد خالقنا نعبد الله ونطيع أمير المؤمنين "، بلعت فدوى أقراص الأسبرين وما وجدت غير نعيمة لتترك في رعايتها مشروعي البؤس القادم .
تتحسسها تلك العيون الغادرة، تتفقد تضاريس جسدها المنهك، نهديها الصغيرين، تلتهمها نظرات زبائن المقهى الذي كانت ترتكب فيه عهر محاولة العيش بكرامة في بلد المحاولة فيها كبيرة من الكبائر، لم تكن تستطيع سوى تحمل الطعنات في عرضها والاعتذار باحترام عن دعوات غير محترمة، صارت توفر من أجرتها الحقيرة شيئا للحلم وشيئا ليصارع رضيعاها الجوع، كانت تلتحف البرد لتدفئني، كأنني بالشاعر مظفر النواب يسأل ويجيب نفسه في تلك اللحظة : " سيدتي أيقتلك البرد؟ أنا يقتلني نصف الدفء.. ونصف الموقف أكثر "، وأمي لا تملك أن تجيب لكنني أسمعها تهمس " أنا يقتلني ظلم الوطن و احتقار المسؤولين والقوانين الغير عادلة والثروات المنهوبة "، كأنني أسمعها تتحدث بلهجتها البدوية .
كأنني أرى دموعها محبوسة وهي تغادر مقر البلدية تجر جرائم عقدين من الذل، مزهوا بنفسه في مكتبه الفاخر صاح على حراسه " أبعدوا هاته القحبة عني "، وهي التي جاءت بحثا عن جنين عطف، عن جزء من الجنة التي يتحدثون عنها في التلفزيون .. ذلك الجهاز الذي كانت تكتفي بالإطلالة عليه من بعيد في بيت جارتها نعيمة .. جاءت للتظلم تطلب الإنصاف فغادرت بشهادة احتقار ووصف " قحبة "، لقد كانت أمي قحبة وأنا وشقيقتي أبناء زنا في نظر رئيس البلدية الموقر ولا نستحق منزلا يأوينا نحن أبناء الشارع والأب المجهول الذي قادته شهوته ليجبر أمي على أن تكون مرحاض رغباته .. نعم أبي الذي لا أعرف حيوان، خرجت فدوى تصرخ لجدران لا تسمع وفي جمع لا يرى وإن رأى يقول " هذا من عنده "، وبين الصرخة والصرخة اشتعلت نيران رحلة أمي الأخيرة، فلترتح لالة زهور .. فليرتح رئيس البلدية .. لقد ماتت العاهرة .
قبرها ضائع هناك في تلك البقعة التي أصبحت الآن مكبا للنفايات، لا شيء تغير كنا دائما مكبا للبقايا، نقتات على على الجوع وبالجوع، في مقر الحزب ودعت الرفاق لأنني كنت بحاجة إلى خلوة لأتفرغ لنفسي بعض الوقت خصوصا بعد آخر مداهمة واعتقال فقد كان الاستنطاق هاته المرة طويلا جدا، علي أيضا أن أعكف على رسالة الدكتوراه، وعدت إلى ذات المكان .. هنا .. لا هناك .. بالضبط هنا على بعد مئتي متر يمين مقر البلدية .. هنا تاريخي .. أشتم النيران الزكية، إنها المكان الوحيد الطاهر في هذا الوطن الفاسد، رئيس البلدية الجديد ليس سوى ابن رئيس البلدية القديم الذي ظل في منصبه لعشرين عاما رغم ملفات الفساد التي يستنكرها السكان .. لم ينجح الابن في الحصول على الشهادة الابتدائية لكن الشواهد لا تصنع الرجال كما هو شائع، ضخم الجثة .. تنتظره السيارة والسائق بالخارج .. يدخن السيجار وأطفال تظهر عليهم ملامح الشظف يتناقلون كرة تدور كمصائرهم الموغلة في الشقاء، يصيح السيد الرئيس " لا أريد كلابا في بهو البلدية "، سبحان الذي يخلق من الابن شبها للأب، وقبل أن يمتطي سيارته الفارهة للمغادرة لمحني أتفقد المكان وقد حملت شيئا من ترابه للذكرى فتقدم نحوي بجثته الضخمة مصحوبا بحراسه ..
من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟ سألني بسوقية جعلتني أتخيل مشهد مادار بين والدتي ووالدته، ثمة ثأر علي أن آخذه .
هذا ليس شأنك؟ أجبته غير مبال، كنت أعرف أنه سيمارس فروسيته وقبل أن يقول شيئا آخر عالجته " أعرف أنك رئيس البلدية وهذا لا يهمني في شيء أيا كنت هذا ليس شأنك "، شعرت بأنني بدأت فعلا في إغاظته " من تظن نفسك لا أحد يقدر علي هنا أنا الرئيس بإمكاني أن أرسلك إلى الجحيم يا هذا "، ضحكت بقهقهة " أنا في الجحيم أصلا وأنت مخطىء هناك من يقدر عليك إنها الشهادة الإبتدائية التي فشلت في الحصول عليها .. " .
تملكه الغضب وأومأ للحارسين بضربي، تعودت الضرب، هروات البوليس وركلاتهم في الاعتصامات والتظاهرات والسجون كيفت جسدي كما يجب، بات لي اليوم مناعة ضد هذا اللاوطن، أشبعاني ضربا، كل ضربة كانت فرحة، أنا الآن في نفس المكان الذي شهد ولادتي، نعم صرخة أمي كانت تاريخ ولادتي الحقيقية، كل ركلة كانت دمعة أمسحها من على خدود الأم فدوى، ملوا وتركوني، كان صعبا عليهم أن يهزموا رجلا لم يعد يعنيه أي شيء، استجمعت شيئا من طاقتي حملت حجرا كبيرا بحجم جرح والدتي ورميت به رئيس البلدية فسقط مضرجا بالدماء يصرخ باكيا، أنا طفل شارع وحجارة سيدي الرئيس .
اعتقلوني مجددا، لن تكون التهم كيفما كانت طبيعتها أثقل من التهم التي حوكمت بها أمي فدوى، التهم هي اعتداء على رئيس البلدية أثناء قيامه بعمله، تخريب الممتلكات والشهود جاهزون، بدأ الاستنطاق، يسأل رئيس قسم الشرطة : اسمك؟ سيدي أنا ابن العاهرة .. سألتك ما اسمك لا تتحاول أن تتذاكى " سيدي أنت تضيع وقتك لقد أجبتك أنا ابن العاهرة أوراقكم الرسمية ومحاضركم تقول ذلك "، ملوا من خبط رأسي على الطاولة، كانت كل خبطة تغبط أساريري، لم يكونوا يستوعبون كيف لآدمي أن يرقص على كدماته ودمائه، لم يعرفوا أنني ابن الدماء، أنني ابن ذلك الحريق، أنا ابن التهمة التي خرجت من هذا المرفق الكريه، أنا ابن الظلم والفاقة ..، خرجوا وعادوا يقرأون عريضة الاتهامات السابقة " العصيان المدني، الإضرابات الطلابية، تخريب الممتلكات، المس بالمقدسات، الانتماء لتنظيمات محظورة ... "، بدا على رئيس القسم الانشراح " ها أنت إذا يا عدو الله و الوطن .. أنت سوابق إذا وأتيت إلينا بقدميك " تحدث متهكما بصوت خشن، وقبل أن ينعم بانتصاره الرخيص كان الجواب " أنا اللعنة، أنا وطن يبيع المواطنة للذي يدفع أكثر، أنا سلة إفطار رمضان التي تسمى عدالة اجتماعية، أنا سومة الكراء التي لا تتحمل، أنا فاتورة الكهرباء، أنا الشاب الذي لا يعمل، أنا الطالب الجاهل، أنا الفلاح المعدم، أنا المركب التجاري الوطني، أنا القطار السريع، أنا المحترق، أنا القوارب الغارقة بالحالمين، أنا مناجم الآخرين التي تلفظ عرق العمال المالح، أنا الفيلا الفاخرة التي قدمت للمطرب الأجنبي، أنا التهمة، أنا لا شيء، أنا ابن العاهرة ..." .
بقلم : عماد استيتو – صحفي وكاتب مغربي -
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2045 الاربعاء 29 / 02 / 2012)