نصوص أدبية

تِينا .. إمرأةُ المَحَطّاتِ / يحيى علوان


أُجالِسُ طيفَكِ، منفرداً مثلَ عَصاةِ راعٍ غَفَا ..
أستعيرُكِ من مُخَيَّلَتي، نَهُشُّ ذُبابَ الضَجَرِ،
نُدَجِّنُ الظُلمَةََ ..نُعَلّمها كيف تَثورُ لتَرى،
نُصافِحُ الضياءَ، نُصالحه مع سراجٍ مَنسِيٍّ، نِكايَةً بـ..... صَريرِ الخفافيشِ !
..............................

اليومَ دَوَّخني عِطرُكِ، نَثَرَتْه سيدةٌ صَعدَتْ إلى الباص، فنَزَلتُ ..
أبحثُ عن أشواقِنا، التي أَلِفنا، نَشرناها تحتَ شمسٍ رحيمةٍ، خَفيضةٍ تَنضو عنها رطوبَةَ السراديبِ
مثلَ ملابسِ الشتاء .. !

أَيا إمرأةً من زئبَقٍ، ماكِرةَ الهَمسِ ... أَيَّ خيطٍ يَشُدُّكِ إلى أرصفةِ المحطَّاتِ ..؟
كلانا غريبٌ .. أنا لا أُحبُّ الوداعَ، ففيه مَـرارةٌ من فُقدانٍ !
داهيةٌ أنتِ، تَعشقينَ الوداعَ، ولَكِ فيه طقوسٌ .. لأنه " يَشرَعُ نوافذَ العفوية ..
يَكنُسُ ساعاتِ المَلَلِ، ويُسرِجُ الشوقَ جَمراً ...
ويُعيدُ، إلى مَهدِها، الأحلامَ ..."!!
.............................
الرحيلُ، يا فاتنتي، ليسَ جُرحـاً على شِفاه الماءِ .. !
مَنْ قالَ أَنَّه، صُنوُ النسيانِ، دواءُ الذاكرةِ ...
يغسِلُ بُثورَ المَلَلِ ..؟
مّنْ قالَ أَنَّ الشوقَ، على سَجيَّته، يتَلَصَّصُ الرحيلَ .. كَيْ يُطلِقُ صفّاراتِهِ؟!
ومَنْ قالَ أَنَّ للذاكرةِ طعمَ الرغيفِ الساخنِ؟
أَنا، يا تِينا، إِنْ نِمتُ في غيرِ سريري، لا أُبدِّلَ أَحلامي !!
فَمَنْ قالَ ......؟
ومَنْ ... ؟!
...........................

ذُريني، يا أَنتِ !
ذُريني غُبرَةً لقيامَةِ الطَلْعِ .. إِغلِقي كلَّ نوافِذِ المرايا، وكُوّاتِ السَحابِ ..
فُضِّي ستائرَ الروحِ، تجديني أَتَدَلّى من ذُؤابةِ شمعةٍ .. أُسيِّلُ لَهفَتي إليكِ ...
لُمّيني دمعةً، دمعة .. سيَنهضُ " داوودَ "** الجميلَ من رُخامه عُرياناً، يَسخَرُ من غولياثَ الجبّارَ،
ويرسمُ شفاهاً بظلالِ بَسمَةٍ على شفيرِ الخوفِ ..
فَيروحُ يغتسلُ بمطرِ فلورنسا من ذروقِ حَمَامٍ، لا يَفقَهُ الأسطورة !
* * *

يا مَنْ سكَنَتْ أحداقِيَ، أَتذكرينَ .. يومَ دارتْ بنا الدُنَا فوقَ رصيفِ التِيهِ ..؟
لَمْ يهطِلْ النرجسُ، ولا زهرُ اللوزِ تَرَجّلَ بحدائقِ غوته في فايمار ..
الساقيةُ النحيلةُ، ظَلَّتْ تحلُمُ بغريقٍ، لخريرها يجلِبُ الإنتباهَ، دونَ صَفيرِ القطاراتِ ..
كذاكَ، الذي ما أَدرَكتُه، فغادَرَ المحطةَ، دونَ أنْ يَلتفِتَ إليَّ وحقيبتي،
طَوَى السكَّةَ خلفَه مثلَ حصيرٍ، وتوارى !
لَمْ يُبقِ لنا غيرَ نواعيرِ الريحِ ..
نواياً خَرساءَ ...
وأشواقٍ تَصهَلُ في الصدر ...
نَتأبَّطُ هموماً، لاتحتاجُ قولاً ... كأَنَّا في مأتمٍ !
فَنروحُ نَذْرَعُ عَصريَّةً خريفيَّةً، بِلا قَلبٍ، تَحِنُّ لوحشَةِ غُروبٍ حزينٍ ..
نَأوي إلى حيثُ يَهربُ النُعاسُ من شُقوقِ العَتمَةِ،
نُرِتِّقُها بستائرَ لا تَسْتُرُ عَورةَ الضوءِ المُنسَرِبِ خِلسَةً ...
...........................
إرقُصي يا فِتنَةَ السَردِ الأَخرسِ، فَغَدٌ آتٍ برحيلٍ ووَداعٍ !
دُقّي بكعبكِ حُلوَتِي .. إحرثي جُفونَ القاعِ، سالومي ..
أيقظي الجِنَّ الكسولَ .. يحملُ بلقيسَ لِسُليمانَ المسكينَ، هَدَّهُ وَسَنُ الفُضولِ ..
...............................
لَنْ نَحتاجَ شموعاً، ففيكِ قَبَسٌ من "إبراهيمَ" نجا من النارِ تَـوَّاً،
إرقُصي ..! فأنتِ فاكهةُ الخطيئةِ ...!
خُذيني معصوباً، عَلّميني دَرْسَ التَظاريسِ في جغرافيَّةِ الجَسَدِ ...
ولاتَتَعَثَّري بفحيحِ شجرةِ الخوخِ .. تُجرجِرُ، من فَرطِ وحشتِها،
أذيالَ الريحِ الشرقيَّة ... كأنها تَسحَلُ جُراباً من خُرافاتِ تمشي على عَشرٍ !

* * *

لِشَهدِ عينَيكِ، مَنذورٌ أَنا ..
عَلّميني، تِينا، خاتِمَةَ المُتعَةِ بآهةٍ،
أَصعَدُ نَسغَ "مَلْوِيَّتكِ" نَحوَ باحَةِ الوَجدِ ..
مَجوسِيٌّ أنا .. مُتَيَّمٌ بنارِكِ .. إحرقيني، إحرقيني ...
رماداً، صَيّريني، كَـيْ أُولَدَ من جديدٍ .. فلا أَبيتُ على نَدَمٍ، حَنظلٍ، ولا أَحتَطِبُ سيرَةَ عِشقِنا خَلفَ ستائرِ العُذّال ..أَوْ أستعيدُ دَفاتِرَ عِشقٍ قديمٍ ... أَجسادَ الشَجَرِ والجُدرانَ وأَعمِدَةَ الكهرباءِ، يومَ لَمْ نقرأ بَعدُ، كُرّاساتِ " تَعَلّمِ الحبَّ في سبعةِ أَيّامٍ ..."!! 
الليلةَ، سأَمسَحُ عَرَقَ طَيفيَ اللاهِثَ، المُرهَقَ ... أُشاكِسُ سُكونَ الليلِ بفاغنر ..
أَنثُرُ الفَرَحَ، أَستَدرِجُ للغَفوِ السُهادَ بفالصاتِ شتراوسَ النبيلَ ..
وأَصيحُ، من شُبّاكِ روحي : مَرحى لجنونِ الصَبابَةِ ..
وأعبُرُ الجِسرَ إلى خَيالِ المُحَرَّمِ .. قبلَ أَنْ يَنبُتَ لنا لِسانٌ، فَنلوذَ بسريرِ ما نشتهي من التفسيرِ والتأويلِ !
... قَبلَ أَنْ نفيقَ مُستَوحِدينَ، مثلَ " أَليفٍ " في صحراءِ الحرفِ ...

سَأُطَوِّقُ خِصْرَ علامَةِ الإستفهامِ .. تماماً، مثلما يفعلُ راقِصُ التانغو البَهِيُّ !
أَضُمُّها إليَّ، كي لا تَزلَقَ بنُقطتها التَحتانيَّة عندما يَتفَصَّدُ الرَقصُ حُبيبات نََديَّة ..
سأعتصرُ إسفنجَ السحابِ لكِ، حينما يَصخَبُ العَطَشُ عَرَقَاً !
...............................

تَستَفِزُّني قُبُلاتٌ ماضياتٌ، تَحَجَّرَ فيها الزمنُ،

وعِطرٌ تاهَ ذاتَ سريرٍ، تناثَرَ ياسميناً في الأَثيرِ،
خَذَلَتني في توصيفِه المَعاجِمُ ..

لكنّنا سنحتاجُ، يا تِينَا، وَساطَةَ إبليسٍ رؤوفٍ، أو مَلاكٍ مُرتَشٍ، يُمَرِّرُنا خِلسَةً لروضِ البَنَفسَجِ،
حيثُ أُرَتِّلُ الدُعاءَ، وأَصنعُ ما تَهوََينَ من قطاراتٍ ومَحطّاتٍ، عَلِّي أَغويكِ مرَّةً، فتَحلُمينَ بِسَفَرٍ ..

.........................

*تينا ليتوانية المَنْبَتِ، ألمانيةُ الجنسية، نشأت وتعلَّمَتْ، حتى تَخَصَّصَتْ في كيمياءِ عالم المجهريات، في المدينة ذاتها. ولم تُغادرها إلا مرةً واحدةً، حينَ توفيتْ والدتها ودُفِنَتْ في مدينةِ روستوك على بحر البلطيق ! إستقرَّت منذ طفولتها (في المرحلة الإبتدائية) وحتى الساعة في مدينةِ فايمار . "أُصوليَّةٌ !" في عِشقِها للمدينة ـ حيث متاحف، بيوت، وآثارٌ لغوته وشيلر، ترفِضُ  مُغادرتها، حتى لحظورِ  فعالياتٍ  ثقافية  تُحبُّها.                 

** عام 1501 جرى تكليف ميخائيل أنجيلو بعملِ منحوتةٍ لشخصية داوود التوراتية . في الثامن من أيلول/ سبتمبر 1504 أُزيح الستار، في إحتفال مهيب عن التمثال . النسخة الأصلية من التمثال موجودة اليوم بمتحف الأكاديمية بفلورنسا، وتنتصب نسخة منه في ساحة السنيورا بالمدينة ذاتها .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2161 الأحد 24/ 06 / 2012)


في نصوص اليوم