نصوص أدبية

هواجس صاخبة / أسماء محمد مصطفى

كلما غادرت داري صباحاً في طريقي الى العمل وبعدما أنظر الى المرآة، وأتأمل مظهري.  

ارتدي ثوبي الأخضر.. أضع حجاب الرأس الأخضر الفاتح.. أضع حاجاتي الصغيرة في حقيبتي الجلدية السوداء.. انتعل حذائي الأسود..  

اغادر الغرفة نحو النباتات التي تتوسد السنادين برّقة ونعومة، وتمنح واجهة البيت دفئاً ومظهراً خلاباً لاسيما تلك التي تتحدى حرارة الشمس اللاهبة، وتتسلق على الجدران، كإنها تريد الإمساك بإحدى الماسات المعلَقة على وجه السماء، والتي لانراها إلاّ مساءً.

عند الساعة السابعة صباحاً أودع أمي.

في طريقي نحو الشارع الرئيس تمطر الأجواء وابلاً من الرصاص. اختبئ في أحد الشوارع الفرعية مثلما يفعل آخرون. يسكت الرصاص فجأة. استكمل طريقي الى الشارع الرئيس، كالعادة من غير أن أعرف ماالذي حدث !

تجيء سيارة (من طراز الكيا).. أصعد من غير قاسم الذي يسكن نهاية الزقاق الذي أقطن فيه. تصعد امرأة تحمل كيساً. تتسمر عيناي بها دقائق.. تتحولان بعدها الى ما تحت المقعد الذي تجلس عليه المرأة.

أكسبني الخوف عادة جديدة.. مراقبة الناس وتفحص المقاعد التي تقع على امتداد بصري..

في الباب الشرقي أنزل من السيارة، واتوجه الى دائرة عملي..

في السماء غبار.. والى أذني تتناهى أصداء انفجارات في مكان ما.

*****

إنها ورقة أخرى تتهيأ للسقوط من شجرة الزمن.. ارتدي قميصاً بنفسجياً فاتحاً وتنورة سوداء. أضع على رأسي حجاباً يجمع بين بعض تدرجات اللون البنفسجي. انتعل حذاءً بنفسجياً غامقاً، وأحمل حقيبة باللون نفسه. أسمع أمي تدعو لي بالسلامة حينما أفتح باب الدار. ألقي نظرات سريعة على النباتات المُبهجة. أسمع موسيقى احتفائها بما منحتُها من بلل منعش.

في الشارع أجد قاسم سبقني الى انتظار سيارة تقله الى العمل.أقف قربه بعد أن يستقبلني بابتسامة وإطراء لمظهري.

يقول إنه يمنح الناظر إحساساً بجمال الحياة وصفائها. تصل سيارة (الكيا).. أجلس.. يجلس قاسم الى جانبي.. تنظر امرأة اليّ والى حقيبتي.. أشعر بها مكتسبة العادة نفسها. أصل الى الباب الشرقي. أذهب في طريق، ويذهب قاسم في طريق آخر.

*****

أنظر الى المرآة، وأنا استكمل ربط أزرار قميصي الوردي. أسال نفسي إن كان القميص سيعجب قاسم. أعجبَ أمي التي تقول لي وأنا أهمّ بالمغادرة : انتبهي لنفسك..

أما أنا، فانتبه الى الفروع المتشابكة التي حولّت واجهة الدار الى حديقة عمودية.. سأفتقدها حينما يأتي الشتاء، ويبلل السيقان العارية بالمطر.

في الشارع أصعد مع قاسم الى السيارة (من طراز الكيا أيضاً). يحدثني عن حبه لي وأحلامه.. ومخاوفه من المجهول الذي ينتظرنا جميعاً. ينبهني حديثه الى معاودة المراقبة. أصوب بصري على الرجل الجالس أمامي، وعلى كيس ورقي صغير في يده بارتياب. أطيل النظر الى الكيس قبل أن أرفع رأسي. أجد الرجل ينظر إليّ مرتاباً !

أنزل مع قاسم من السيارة في الباب الشرقي.. اتنفس الصعداء.

*****

يعجبني هذا الصباح ارتداء سترتي الصيفية الحمراء.. تحتها قميص بلا كُم، تتمازج فيه خطوط حمر وأخرى بيض وسود. أما التنورة، فهي سوداء، وحجاب الرأس والحقيبة سوداوان.

أطبع قبلة على خد أمي، وأنا أهم ّ بالمغادرة. انتبه في أثناء الخروج الى إن ّ إحدى النبتات أصفرَ معظم أوراقها.. أقطع الأوراق الصفر.. إحدى الأوراق ممزقة وقد سقطت من السندان.. وتحتها شظية صغيرة مُعفرة بدم ٍ يابس.. أرفع الورقة والشظية من السندان، وألقيها مع الأوراق الخضر التي بقيت، وهي قليلة. تقول أمي : ستنمو فروع وأوراق خضر جديدة، قريباً.

أسقي كل السنادين.

أصعد الى السيارة (الكيا) من غير قاسم. أنظر بريبة الى الوجوه الكالحة والمتعَبة.. والمتوحشة.. افتقد قاسم كثيراً.. هدوء أسطوري يخيم على كياني..

*****

ـ متى يحين دوري؟

أسأل نفسي مجدداً حينما أنظر الى المرآة العريضة المعلَقة بشموخ على جدار غرفتي بالرغم من كل اهتزاز يحس به الجدار كلما وقع انفجار او هوت قذيفة على مقربة من حينا. أجد صورتي في المرآة جميلة.. ثوبي فضفاض أبيض، يبدو مشعاً بالضياء لاسيما حجاب الرأس الأبيض كما لم أرَ نفسي من قبل. ربما هو الحب الذي يكبر في روحي يجعلني أرى صورتي أجمل. أجد أمي تسقي النبتات بالماء والدمع أيضاً !

اغادر الدار.. أرى قاسم واقفاً بالانتظار.. تصل السيارة (الكيا).. يصعد قاسم. أصعد وراءه. أجلس الى جانبه. أنظر اليه، والأبتسامة الهادئة لاتفارق شفتي.. لايلتفت اليّ.. استغرب جفاءه !!

أراه مطرق الرأس، أسأله ماالذي يحزنه. لايجيب. أشعر بالحزن مثله.

لمَ لايعيرني إهتماماً ككل يوم؟! حرقة حزني تدفعني الى هوايتي حديثة العهد. اراقب هذه المرة الركاب وما يحملون.. أمامي وخلفي. لايسألني أحد ماذا أفعل. ينزل قاسم من السيارة في الباب الشرقي. أنزل، أيضاً، قاصدة مقر عملي.. يغيب قاسم عن ناظري.

*****

هذا صباح آخر. أنظر في المرآة الى ثوبي الأبيض. فضفاض، مريح، جميل كما اعتدته بالأمس. أشعر به يلتصق بي كجلدي. لم تعد ثيابي الأخرى تجذبني لأرتديها. أغادر غرفتي. ألقي التحية على أمي التي لم أعتدها حزينة كما أراها هذا الصباح. أحمل دلو الماء نحو السنادين. أجدها بليلة. سبقتني أمي اليها بالطبع. أخرج. أصعد مع قاسم الى السيارة. أجلس الى جانبه. احاول فتح حديث ما معه. يدفعني كبريائي للتراجع. أشيح وجهي عنه. لا أطيق إغفاله لي بالأمس. ذلك الإغفال جعلني اتأرق ليلة البارحة حتى أتعبتني الهواجس والوساوس والأفكار السود. كان قاسم متأججاً بالمشاعر. ماشأنه اليوم، وقد صار كائناً ثلجيا ً، بينما اتحرق أنا حباً؟

احاول تجاهل الحالة بمراقبة الركاب الجالسين أمامي. أحدق في وجوههم وأياديهم وتحت مقاعدهم. لاينظر أحد منهم إلي ّ. نصل الى الباب الشرقي. ينزل قاسم. أنزل أيضاً بحرقة حبي وإطراقة رأسي. انتبه الى انني حافية القدمين !! يملؤني الاستحياء. تنفجر سيارة مفخخة قريبة جداً منا. دوي عاصف يهز الأرض والمباني القريبة وأجساد الناس وبضائع الباعة. غول دخاني مرعب ينمو في لحظات ويكبر. لهيب أحمر يفتح فماً مرعباً يلتهم الأجساد والسيارات و..أشياء أخرى. الناس يتراكضون يميناً ويساراً. اللحم يتناثر. أشلاء تتطاير. تتوزع بعشوائية بين الشارع والرصيف والمدى. ذراع هنا. قدم هناك. أشعر بهول الفاجعة. احاول التقيؤ. افشل.

أرى قاسم يحترق !

يصير قطعة لحم صغيرة متفحمة. يزداد شعوري بالهلع حتى يكاد يخنق أنفاسي. أنا أفقد حبيبي. الجميع يركض. يهرب. يحاول تجنب الشظايا. البعض يتلوى بعد أن يبصق فم اللهيب عليه. الكل يصرخ، إلاً أنا، اتسمر وسط الدخان والنيران. ثوبي مازال محتفظاً ببياضه. لم يتسخ بالدخان والرماد المتطاير. لم تمزقه أنياب الفم الملتهب الكريه. لم تشعر قدماي الحافيتان بسعير الانفجار المروع الذي لايشبهه رعبٌ آخر، مثلما لم تحسا بوخز الشظايا الزجاجية المتناثرة على الأرض الملتهبة. سيارات الإسعاف تصل. يحمل المسعفون على النقالات القطع المتفحمة والأجساد المصابة بالشظايا. ألقي نظرة وداع أخيرة على لحم قاسم، وهويوضع على النقالة الى جوار قطع لحم أخرى، ومنها الى سيارة الإسعاف. أطلق دمعة للدخان. أشعر بيد تلتف حول خاصرتي. ألتفت. أرى قاسم يرتدي ثوباً أبيض َ فضفاضاً جميلاً. يقف الى جانبي حافي القدمين. يجمعنا عناق طويل، ونحن نسمع صوتاً يشبه صوتي او ربما صوت قاسم :

ـ متى يحين دوري؟

 

قصة قصيرة

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2140 الاحد  03 / 06 / 2012)

في نصوص اليوم