نصوص أدبية

رسالتان / عدنان الصائغ

 

 

(1)

الشعر وروح العالم

 

ماذا يعني أن تكون شاعراً 

أنها تعني: فهماً للأمور بتعمق كامل

وتسليحاً لذاتك بالرقة والحساسية 

وأن يعيش الناس في دمائك 

يغتسلون في عروقك.

سيرجي يسينين

 

يجب على الشاعر أن يصبح هو نفسه العالم.

ريلكة

 

 

لماذا تم تغييب الواقع عن الأدب، وإقصاء النص عن مجريات الحياة العامة؟

البعض يحاججك بالحداثة. والآخر يعتقد أن تطورات المدارس الفنية السريعة هي التي آلت بالنص الحديث إلى هذا الاتجاه المتطرف. والآخر يرى أن النص لم يعد انعكاساً لحياة الشاعر وعصره فهذه الوظيفة المستهلكة التي لاكتها المدارس الكلاسيكية والواقعية والرومانسية زمناً طويلاً قد مجّها العصر الحديث والشاعر الحديث والقارئ الحديث. والآخر يرى أن الإبتعاد عن الجماهرية أنقذ النصوص من المباشرة والحماس الفج الذين جعلا الكتابة مجرد تسجيل حرفي للواقع.

غير أن مثل تلك الطروحات ـ وفيها الكثير من الصحة أحياناً ـ تنعطف عن أدوار الأدب في الحياة بما فيها دوره الجمالي والتعبيري، وتجعله مجرد نص ذهني بحت ليس له من وظيفة وهم سوى التجريب الذي يفضي إلى التجريب، وإلى ما لا نهاية..

ولست ضد التجريب أبداً، بل العكس تماماً، فهو خيرٌ من الثبات والتكلس ألف مرة، لكن تحول النص إلى مجرد لعبة مسلية بالكلمات المتقاطعة يفرغهُ من حياته ودوره وجمالياته.

غير أن السؤال الأزلي يبقى حاداً وملحاحاً: ما هو البديل، وسط هذه الفوضى الشعرية التي تعجّ بها مكتباتنا وصحفنا ومهرجاناتنا كل يوم؟

وأين هو الشعر الحقيقي؟ تحت هذا الركام الكونكريتي من القصائد، الذي أخذ يغطي على كل شيء بأطنان من الكلام الفارغ دون أن نتلمس منه شيئاً.

أين روح الشعر الخلاقة؟ تلك التي أضاءت العالم لعصور طويلة منذ هوميروس المغني الأعمى الذي كان يرى أن "الشعر إعادة لصياغة العالم"، وحتى عصرنا هذا، حيث بإمكاننا الآن أن نقرأ الأدب لنلمَّ بما جرى من أحداث على سطح كوكبنا الورقي منذ بدء البشرية حتى يومنا هذا.

واتركِ الانعكاس والواقع والوقائع التي هي من شغل المؤرخ، لكن تعال وتلمسْ بروحك وعينيك رعشات روح البشرية واختلاجات نبضها الضاج بالحياة والموت والصراخ والحب والأمل والرماد، فيما نقرأُ من نصوص خالدة، لم تفرط بجمالياتها وحداثتها على مر العصور، بل هي أكثر حداثةً ـ رغم تقادم القرون ـ من بعض نصوصنا المعاصرة.

واعدْ قراءة مقابسات التوحيدي ومخاطبات النفّري وخمريات أبي نؤاس وشطحات الحلاج وقصائد المتنبي وامرئ القيس وأبي تمام وابن الرومي والخ.... واعدْ قراءة ملحمة كلكامش والإلياذة والإنياذة والشاهنامه والرومايانا والمهابهارتا وبستان الورد للشيرازي وأزهار الشر لبودلير ولقالق رسول حمزاتوف وبرابرة كافافي والمركب السكران لرامبو والأرض اليباب لاليوت، وأنشودة المطر للسياب، والخ.... تجد أنها كانت النبض الحقيقي لعصرها والسجل الخفي لتاريخ الناس ومشاعرهم وفنهم والشاهد الحقيقي على أحداث العالم.

إن الشاعر الكبير أكبر من المدارس والاتجاهات الفنية وهو الذي يطوّعها لفنه ولنصه وليس العكس. فقد كان أبو العتاهية مثلاً يرى نفسه أكبر من العروض، مثلما يرى مايكوفسكي أنه أكبر من الواقعية، ونرى أن مالارميه أكبر من الرمزية، وأراغون أكبر من السريالية، بل هم كل هذا الخليط المدهش من الاتجاهات والمدارس الفنية. ذلك أن كل فن عظيم ـ كما يرى الفنان الانكليزي هنري مور ـ يتضمن عناصر سريالية وتجريدية معاً، كما يتضمن عناصر كلاسيكية ورومانتيكية. لأنه يتضمن النظام والمفاجأة، والذكاء والخيال ، والوعي واللاوعي.

لقد كان غوته يرى "أن الشاعر الحقيقي هو قاص كبيرٌ أيضاً"، وذلك لأنه يرى ويصور ما يدور حوله من وقائع ومعارف ومشاعر، ويعيش مجريات عصره نصاً وحياةً، وهذا ما يؤكده إليوت في نظريته التي تعتبر "الشعر هو خلاصة المعرفة الانسانية وعصارتها". بل هو بصورة أدق: "يعبر عما لا يمكن التعبير عنه" على حد تعبير اوكتوفيو باث. وفي ذلك الإتجاه ذهب الفراهيدي إلى القول أن "الشعراء أمراء الكلام"، وشاركه فرويد بعد مئات السنين  بقوله: "إن شعراءنا هم أسيادنا في معرفة النفس نحن الناس العاديين لأنهم ينهلون من ينابيع لم نجعلها بعد سهلة المدخل للعلم"، ويؤسس أراغون مملكته الشعرية على أنقاض خراب العالم كما يرى ويحلم ويحب، قائلاً: إن "الشاعر يعيد تركيب الكون كما يحلو له"، وبما إنه ليس للشاعر من أدوات كما للاخرين يرى أزرا باوند أن الشعر يمكنه أن يفعل ذلك حيث يعمد إلى "بناء العالم بواسطة الكلمات". وهذه الكلمات الشعرية هي التي "تضيء التجربة الانسانية العميقة" على حد قول فؤاد رفقة، ومن خلال ذلك الحس الإنساني نتلمس البعد الذي ذهب اليه الشاعر الامريكي ايمرسون عندما وصله ديوان "أوراق العشب" لوالت وايتمن في البريد قائلاً بعد قراءته: "مسحتُ عيني قليلاً لأرى إنْ كان هذه الشعاع الشمسي حقيقة وليس خدعة".

فأين ذلك مما نقرأه اليوم من نصوص بعض شعرائنا الموغلين في التغييب واقصاء الروح والعالم والحياة والمتلقي، حتى أننا نجد الشكوى تمتد لتشمل الشعراء أنفسهم فقد صرخ أمل دنقل قبل رحيله المبكر: "إن موجة كاملة من الشعراء الذين برزوا في السنوات العشر الأخيرة تقرأ لهم فلا ترى وقع أقطارهم ولا واقع الوطن العربي كله في شعرهم ولا تعرف إذا كان مثل هذا الشعر مكتوباً في لبنان أو المغرب أو في ايرلندا".

 

 

*    *        *

(2)

وظيفة النص

عندما تكتب عن قريتك، عن الحي الذي تسكن فيه، عن جيرانك، عن نفسك - كما فعل نجيب محفوظ – تكون امكانية الوصول إلى المستوى العالمي متاحة. إنني أؤمن أن المحلية والأصالة هي الطريق للعالمية.

الطاهر بن جلون

 

نحتاج الفن حتى لا تميتنا الحقيقة.

بيكاسو

 

ما هو المطلوب من الفنان أو الأديب؟

أنْ يكون جاداً متعمقاً ومتعالياً ليعبّر عن أفكار النخبة المثقفة في المجتمع. هذا ما يقوله البعض، من أصحاب نظرية الفن النخبوي.

أنْ يكون سهلاً وواضحاً ومفهوماً وفي متناول الجميع ليعبّر عن هموم الشرائح الشعبية الواسعة في المجتمع. هذا ما يقوله البعض، من أصحاب نظرية الفن للجماهير.

أنْ يكون مخلصاً لفنه، باحثاً عن اللذة والفن والجمال، بعيداً عن السياسة والصراع الايديولوجي. هذا ما يقوله أصحاب نظرية الفن للفن.

أنْ يحمل مشعل التنوير الثوري، ليبدد ظلام الامبريالية والدكتاتورية. هذا ما يقوله البعض، من أصحاب نظرية الفن الثوري.

أنْ يكون فردياً خالصاً يحمل ذات الفنان المتوحد مع أفكاره وأدواته الفنية بعيداً عن الآخر. هذا ما يقوله البعض، من أصحاب نظرية الفن الذاتي.

أنْ يكون عاماً وشاملاً يحمل تجربة الآخرين وهمومهم وأفكارهم. هذا ما يقوله أصحاب نظرية الفن العام.

أنْ يكون منفعلاً مع لحظة الحدث الآنية ومجسداً لها، بعيداً عن السياقات التاريخية.

أنْ يكون مشغولاً بالأحداث التاريخية العظيمة، غير ملتفت أو منفعل بالاحداث العابرة.

أنْ يكون خارج وطنه ليكتب بحرية أوسع وبنظرة شاملة ومحيطة.

أنْ يكون داخل وطنه ليكون قريباً من هموم الشارع ونبض الناس.

أنْ يكون متجذراً بالماضي، نابعاً من التراث.

أنْ يكون متمرداً على التراث، ثائراً مجدداً وكاسراً لقيود الماضي.

أنْ يكون آمناً مستقراً مطمئناً، ليبدع.

أنْ يكون قلقاً فزعاً مهدداً مفلساً، ليبدع.

أنْ يكون، وأنْ يكون، وأنْ يكون، الخ والخ....

وهي جميعها مطالب ووظائف وتوصيفات صحيحة، من وجهة نظر المنطق الأدبي الصحيح، ومن وجهة نظر أصحابها، مدعومة بالحجج والبراهين المنطقية التي كبرت واتسعت على مدار السنوات والحوارات والدراسات.

وتحتار أيهما ترجّح؟

و"على أي جانبيك تميلُ"..؟

وتسمع بيكاسو يقول لك: "ماذا ترون في الفنان! أتظنونه أحمقَ لا يملك سوى عينين إذا كان رساماً؟ وأذنين إذا كان موسيقياً، وقلب خافق إذا كان شاعراً؟! هذا هو الخطأ بعينه، فالفنان فنان، ولكنه في الوقت نفسه رجل سياسي، تحزنه الأحداث المؤلمة، وتفرحه مسرات الناس في كل مكان. واللوحات الفنية لا يرسمها الفنان لتزيّن بها الغرف والقاعات، ولكنها أسلحة قتال يوجهها إلى كل ما في الحياة من فساد وانحلال". فتعجب من منطقه الصحيح وتقول: إن الفن لا يكون إلاّ سياسياً.

وتسمع تولستوي يقول: "مهمة الأديب أن يحدث الناس عن الناس". فتقول: إن الفن لا يكون إلاّ اجتماعياً.

وتسمع هونورا روندل يقول: "من الضروري أن يحدد الفنانون موقفهم من الصراع الايديولوجي طالما إن الفن مرتبط به حتمياً". فتقول: إنَّ الابداع لا يكون إلاّ ايديولوجياً.

وتسمع المفكر الفرنسسي مونتان يقول: "إنني المادة الوحيدة لأدبي". فتقول: إن الإبداع لا يكون إلاّ ذاتياً.

وتسمع يفتوشنكو يقول: "الشعر عندي بوح أمام الجميع وليس أمام حلقة ضيقة من المتخصصين". فتقول: إن الابداع لا يكون إلاّ عاماً.

وتسمع المرزوقي يقول: "أحسن الشعر أكذبه". فتقول إن الابداع لا يكون إلاّ إيهاماً.

وتسمع بول سوداي يقول: "الأدب هو الشعور بالانسانية". فتقول: إن الابداع لا يكون إلاّ انسانياً صالحاً.

وتسمع اندريه بريتون مطالباً بـ "تدوين الفكر في غياب كل أنواع السيطرة التي يمارسها العقل بمعزل عن كل الاعتبارات الاخلاقية والجمالية". فتقول: إن الابداع لا يكون إلاّ هذياناً أو انفلاتاً.

وتسمع زكريا تامر يقول: "الكاتب الناجح هو الكاتب المحرّض". فتقول: إن الابداع لا يكون إلاّ محرّضاً.

وتسمع جان كوكتو يقول لك: "الكاتب يشبه ذلك الحيوان البري الذي كلما طارده الصيادون كتب أفضل". فتقول: إن الفنان لا يبدع إلاّ حين يكون مهدداً.

وتسمع غوته يقول لك: "الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة الآلاف سنة الأخيرة يبقى في العتمة". فتقول: إن الفن المبدع هو الموسوعي، المتصل بالماضي.

وتسمع أوجين أونسكو يقول لك: "كل أدب جديد هو عدائي. العدائية تمتزج بالأصالة وهي تقلق ما اعتاد عليه الناس من أفكار". فتقول: إن الفن المبدع هو الجديد المنفصل عن الماضي.

وتسمع ريلكه يقول: "كل ما هو هام يبدو عسيراً". فتقول: إن الابداع لا يكون إلاّ عسيراً.

وتسمع الكاتب الالماني غونتر غراس يقول: "إن استعمال الرمز في الكتابة شيء تافه وأنا أمقته ، ففي كتاباتي لا أعني إلا ظاهر ما أقول". فتقول: إن الابداع هو المباشرة.

وتسمع كولردج يقول: "الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة ذلك لأن الصورة المجازية جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر والحياة". فتقول: إنَّ الابداع هو المجاز.

وتسمع بلينسكي يقول: "إنَّ الفن هو التمعن المباشر في الحقيقة". فتقول: إن الابداع هو الحقيقة.

وتسمع بورخس يقول: "إننا بحاجة الى الخيال كي نواجه تلك الفظاظات التي تفرضها علينا الاشياء". فتقول: إن الابداع هو الخيال.

وتسمع نيتشه يقول: "ليس هناك فنان يستطيع أنْ يحتمل الواقع لأنَّ من طبيعة الفنان أنْ يضيق ذرعاً بالعالم". فتقول: إنَّ الابداع هو التمرد.

وتسمع أبا تمام يقول: "قلم البليغ بدون حظ مغزل". فتقول: إنَّ الابداع هو حظ.

وتسمع الروائي الانجليزي لورانس يقول: "إنَّ الكتابة عملية تعرية". فتقول: إنَّ الابداع هو التعري.

وتسمع آلان بوسكيه يقول: "كل مبدع يخرّب". فتقول: إنَّ الابداع هو تخريب ما سبق.

وتسمع ماركيز يقول لك: "إنَّ واجب الكاتب الثوري أنْ يكتب جيداً ذلك هو إلتزامه". فتقول: إنَّ الإبداع هو الإلتزام بالابداع.

وتسمع مارسيل بروست يقول: "إنَّ المتعة التي يتيحها لنا الفنان أنه يجعلنا نرى عالماً اضافياً". فتقول: إنَّ الابداع هو الرؤية المضافة.

والآن!! أيهما أكثر قرباً من وظيفة الفن والأدب من كل ما مر بك وما لم يمر؟.. وأيهما أكثر توصيفاً وتحديداً لمهمة الفنان والأديب في هذا العصر الملتهب، وفي كل عصوره السابقة.

تلك المهمة التي هي ـ باختصار ـ كل هذا الحشد من الوظائف والتوصيفات وغيرهما الكثير، الكثير. فالفن يجمع في داخله كل الأضداد والوظائف وحركات الأكوان والتاريخ والمعارف والسير والثورات والجمال والإبهار والحق والانسانية والتمرد والهدم والبناء والحلم والهذيان والخ… مما يجعل كل نقاش حول توصيفه ووظيفته صحيحاً من جهة، لكنه من جهة أخرى ضرباً من السفسطة التي لا تنتهي ما دام الفن مستمراً ومتغيراً ومتجدداً باستمرار حركة الحياة وتجددها وتناقضاتها وزحامها.

*    *        *

 

عدنان الصائغ

شاعر عراقي مقيم في لندن

 


خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة يوم الشعر العالمي اعتبارا من 24 / 9 / 2012)

في نصوص اليوم