نصوص أدبية

ألغراب / أدغار ألن بو

وعلى اثرها ذاع صيت أدغار ألن بو.  وتلى ذلك انتشار إعادة طبعها على نطاق واسع  ثم  محاكاتها بشكل ساخر و ظهور رسوم عديدة لها.  وكذلك  ترجمتها الى لغات أخرى منها الترجمة الفرنسية  وقام بالترجمة ستيفان مالارمي سنة  1875.

الملاحظُ والملفِتُ للنظرِ في قصيدةِ الغراب،  والسبب الرئيسي لشهرتها،  هو مافيها من الموسيقيةَ  والأسلوبِ اللغوي  والأجواء الفوق ــ طبيعية للأحداث فيها . فإنها  تتحدث عن الزيارة الغامضة لغرابٍ ناطقٍ  يقومُ بها ذات ليلةٍ إلى عاشقٍ يائسٍ  مضطربِ الأعصاب ويراقبُ فيها تدهوُرَحالتِه  المستمر واتجاهَه نحوَ الجنون  . العاشقُ ـــ  وهو المتحدِّثُ في القصيدة ـــ  غالبا ما قيل أنَّه طالب  يتوجََّعُ بسببِ فقدان حبيبتِه لينور، ويحاولُ أن يدفنَ نفسَه في كتبِه لينسى.    الغرابُ يدخلُ غرفةَ المتحدِّثِ ويحطُ على تمثالِ بالاس ـــ آلهة الحكمة عند الإغريق  ـــ  المنحوت فوق باب الغرفة ، ويزيدُ من شدةِ اضطرابِ العاشقِ بترديدِه عبارة  "أبداً بعد اليوم" ردّاًً على العاشقِ/ المتحدث. وفي ألنهايةِ يظهرُ أنَّ العاشقَ قد وصَلَََ مرحلةَ الجنونِ والهذيان.  القصيدةُ تحتوي على تلميحاتٍ  الى الفولكلور ومختلف الأعمالِ الكلاسيكيه..

 

أدغار  ألن بو  يوضِّح في  مقالتِه "فلسفة الإنشاء"  أنه كتَبَ القصيدةَ بشكلٍ منطقيّ ومنهجيّ جداً.  وكانت نيّتُه  أن يكتبَ قصيدةً تُرضي  الأذواقَ العامةَ وألنقاد.   كما أنه كان يأملُ الشهرةَ  من ورائِها وجمعَ بعضِ ألنقود .  وقد تحققت له الشهرةُ ولكنه لم يحصل إلا على خمسة عشر دولاراً من نشرِ الغراب .  القصيدةُ مستوحاةٌ جزئيا من الغرابِ ألناطق  في رواية تشارلز ديكنز:  " بارنبي رادج: قصة الثمانين مشاغب" . كما أنه يستعيرُ الايقاعاتِ والأوزانِ المعقدة  من قصيدةِ  اليزابيث باريت : "غراميات السيدة جيرالدين."

 

ورغم أنَّ بعضَ ألنقاد يختلفون حولَ قيمةِ القصيدة ، إلا أنها تبقى واحدةً من أشهرِ القصائدِ التي كُتبت على الإطلاق حتى يومِنا هذا،  رغمَ مرورٍ أكثرَ من قرنٍ ونصف القرن على نشرِها أولَ مرة.  وما زالت القصيدةُ مصدرَ إلهامٍ للكثيرِ من الأعمالِ الفنية،  الموسيقيةِ منها والمسرحية وغيرها.

الموتُ يتكرَّرُ في قصائد أدغار ألن بو، كما هو الحالُ في هذه القصيدة. وهذا شيئ ٌ طبيعيّ في ذلك الوقت،  اذ أنَّ أدغار ألن بو كان قد فقد ثلاثة من أفراد عائلته بضمنهم والديه قبل أن يتجاوزَ الثالثة من عمره. ومما ينسب اليه قولُه أنَّ الموتَ جميلٌ اذا ارتبطَ بالجمال. ولذا ارتبطت القصيدةُ هذه بالحزنِِ على موتِ لينور الرائعة المتألقة الجميلة.  وبالفعل،  أثناء كتابتِه قصيدة الغراب كانت زوجتُه الجميلةُ تعاني من المرضِ الذي أودى بحياتِها  بعد ذلك .

كلمة أخيرة:  ترجمةُ هذه القصيدة -- نظراً لتعقيدها -- ليست بالسهولةِ التي تتراءى لقارئ الترجمةِ  لأولِ وهلة. وقد حاولتُ أن ألتزم الدقة  في ترجمتي مع إبقاء  الإنسيابية في الأبيات ، ولهذا  تركتُ الكثيرَ من الكلمات دون تحريك خوفاً من فقدان تلك الإنسيابية.   وأود أن اضيفَ أنَّ  التعقيدَ في القصيدةِ وصعوبة فهمِها قد أخضعَها للكثيرِ من التحليلاتِ والتفسيراتِ التي تساعدُ القارئَ على فهمها. وسأوافيكم فيما بعد بشرحٍ مفصَّلٍ للمقاطعِ وتسلسلِ الأحداث فيها.

 

الغراب

شعر: أدغار ألن بو

ترجمة: د.  إنعام الهاشمي (حرير و ذهب)

--------------------------------

- 1 -

في ليلةٍ  مقفرةٍ عند منتصف الليل ، حيث كنت أتأمل وأفكِّر،

حائراً،  متعباً وضجِر

مررتُ بعديدٍ  من المعتقداتِ القديمةِ الغريبة –

التي غطاها ألنسيان

وعندما سقط رأسي على صدري وأوشكتُ أن أغفو

فجأةً جاءَ الطرقُ

وكأن أحداً برفقٍ يقرعُ .. يقرعُ على بابِ مخدعي

تمتمتُ "هو  زائرٌ"

"هو زائرٌ يقرعُ على بابِ مخدعي –

هذا فقط... لا غير"

............................

- 2 -

آه.. أتذكّرُ بوضوحٍ  إنه  ديسمبر الكثيب

وفيه كلُّّ جذوةٍ تحتضرُ

وتلقي بشبحِها يتمطّى فوقَ الأرض .

بلهفةًٍ تمنيتُ الغد؛ –

وبعبثٍ حاولتُ أن االتمسَ

في كتُبي نهايةًً لهذا الأسى –

ألأسى لفقدِ لينور –

لتلك الفتاةِ  الرائعةِ المتألقة

التي أسمتها الملائكةُُ لينور –

وهنا لا اسمَ لها ، ابداً بعد اليوم.

...................

- 3 -

الحفيفُ الحريريُّ الحزينُ والغامضُ لكلِّ ستارةٍ أرجوانية

أثارني – ملأني برعبٍ غريب لم أعرفهُ أبدا من قبل ؛

والآن ، لأُهدِّئ دقاتِ قلبي ، وقفتُ أردِّد

"هو أحدُ الزوّارِ يرجو  الدخولَ في بابِ مخدعي "؛

– هو أحدُ زوّارِالليلِِ يرجو الدخولَ في بابِ مخدعي –

هذا هو ، لا غير.

..........................

- 4-

والآن  استجمعتُ رباطةَ جأشي؛

لم يعدُ لي ذاتَ  تردُّدي ،

قلتُ، " سيّدي، أو ربما سيّدتي ، إسمحوا لي؛

الحقيقةُ أنني كنتُ غافياً،

وجئتم أنتم برفقٍِ تطرقون ،

ثم بهدوءٍ تقرعون ، على بابِ مخدعي

حتى أني كدتُ اشكُّ في مسمَعي ."

وهنا فتحتُ البابَ على مصراعِه – ؛

هناك ظلامٌ ، لا غير .

.....................................

- 5 -

في عمقِ الظلامِ وقفتُ طويلا  أحدِّقْ،

حائراً خائفاً ، غيرَ مصدِّقْ ،

أحلم أحلاماً لم يجرؤ بشرٌ أن يراها قبلي

إلا أن الصمتَ  كان مطبقاً ،

والظلامَ لا ومضةَ فيه حالكاً ،

الكلمة ُالوحيدة ُ التي قيلت كانت  بهمسٍٍ، وهي كلمة "لينور"!

هكذا أنا همستُ، وسمعتُ صدىً يهمهمُ بعدي، كلمة " لينور"! –

هذا فقط لا غير.

....................

 

- 6 -

استدرتُ عائداً نحومخدعي ، وكلُُّ روحي في داخلي تشتعلْ

وبعد قليل ،ومرةً أخرى ، سمعتُ الطرقَ أشدُُّ من ذي قبل.ْ

"بالتأكيد" ، قلت لنفسي، "بالتأكيد أن شيئاً ما  في مشبكِ نافذتي ؛

لأنظرَ إذن ، ما الذي هناك؟ ، وأستطلع هذه المُعضِلة –

ليهدأَ قلبي لحظةًً ، ويستطلعَ هذه المُعضِلة ؛ –

"إنها  الريحُ، لا غير"

...............

- 7 -

دفعتُ بابَ النافذة وفتحتُه  ، فإذا بغرابٍ جليل المنظرْ

وكأنه من قدسية أيام  الماضي الأغبَرْ

يتقدم بحركاتٍ سريعةٍ مصفّقاً بجناحيه .

دون تقديمِ أدنى آياتِ الإحترام ، وبلا توقفٍ أو إستئذان ؛

وكأنه سيداً أو سيدةً من ألنبلاءِ ، حطَّ فوق بابِ مخدعي

حطَّ على تمثالِ بالاس (1 ) المنحوت فوقَ بابِ مخدعي

حطّ ، وجلسَ فقط ، ولا غير.

...........................

- 8 -

فهذا الطائِرُ الأبنوسيّ يحايلُ حزني كي يبتسم

بهذه اللياقةِ، والرزانة  ،

والمظهرِ الجدي الصارمِ الذي تسربل به؛

قلت: رغمَ أنَّ عرفَكَ قصيرٌ أو معدومٌ

لكنكَ، حتماً لستَ جباناً

أيها الغرابُ العبوسُ المرعب

أيها الممعنُ في القِدَم

يا من جاءني ليلاً من شاطئ الظلام

قل لي ، ما اسمُك الجليل في شاطئ الليلِ البلوتوني ؟

ردَّ  الغراب " أبداً بعد اليوم".

....................

- 9 -

عجبت كثيرا من هذا الطاثر الأخرق،

وسماعي بذا الوضوح هذا المنطق ،

وإن كان الجوابُ في غير محله

ولا يحملُ من المعاني الكثير؛

ولكنْ لنعترفَ أنه ليس من كائنٍ أوبشرٍ

حالفه الحظُّ برؤية طائِرٍ

فوقَ بابِ مخدعِه

طائِرٍ أو حيوانٍ على تمثالٍ منحوت ٍ

ٍ فوق بابٍ مخدعِه

وبإسمٍ كهذا " أبدا  بعد اليوم".

...........................

- 10 -

لكن الغرابَ وهو يجلسُ وحيداً فوقَ التمثالِِ الهادئ

لم ينطق الا بكلمةٍ واحدة

وكأن روحَه قد تدفقت في هذه الكلمةِ الواحدة

صمتَ ولم ينطقْ غير ما نطقْ

ولا بريشهِ قد خفقْ

حتى تمتمتُ ،" كم من صديقٍ ، وهم  كثرٌ ،

قد راحَ  ولم يعُدِ ،

سيتركني هو  أيضاً في الغدِ،

كما فرَّت كل أحلامي من يدي؟"

قال الطائرُ " أبداً بعد اليوم".

..............................

- 11 -

أذهلني كيف أنَّ هذا السكون قد قطعه  ردٌ هكذا لبقٌ،

قلت، " لا شكَّ ،  أنَّ هذا هو كلُّ ما يعرفُ وينطقُ ،

وقد تعلمهُ من سيدٍ تعيس تبعَتهُ مصائبُ لا ترحم ،

واحدةً تلو الأخرى  تبعته سريعاً وتبعته أسرع

حتى حملت  أغانيه  تعبيرأ واحداً –

حتى أصبحت الترنيمة الجنائزية لكل آماله  في ذلك التعبيرِ الكئيب،

"أبداً ، أبداً بعد اليوم . "

.....................

- 12 -

ولكن الغرابَ لازال يحايلُ كلَّ روحي الحزينةِ لأبتسم

بلا  ترددٍ ، سحبتُ كرسياً بوسادةٍ وجلستُ أمام الطائِرِ والتمثالِِ والباب؛

وحينما كان المقعدُ المخمليُّ تحتي يهبطُ ،

رحت افكرُ  ثم أربطُ

فكرةٌ بفكرةٍ ،

وأقول ما ذا يعني هذا الطائرُ المشؤومُ الآتي من الماضي الغابر؟

ما ذا يعني هذا الطائرُالمتجهم، الأخرق، الضئيل، المشؤوم  ، الآتي من الماضي الغابر؟

ما ذا كان يعني بنعيقه  "أبدأ بعد اليوم".

........................................

- 13 -

هكذا جلست غارقاً في التخمين ، ولكني بحرفٍ عن شيئٍ لم أفصِح

للطائر الذي اخترقت عيناه المتقدتان أعماقَ صدري

هكذا جلستُ أتكهنُ ، ورأسي متّكئةً بارتياحْ

على الوسادةِ ببطانةٍ مخملية  حيثُ عليها زها  ضوءُ المصباحِْ

ولكن صاحبة هذه االوسادة المخملية التي عليها يزهو  ضوء المصباحْ

سوف لن تضمَّها ، آه " ابداً بعد اليوم"

................................

- 14 -

ثم أحسستُ، أنَّ الهواء أضحى كثيفاً، معطراً بعطرٍ من مبخرةٍ غير منظورة

طاف بها ساروفٌ يرنُ  وقعَ أقدامِهِ على الأرضيةِ المخلخلة

"أيها البائسُ!،"  هتفتُ،   " أن ألله قد أمهلك –

ومع الملائكة أرسل لك

راحةً – راحةً  وإكسيراً لنسيان الأسى  من ذكرياتِ لينور!

إكرع – نعم  إكرع هذا الإكسيرَ وانسى الأسى لفقد لينور!

قال الغراب ، "أبداً بعد اليوم"

.....................................

- 15 -

"أيها الرسولُ" قلت، " يا بعضاً من الشر— ورغم ذلك رسولاً،

سواءَ كنت طائراً أم شيطاناً –

سواءَ أرسلك الشيطانُ ، أم قذفت بك عاصفةٌٌ  هنا على الشاطئ،

ضالاًً ولستَ خائفاً ، على هذه الأرضِ المقفرةِ المسحورة –

في هذا البيت المسكون بالرعب ،–

قل لي حقاً ، أناشدُك –

هل هنالك – هل هنالك بلسماً في جلعاد؟(2 )– قُل لي – قل لي– أناشدُك؟"

قال الغراب، "أبداً بعد اليوم ."

...............................

- 16 -

"أيها الرسول" قلتُ، " يا بعضاً من الشر-- ورغم ذلك رسولا،

سواءَ كنت طائراً أم شيطانا –

بحقِّ السماء التي تنحني فوقنا

بحقِّ الاله الذي نعبدُ كلانا –

أخبِر هذه الروحَ المحملةِ َبالأسى ،

هل أنّها في جنّةِ عدنٍ البعيدةِ المدى ،

ستعانقُ تلك  الفتاةَ القديسةُ التي أسمتها الملائكةُ  لينور—

هل ستعانقُ تلك الفتاةَ الرائعةَ المتألقة التي أسمتها الملائكةُ لينور."

قال الغراب ، "أبداً بعد اليوم ."

.............................

- 17 -

" لتكُن هذه الكلمةُ نذيراً للفراق ، أيها الطائرُ أو العفريت"

صرختُ منتفضاً –

"عُد من حيثُ أتيت ، إلى العاصفةِ ِ وشاطئ الليل البلوتوني!

لا تترك أيّة ريشةٍ سوداءَ تذكاراً لتلك الكذبةِ التي روَيَتَها!

دعني لا تفسد وحدتي! – اترك التمثالَ المنحوتَ فوق بابي!

اخرِج منقارَكَ من داخل قلبي، وابعد هيأتكَ عن بابي!"

قال الغراب ، "أبداً بعد اليوم."

..................................

- 18 -

والغراب دون أن يرفَّ له جناحٌ ، لا زال جالساً، ولا زال جالساً

على تمثالِِِ بالاس الشاحب المنحوت فوقَ بابِ مخدعي

وعيناه فيهما نظراتُ شيطانٍ يحلم ،

وضوءُ المصباحِ فوقهُ

يرمي على الأرضِ ظلّهُ ؛

وروحي ، عن ذلك الظلِّ الذي

يستلقي باسترخاءٍ  فوقَ أرضي

سوف لن تُرفعَ – أبداً بعد اليوم!

.......................

الألهة الحكمة عند الإغريق وتسمى ايضاً بالاس اثينا

2   جلعاد منطقة في الأردن ورد اسمها في الانجيل و كانت قديما ًتشتهر  بالاعشاب الطبية التي تكثر فيها

.....................

1-آلهة الحكمة عند الإغريق وتسمى ايضاً بالاس اثينا

2  جلعاد منطقة في الأردن/ فلسطين، ورد اسمها في الانجيل و كانت قديما ًتشتهر  بالاعشاب الطبية التي تكثر فيها

تابع قراءة النص باللغة الانكليزية

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1200 السبت 17/10/2009)

 

في نصوص اليوم