نصوص أدبية

الذيب / يحيى علوان

 

يا ذيبُ, أَنتَ الحكيمُ, وأَنتَ الجميلُ ...

يا ذيبُ, أَنتَ الشُجاعُ, وأَنتَ البريءُ ...

يا سِبْطَ ذاكَ, الذي رَمَته العُرْبُ بِدَمِ يوسُفَ .. ومنه بُـراءً كانَ .. !

خَلّيكَ, يا ذيبُ, في رِفعَـةٍ عمّـا دَمَغَتْكَ بـه المعاجِـمُ و" الدَهمـاءُ "!!

تُعجِبني, يا ذيبُ, لأَنَّكَ تَمقُتُ " الحظائرَ " كي لا تَغدو " كَلبَـاً "..!!

أنتَ تنـوحُ, فيما فِضّـَةً يَقْطُـرُ القمرُ ..

إدفِنْ حُرقَـةَ النُـواح بقلبِكَ .., تَنْزَعُ السَكينَةَ عن قلوبِ " الكِبـارِ " !

 

أَتَبحثُ عن قَمَـرٍ أَخـرَ, بعيـونٍ تَتَحـدّى المِخـرَزَ والشوكَ .. ؟!

أَمْ عنْ نجمـةِ الصُبـحِ, دليلةِ السُراةِ .. ؟!

سأتكفَّلُ, عنكَ يا ذيبُ, بهذا القمرِ الفضولِيِّ, الباهِتِ, " مَجدورَ "! الطَلعَةِ ..

لا شُغلَ له إلاّ هَتكَ أَسرارِ الليلِ,

يَهُشُّ عَنْ رأسِكَ لِحـافَ النوم ..,

يَتَلَصَّصُ عندَ شبابيكِ العُشّاقِ ...

سَارميه بصنّارتي, أَسحَبُه كما يَفعلُ الصِغار بطيّاراتِهم الورقية ..

أربُطُه عندَ سَروَةٍ عتيقةٍ, خلفَ الجَبَل .. فلا يطلَعُ إلاّ باهِتاً في الأصبـاحِ !

وإنْ تَمَنَّعَ سأُقَطِّعـُهُ أَشرِطَةً ...

لا .. ! لا .. !!

سَأُقَصْقِصُـهُ أَهِلَّـةً نَحيفَةً, نَحيفةً, كَهِلالِ العِيد ..

أَدُسُّهـا في زَنابيلِ اليَتامَى,

سأَجلِبُ لكَ قَمَـراً أَسودَ, يَمسحُ مرآةَ العَتمَةِ, عساكَ تَهجرُ العويلَ !!

وسَنكتَفي بنُجيمَةٍ مُتَبَرِّجةٍ, أو قُلْ نَتَوَهَّـجُ بأحزاننـا, نتَحَصَّنُ بالظُلمَةِ في عِـزِّ

صَمتِ الُمرابين, وَجَعجَعَةِ الرَدّاحين ..

 

سنَتَحسَّسُ, يا ذيبُ, طريقَنا في الظُلمَةِ على خُطىً تَرِنُّ فينا مثلَ "الليرةِ الرَشاديَّـة " !

فلا " الخيلُ " ولا " الليلُ " يَعرِفُنـا ... سوى " القرطاسُ " و " القَلَمُ "..!!

.............................

أَتَسمَعُ يا ذيبُ ؟! سأحكي لكَ بعضـاً من قِصَّتنا ...

فيما مضى, كُنّا نَتّخِذُ من الغَيمِ " بلاتو " نَرسِمُ فوقَه أحلامَنا الصغيرةَ .. حارّةً كرغيفِ

التنّـور .. نَخُطُّ فوقَه كيف تُصابُ المصابيح بـ" جَلطَةٍ " كهربائيةٍ, فَتَتْرُكُنـا نَسبحُ

في الظُلمَـةِ ..

 

مَـرَّةً, غِبتُ, يا ذيبُ, عن نَفْسي, غِصْتُ في دَمي, فَعَثَرتُ عَليَّ في خَيمَـةِ سركٍ ..

لَمْ يُدهِشني أَنَّ أحداً من الجمهورِ " الكولاج ! " لَمْ يُصفِّقْ, بينما كُنتُ أُرَوِّضُ اليأسَ

والقنوطَ ..!

أَعرِفُ أَنَّ المشهَدَ لَمْ يكنْ مُسَلِّياً, كذاكَ الذي قَدَّمَه شابلن في "نمرَته" المُمَيَّزة, بتَرويضِ البَراغيثِ ..!!

إنْسَلَلْتُ من المشهَدِ الواجِمِ, أُجَرجِرُ سيزيفَ " الضَريرَ ", خَلفَ الكواليسِ ـ إِستَعَنْتُ بـه في نِمرَتي ـ

إلـى حيثُ المرايـا مُكَسَّرةً, عَلَّهُ يُفرِغُ مَوّالَ الحزنِ .. لا لِنَبكي طَلَلاً,

بَلْ لأُريه كيفَ تَنوَلِدُ الظُلمَةُ لَمّـا يَنكَسِرُ المـاءُ, ويظلُّ الكوبُ " سالِماً "!! عَساهُ يُدرِكُ

مغزى خُسرانُ وطنٍ, حينَ تَضيعُ الأَقمـارُ في مَجازٍ هابِطٍ ..!!

... عندما يحترِقُ الصبرُ, ونحنُ " شَمَّريونَ "* لأنَّنا نَصَبنا في الهـواءِ شِباكاً من أسلاكٍ, حتى غير شائكةٍ !

فَلَمْ يَعْلَقْ بِهـا إلاّ صَهيلُ الريحِ .. يُراوِغُ فوقَ سفوحِ الشِعارِ .. لا غير !!

 

كُنّـا, ياذيبُ, بُقعَةَ ضوءٍ .. تَحلُمُ أَنْ تَصيرَ واحدةً من الشُموسِ .. لكنّنا لَمْ نَهتدِ إلـى

غيرِ الحِبْرِ السرِّيِّ, نَكْتُبُ بـه خطابـاً "سرياليـاً "...!!

* * *

 

يا ذيبُ, هَبْ لنا من لَدُنكَ ضِرساً .. سَنَتدَبَّـرُ, وجَدّاتِنا, العَفَصَ والخِرَزَ الفيروزَ !

عَلَّنـا نُشفى من " زُحافِ " الرؤيـا, ونَهجُـرَ نَشازَ " التَعليلِ والتأويلِ " ..!!

يا ذِيبُ, يا ذِيـ ..... .ـبُ ! أَعِنّـا عَسانا نَتَطَهَّـرُ, فَنَكِفَّ عن بَديـعٍ زَلِقٍ, لَزجٍ !

لأَنًَّ الجِنـاسَ باتَ يَنـوحُ من بؤسِ الإشتقاقِ ...!!

 

لا يّهُمَّنَّكَ, يرمونَنَا, بمـا شاؤوا ..! دَعهُمْ يقولوا أَنّـا سادَةُ " التَجديفِ ".. !

سأُطعِمُكَ ثَمَرَ الرَعـدِ طَرِيَّاً, فَأرزُقنا شجاعةَ الأَصـالَةِ أَنْ نرى أَنفُسَنا من دونِ مَرايا,

أَنْ نَفقَهَ ما يَنبغـي أَنْ نُريـدَ ... !!

 

إِصرَخْ, فَدَاكَ "المالكونَ ", عَـلَّ الأسئلَةَ والمدائنَ, تَنفِضُ صَدَأَ الجَهالَةِ, فتَصحو, تَنضو

عنها أَترِبَةَ التَصَحُّرِ ...

عَلِّمْنَـا, رَعاكَ الله, فَقَدْ نَسينا إندياحَ المسافاتِ عندَ الشواطيءِ .. تُغوي القناديلَ لرَقصِ "زوربـا" في چَراديغَ بُغدانَ ...

حَتّى نَسكَرَ بكوثَرِ الرؤيـا من طاسِ الهَديلِ .. سَـئمنا

زَبَـدَ الزَمان هـذا .. !

 

على "شَرايعِ" " الشَوَّاكَةِ " و "الكْريماتِ " تَكَسَّرَتْ إسطورةُ الأحلامِ, وقُصورُ رَملِ الصِغارِ ..

فيما "عَلِيَّةُ " الوَطيئةِ ! تُذيبُ مِلعَقَةَ سُكَّرٍ في أُجاجِ العَفَنِ, عَلَّهَا تُشَوِّهُ تَضاريسَ الطَعمِ !

... تَعُبُّ الرأسَ والصَدْرَ بأَراجيلِ السِحرِ والغَيبِ, يَتبعُهم " المُنَوَّمونَ ",

يُرَتّلـونَ " إنشودَةَ المطَرِ ", يَحسبونَها صَلاةَ إستسقاءٍ لبَوادينا ... !!

 

قُـلْ لنَـا, يا ذيبٌ, كَيفَ السَبيلُ ! فإِنّـا صَحْبٌ ضَئيلٌ, والرَهْطُ مُتَمَنِّعٌ عن السمعِ

والرؤيـا ... كالقطيـ.............ـع !!

و"علاءُ الدينِ " فَتىً, بينَ دياجيرِ الرصـافَةِ والكرخِ, يبحثُ عن مصباحهِ في تِـلالِ

القُمـامَةِ ..!

وفيما "الجمعُ" الذكوريُّ يَلعَقُ بألسِنَةِ الشَبَقِ الشوارِعَ, مَشْدوداً لرائحةِ " أُنثى ",

سنبقى وحيدينَ, إذْ تَفَرَّقَ الصحبُ, كُلٌّ إلى " بزنِسِهِ ", فأنفَرَطَ الوطنُ من بينِ أَيدينا ..

وما عُدتُ أَعرِفُ أَينَ أَحُطُّ رِحالي, حَمَلتُها طويلاً في المنافي والشَتَاتْ !

سأَقذِفُ بِها فـي ريحِ العَمـاءِ, وأَحمِلُ ما خَفَّ منها .. أَشيائي المُفَخَّخَةَ بالأسئلةِ ..!

 

إِخْمِطْ ! إِخمِطْ بِمِخلَبِكَ فِضَّةَ المرآةِ, يَلْتَّـمُّ الشارِدَ منَ الشُهُبِ .. فيُضيءَ عَتمَةَ السُكونِ ...

يا ذيبُ لا تَتْرُكنـا وَحيدينَ لضَواري الزَمان,

فنحنُ صَحبٌ ضئيلٌ, مثلما تَرَى,

" دَرَاويشَ ", لا يَسْتُرُنا غيرَ عَجـاجِ ماضٍ رَحَلَ ...

* * *

 

مُتعَبـونَ, منَ الجََبَلِ, إلى البَطحـاءِ نَزَلنـا, ومنَ الشَتَاتِ إلتَأَمْنَـا ..

إِستَمرَأنـا اللَعِبَ مع " اللاعبينَ "! كـي لا نَظَلَّ معَ " الجمهورِ " !!

صَمَمْنَـا الآذانَ عنْ حِكمَـةِ .." لا تُقامِرْ في لُعبَـةٍ, تَجهَل قَواعِدَهـا "!!

وحينَ جَـدَّ الجِـدُّ, رُحنـا نُتأتِيءُ, ونَلثَغُ عندما نُسألُ عنْ أَمانينا .. فيما الآخرونَ

فَصيحون, جَهوريونَ فيما يريدونَ ..!

كُنّـا سُجناءَ .. تَحرَّرنا, لكن يا لوَيلتِنا, نَسينا أَحلامَنـا سَجينَةً ؟!

...............................

إرحَمنـا, يا ذيبُ, فَنحنُ " فُقَراءُ " .. إلى أعناقِنـا مَغْلولَةٌ أيدينـا,

ومِنْ حَولنـا ضِبـاعٌ ..!!

 

يا ذيبُ, أَعِنَّـا على أَنفُسِنا مِنَّـا ..

فَهَلْ يَرِقُّ جَلمودُ قَلبِكَ, فتَأخُذَ بأيدينـا, عَلَّنَـا نَتَطَهَّرُ فَنَقِفُ على إثنَتَينِ ...

عَسانا نَبـرَأُ من عِلَّةِ " التَعليلِ " !!

فَنَثوبَ إلى عِراقٍ رحيـمٍ, حُلـوٍ, كأحلامِ الصِغـارِ ...

 

نَعرِفُ أَنَّ فينـا مَنْ إِستَصرَخَ " بليرَ " عَلينَـا ... !

وقَرَأنـا للبعضِ الآخر أنّه سيرضى, حتى بشارونَ .. !

نَسَوا أَنَّ الأوطانَ لا تُهـاجرُ ..!

يُمكِنُ لهـا أَنْ تَتَشظّى وتَنْتَحر, لكنها لا تَرتَحِـلُ ..

إلتَمَسوا الحريةَ ممّن لايملكها .. من سادةِ الحروب, المُقيمينَ في أَبراجِ المصارِفِ,

تحتَ يافِطَةٍ خُطَّ عليها " خُلِقَ الإنسانُ ليموتَ .. إنْ لَمْ يُقتَلْ ! "

 

يا ذيبُ نَعرِفُ أَنّـا غيرَ " أَسوياء "!, نحنُ, مثلُكَ, " خوارجُ " هذا الزمان .. !

نَستَلقي ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال !

نتَطلَّعُ, من منظورٍ أُفُقِيٍّ _ لا فَوقِيٍّ ! _ لـ "ربيعِ ", طُمِرَ تحتَ عواصِفِ التراب, هَبَّتْ من نَجدٍ والرُبعِ الخالـي ..

سَرَقَتْ حناجِرَ الناس وأحلامهم ..!

فما عُدنا نرى, غيرَ خَرابٍ مدفوعٍ من خزائنَ أَبي جَهلٍ و" خَيْبَرِ " الخِلجان..!

و"كَمْشَةٍ " مِمََّنْ يتَشَبَّثونَ بأَهدابِ الشمسِ .. عَسَى, ولَعَلَّ .. !!

فيما الموتُ, يافِعاً, يَتَمشَّى خارِجَ المقابِرِ .. في الأَزِقَّـةِ والحارات .. !

ليتَني, يا ذيبُ, لا أَرَى كيفَ سَيَغدو ياسمينُ الشامِ, الذي لا يعرفُ بدوُ البوادي, غيرَ بَوْلِ الإِبِلِ مِسكاً !!

ولا كيفَ يموتُ الدوريُّ ..

تُـرى أَيَظلُّ غناؤه مُعلَّقاً في الهواءِ فوقَ "أبو رُمّانه" ؟!

............................

طوابيرُ كوابيسٍ, لا تُبارِحُنـا .. تُقاسِمُنا السريرَ !

سنحتاجُ زمناً مَديداً, حتى نَتَعَلَّمَ المُكْرَ, فَنَذهَبُ معها إلى السريرِ يداً بيد, مثلَ عاشقينِ !,

نَغفو سَوِيَّةً .. فَنَفيقَ بِدونِهـا,

نَنْسَلُّ من دفءِ الفِراشِ .. نَترُكها تسبحُ في الشَخير ..!

 

غَداً, حينَ لا تَراني, سأكونُ متأَمِّلاً أَشجارَ الصمتِ .. مُلتَحِفَـاً بظلّي, لا يُبارِحُني,

أراه يسيرُ مُتأَبِّطـاً كتاباً, يَحسَبُهُ فاتِنَةً,

يُهدهِدُني للغَفوِ, دونَ أَنْ يَقولَ لي " تُصبِح على خَيْر !"

أو قَـدْ أَكونُ هائمـاً في دهاليـزِ حَيرَتي, تَتْبَعُني الغوايَةُ متوَسِّلةً ..

فَمُذْ كُنّـا صِغـاراً, نَصرَخُ, لَمْ يَتعبْ من الصمتِ الحجرُ ..

ولا كَفَّ النجمُ يَخزِرُنـا .. !

لا نَدري, حتى الساعَةَ, مَنْ " دَعـا " علينـا, فصارَ " الطيرُ الأَبابيلُ " يرمي بيادرَنا

بشواظٍ من " سِجّيل "! حتى طَشَّ الصَحبُ غَيبَتَنـا بماءِ العَصريّاتِ فوقَ تُرابِ العَتَباتِ,

ليستريحوا من " النَقِّ والنَكَدِ ! "

ــــــــــــــــــــــ

* سُئلَ أعرابيٌّ من قبيلةِ شَمَّر عن حاله, فأجابَ : " شَمَّرْ بخيرْ .. ما عُوزْها غير الخام والطعام "!!

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2210   السبت  25/ 08 / 2012)

في نصوص اليوم