نصوص أدبية

صديق الحرب الازلية!

salim matar بيروت 1980

نعم يا صديقي، إني أتذكرك جيداً، فما زالت دموعك تذرف من عيني ونحيبك يعلو في صدري. أراك في ذلك المشهد الذي غيَّر حياتي كلها. تلك الأمسية الربيعية، كنّا أربعة عراقيين جالسين على الأرض في غرفة معتمة صغيرة. أنا وأنت ورفيقان نتداول الأحاديث التي توقفت قليلاً بعد سماعنا أصوات انفجارات بعيدة. لقد تعوَّدنا ضجيج الحرب في هذه المدينة (بيروت)، منذ أن التجأنا إليها هرباً من الوطن. كنّا جزءاً من آلاف العراقيين الذين هربوا من شبح موت إلى بلاد تعيش موت وسط حرب أهلية لا ترحم ولا تميز بين البشر.

عبر نافذة مطلة على (حارة الفاكهاني) كانت تأتينا أصوات الناس ممزوجة بقعقعة السلاح. بينما أنت مسترسل بحديث طريف عن نكات جديدة قادمة من الوطن. طيبتك الطفولية لم تجعلك تنتبه إلينا، نحن رفاقك الثلاثة، كيف كنّا نفتعل ضحكات صفراء ونتبادل نظرات سرية متآمرة.

قام أحدنا بغلق الستارة وأشعل ثلاثة شموع أضفَت على المكان جواً من الرهبة وعلى وجوهنا ملامحَ نارية، كموتى في جهنم.

يا صديقي، حينها لم تنتبه أيضاً بأننا جلسنا بوضعية بحيث تكون أنت أمامنا مستنداً على الحائط ونحن بمواجهتك مستندين على الحائط المقابل. لم تستوعب معنى نظراتنا التي راحت فجأة تصوب نحوك مفعمة بشك وإدانة. أراك الآن بكل وضوح كيف بدأت بالتدريج تموت ابتسامتك المتألقة على محياك لترتسم محلها ملامح دهشة واستغراب وأنت ترى أحد الرفاق يحدق بك بصرامة ويكلمك بصوت حازم يشوبه ارتباك:

- اسمع رفيق.. هناك أمر خطير نريد أن نكاشفك بيه.. الحقيقة إحنا ترددنا كثير لكن المسألة ما عاد من الممكن السكوت عنها. أنت باختصار يا رفيق متهم بالخيانة. نعم أنت متهم بالخيانة وما نطلب منك غير الاعتراف وتعويض ما اقترفت من خيانة وتجسس بحق القضية والمنظمة. نعاهدك بالشرف إذا اعترفت وتعاونت معنا راح نعفو عنك، وإلا فحكم الإعدام ينفذ بحقك هذه الليلة بالذات.. و.. و..

وانقطع صوت الرفيق بانقطاع الكهرباء وساد الغرفة ظلام وصمت ممتزج بزخات مضادات الطائرات المنتشرة فوق عمارات الفاكهاني، وضجيج صرخات الناس:

ـ (بصو الطائرات الإسرائيلية.. شوفو الطائرات..). ومن خلف باب الشقة تسرب إلينا بكاء طفلة تستغيث بأمها.

لم يصدر أي صوت منك يا صديقي.

من بين ضياء الشموع رأيتك باهتاً وابتسامتك تومض وتنطفئ مع تموجات اللهب. أدركت جيداً مشاعرك يا صاحبي. كنت تجاهد كي لا تصدق ما قاله الرفيق. أعرف أنك قلت لنفسك:

ـ (هاهي لعبة أخرى يختبرني عبرها الرفاق). حاولت أن تقنع نفسك بأنها مثل اللعبة السابقة التي عشناها سوية قبل أسابيع.

***

 

أتتذكر ذلك المعسكر الفلسطيني شمال دمشق والمحاذي لقرية معلولا التاريخية. كيف أمضينا الأسابيع نتدرب مع الفلسطينيين على حرب العصابات، كي نعد أنفسنا للثورة التي سوف نطلقها في الوطن.

ذات ليلة حالكة مثلجة كنا غارقين في النوم في المهجع متدثرين بالبطانيات العسكرية وأحلام الثورة والاستشهاد، وإذا بنا نفزّ فزعين على أصوات انفجارات وصرخات استغاثة:

ـ ياجماعة.. يارفاق.. هجوم إسرائيلي.. آخ.. آخ.. يابا الحگني الحگني ..

كانت استغاثات وجع وموت تذوب في زخات رصاص وصرخات تهديد باللغتين العربية والعبرية:

ـ القوا سلاحكم واستسلموا يا جبناء.. يا إرهابيون.. اقتله.. قلت لك اقتله هيك اللي ما يستسلم... ولعلعت زخات الرصاص ومعها صرخات الموت!

وسط ظلام ورعب وارتباك قفزنا من أفرشتنا وارتمينا على بنادقنا. لكن المفاجأة أننا عندما بدأنا الإطلاق على ظلال الجنود الذين دخلوا مهجعنا اكتشفنا أن بنادقنا كانت فارغة. قبل أن يتاح لنا أي وقت للتفكير كانت الأشباح الإسرائيلية فوق رؤوسنا وبنادقهم انغرزت في صدورنا مصحوبة بشتائم عربية وعبرية وأوامر حازمة بالاستسلام أو الموت!

لا أدري إن كان من سوء حظك يا صاحبي أو هو قدرك، أن الجميع لاذ بالصمت بانتظار المجهول، لكنك أنت الوحيد الذي انفجر ببكاء مر وعويل دام باغتنا جميعاً:

ـ يا يمىّ تعاليلي.. يا يمىّ خلصيني.. يا جماعة آني بريء.. آني ما أريد أموت.. والله العظيم ما كنت راغب لا بالحرب ولا بالسلاح.. آني إنسان أحب أمي واختي والكتب.. آني بريء يا إخواني آني بريء...

وسط صمت الكارثة ونحيبك ورجائك للجنود الإسرائيليين، انطلق فجأة صوت رفيق آخر، صارخاً بغضب:

ـ اسكت يا جبان.. اسكت خزّيتنا  يا مَرَه.. يا تافه.. عاشت الثورة ولتسقط الإمبريالية والصهيونية.. الحرية أو الموت...

وقبل أن يحدث هذا الأمر أي رد فعل من قبلنا، إذا بالضحك ينطلق من الأشباح الإسرائيلية وهي تنطق بأصوات رفاقنا الفلسطينيين:

ـ خلص يا رفاق التمرين انتهى.. كانت تجربة من شان إعدادكم على أسوء الحالات.. خلص يا رفاق نحنا رفاقكم ومش صهاينة.. يلّله اعلق الضوء يا رفيق.. التجربة انتهت يا جماعة...

هكذا إذن، فهمنا أن الهجوم كان وهمياً تنتهي به عادة الدورات التدريبية الفلسطينية.

***

منذ تلك الليلة الليلاء بدأت أوضاعك يا أخي تتدهور. موقفك الانهزامي ونحيبك الطفولي جعل كل الأنظار تتجه نحوك. لم تشفع لك محاولتي أنا وبعض الرفاق بأن نبرر موقفك هذا بأنه حالة إنسانية وصدمة نفسية يمكن أن يمر بها أي من الرفاق، ولا يمكن اتخاذها دليلاً للحكم عليك؛ لأني صاحبك منذ الطفولة وحدثتهم عن حياتك وطفولتك، وعن تلك الليلة التي قتُل فيها أبوك الشيوعي أمامك على يد رجال الأمن، وكيف أنك أمضيت عمرك مع أمك وأختك وكابوس الأب القتيل وصرخات احتضاره الممتزجة بلعلعة رصاص تلاحقكم  في ليالي الوحشة.

أخبرت الرفاق عن ثقتي الكاملة بك وإيماني بصدقك واستعدادك الحقيقي للتضحية. لكن كلماتي كانت أضعف من أن تواجه تلك الرغبة السرية العارمة التي كانت تدفع الجميع للتمسك بحكمهم القاسي:

ـ جبان أعلن استسلامه وباع القضية عند أول امتحان!

بصورة لا شعورية، اتفق معظم الرفاق على أن تكون أنت (كبش الفداء) المطلوب. بما أن الجلاد لن يحقق غايته دون الحد الأدنى من تواطئ الضحية، فإنك يا صاحبي رحت، مدفوعاً بمشاعر العار والهزيمة، تنزلق أكثر فأكثر نحو الهاوية، وتساهم من دون قصد في إثارة روح الشك والافتراس لدى الرفاق.

أعرف جيداً أنك في تلك الأيام كنت تعاني من مشاعر تأنيب الضمير بسبب هجرك لأمك وأختك. اضطررت لهجر العراق مثل الكثيرين؛ لأنك رفضت التوقيع على التخلي عن فكرك وضميرك. لكنك بنفس الوقت كنت تعيش الخيبة من حزبك والتردد في العودة أو البقاء. في أعماقك الدفينة كنت تود معاقبة نفسك على هجرك لأمك وأختك، فتجلَّت رغبتك بجلد الذات من خلال تآمرك اللاّشعوري في إثارة شكوك الرفاق ضدك.

تراك منذ تلك الليلة المشؤومة أخذت تميل إلى العزلة والابتعاد عن الجميع. بعد أن عدنا إلى مقر التنظيم في مخيم فلسطين في دمشق بدأت على غير عادتك تخرج وحدك صباحاً ولا تعود إلاّ في الليل. ادعىّ البعض بأنهم شاهدوك مرات عديدة تأكل في مطاعم فاخرة وبصحبة أناس غرباء.

ثم تفاقمت الشكوك عندما ذكروا بأنهم شاهدوك بصحبة أحد سواق الباصات العراقية العاملة بين دمشق وبغداد. أنت تعرف جيداً تلك الفكرة الشائعة عن هؤلاء السواق بأن لهم علاقات مع المخابرات العراقية. عندها اضطررت أن أسألك مباشرة عن هذه المسألة، أخبرتني بأن هذا الرجل قريبك ونقل إليك رسالة من أمك وأختك، وهو الذي كان يدعوك إلى المطعم.

الحقيقة أني صدقتك، لكن الرفاق لم يصدقوا وأصرّوا على التمادي بشكوكهم واتهاماتهم. الآن أدرك أنّ الكثير من الرفاق المصرّين على إدانتك كانوا مدفوعين أساساً بالغيرة من علاقتي الحميمة بك.

مع الأيام راحت الشكوك تتفاقم وأخبار علاقاتك المشبوهة تتكاثر ومطالب الرفاق بمحاكمتك صارت من القوة بحيث إني اضطررت بأن أوافق على قرار الأغلبية. قمت أنا شخصياً بإقناعك بالسفر معنا إلى بيروت، لكي تسهل محاكمتك وتنفيذ حكم الإعدام بك في حالة ثبوت إدانتك. 

***

لكن يا عزيزي في ذلك المساء الكئيب وأنت جالس أمامنا في تلك الغرفة المعتمة في مدينة (بيروت) الجريحة، ومن بين ضوء الشموع المتماوج بدوت لي منهكاً مثل نخلة عطشة. رفعت عينيك نحوي وسألتني بصوت خافت مبحوح:

ـ وأنت يا رفيقي يا (آدم) ما رأيك؟

في الحقيقة فقد باغتَّني بسؤالك، ولم أدرِ كيف أجيبك. خرجت مني الكلمات كأنها آتية من بعيد:

- اسمع يا رفيق أنت صاحبي وأعرفك من الطفولة، وآني اللي أقنعتك بالانتماء للتنظيم.. آني واثق منك، لكن يا رفيق الأغلبية صوَّتوا على هذا القرار.. صدقني آني أبقى صاحبك وأتمنى أن تقنع الرفاق ببرائتك و...

لكنك قاطعتني صارخاً بصوت يرتجف بالغضب رغم بحة الحزن:

- كافي يا رفاق ماعدت أتحمَّل.. يا جماعة اشلون أخونكم.. أنتم إخوتي أنتم أهلي أنتم أبويَ المرحوم اللي ما أنساه حتى نهاية عمري.. شلون أخونكم شلون.. لو تدرون إشگد أحبكم.. لو تريدون أثبتلكم إخلاصي ونزاهتي آني مستعد أن أقوم بأي عملية انتحارية تقترحونها عليَّ.. أفجر نفسي بهاي اللحظة إذا ردتم.. يا رفاق.. يا إخوان، الله أكبر .. الله أكبر .. معقولة أخونكم؟!

وكانت عبارتك الأخيرة مصحوبة ببكاء مر وأنت تضع وجهك بين كفيك وتجهش بنحيب وتضرب على رأسك.

ولكي أقاوم رغبتي الجيّاشة بمشاركتك غضبك وخيبتك نهضت إلى المطبخ وفي رأسي تجلجل كلماتك عن العملية الانتحارية. لمعت في ذهني فجأة فكرة شيطانية، وجدت فيها حلاً حاسماً لهذه المشكلة.

لا أدري كيف أني كنت متيقناً بصورة أقرب إلى الإيمان المطلق بأنك ستنجح بهذا الامتحان وستثبت لهؤلاء العطشى للدماء أنك فعلاً بريء وأنهم هم التعساء الهاربون من موتهم الداخلي بدفعك أنت نحو الموت.

أخرجت مسدسي من حزامي وأفرغت منه جميع رصاصاته ثم عدت إليكم. قبل أن ينطق أحد، خاطبتك أنا بصوت جاد حازم:

- اسمع يا رفيق، اقتراحك القيام بعملية انتحارية هو حل رائع لإثبات إخلاصك. موتك هو الدليل المعقول على برائتك. لكن المشكلة أن الرفاق بحاجة إلى دليل من دون انتظار.

توقفت للحظات وأنا أرمق رفاقي المستغربين من كلامي، ثم أكملت:

- آني متأكد يا رفيق إحنا كلنا بحاجة إلى موتك.. منظمتنا بحاجة إلى شهداء، ولا بأس أن تكون أنت أول الشهداء. لا يهم إن كنت خائناً أم مخلصاً، المهم أن تكون شهيداً.. خذ هذا المسدس وانتحر أمامنا الآن، خذ يا صاحبي خذ.

ووضعت أمامك المسدس على الأرض.

حينئذ، رأيتك ترمقني بنظرات يمتزج فيها الحب والحزن. بصوت جريح طلبت مني ورقة وقلم. ثم بيدك المرتعشة كتبت:

ـ ((أيها الرفاق تذكَّروني.. أموت وأنا أحبكم وأتمنى لكم الخير.. النصر لثورتنا.. تذكَّروني عند العودة المظفرة إلى الوطن.. الحرية أو الموت.. الوداع أيها الرفاق إني معكم إلى الأبد.. رفيقكم المخلص حتى الموت)).

ثم نهضت من جلستك وعانقت الرفيقين أولاً.

أتذكَّر الآن جيداً، رغم قرارك أن تموت بشجاعة، إلاّ أنك عندما واجهتني رأيت دموعاً تتلألأ في مقلتيك. عانقتني وخاطبتني بصوت حنون هامس:

- الوداع يا رفيقي (آدم).. أنت أخي رغم كل شيء.. سلامي لجميع الأصدقاء.. أرجوك لا تخبر أبداً أمي وأختي بحقيقة موتي.. قل لهن: سافر إلى أوربا وانقطعت أخباره.

عندما شاهدك الرفاق تتناول فعلاً المسدس من على الأرض، ارتسم القلق على وجوههم. واتجهت أنظارهم نحوي بحثاً عن تفسير يهدئ من قلقهم من أن توجه أنت المسدس نحونا وتطلق علينا النار، لكنك عندما وضعت فوهة المسدس على صدغك هدأ القلق وعمَّ الصمت والترقب، حتى في الخارج عمَّ الصمت.

هكذا فجأة عمَّ الصمت حارة الفاكهاني، بل بيروت كلها، وربما العالم بأجمعه تجمَّد مترقباً لحظة انفجار الرصاصة في رأسك يا صاحبي لتصبح شهيداً تسقي بدمك شجرة الحرية التي يتبول عليها الأحياء.

فجأة سمعت (طاق) خفيفة! سحبت نظري من النافذة والتفت بسرعة نحوك، وجدتك مغمض العينين والمسدس ما زال على صدغك، ومن دون انتظار ضغطت أصابعك مرة ثانية على الزناد.. طاق! وهذه المرة أيضاً لم تنطلق الرصاصة. عاودت بسرعة مرة ثالثة ولكن النتيجة نفسها. فتحت عينيك وفغرت فمك مندهشاً حائراً. ليست أنظارك وحدها التي اتجهت نحوي بل أنظار الرفاق كذلك، متسائلين مستفسرين عن سر ما يحدث.

أمام هذا الأمر وجدتُ نفسي أنطلق بضحكة هوجاء، كانت مزيجاً من الفرح بنجاحك بإثبات برائتك، وكذلك تغطية لشعوري العميق بالعار؛ لأني اضطررت أن أساهم بهذه المهزلة التافهة.

حينها رأيتك تدع المسدس يسقط من يدك ورحت تجهش بنحيب معاتب:

ـ ليش يا رفاق تعملون وياي هيك.. ليش تعذبوني.. هاي الاخوّة والعشرة يا إخوان.. ليش ليش؟

***

 

صحيح أنك لم تمت يا أخي، لكن خضوعك لقرار الموت وخوضك للتجربة جعلك تموت رمزياً بالنسبة لباقي الرفاق. بعد تلك الحادثة وشيوع تفاصيلها اجتاحت المنظمة كلها حالة من الخدر والانحلال وكأننا تخلصنا جميعنا من تلك الحاجة الملحة للانتقام والقتل. بصورة خفية أصابنا نوع من الخمود والاحباط أشبه بذلك الذي يحسَّه الرجال بعد الانتهاء من فعل اللذة.

بعد رحيلك المفاجئ إلى المجهول بأيام قليلة تفجرت فجأة الخلافات بين رفاق القيادة العليا. هكذا فجأة هبطوا إلى الحضيض وراح كل واحد منهم يكشف أوراق الآخرين: كل واحد منهم تبين أنه تابع لإحدى أجهزة المخابرات العربية. بل إن أحدهم، الذي كان أكثرهم إصراراً على اتهامك بالخيانة وتنفيذ الإعدام بك، تبين أنه مرتبط بالمخابرات العراقية وهرب إلى العراق بعد افتضاح أمره. الطريف أن هذا الرفيق بالذات كان مسؤولاً عن إعداد الجوازات المزورة التي سنعود بها إلى الوطن للقيام بحرب المدن!

 

خاص بالمثقف

 

* هذه القصة جزء من رواية ( تاريخ روحي) التي ستصدر من بيروت

سليم مطر ـ جنيف

 

في نصوص اليوم