نصوص أدبية

جبُر الأعور

ahmad alhiliغالباً ما يوصف المثقفون عندنا بأنهم يسكنون في بروج عاجية، ذلك أنهم في الأعم الأغلب حالمون بعالم أو عوالم خيالية لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع ومن أجل ذلك، فإن هناك فاصلة قائمة باستمرار أو حاجزاً ما بينهم وبين المواطن العادي، ولكن ناقدنا ع. ع استطاع أن من دون أن يخطط لذلك أن يخرج من هذه الشرنقة المفروضة، وأن يحظى بالتقدير والإعجاب من لدن عدد وافر من شخصيات المجتمع الحلي المسحوقة والمهمّشة والتي ليس لها نصيب وافر من الثقافة والتطلع، لا أستطيع هنا أن أعثر على السبب، فقط أقول إن شخصيته كانت تمتلك سحراً خاصاً لدى هؤلاء، حتى أنه استقر في وجدانهم وأضحى بمثابة أيقونة لها مقومات حضورها وجاذبيتها .

ومن جهته فإنه كان يبادلهم وداً بود وحميمية بحميمية محاولاً إخفاء بعض التحفظات، كان يجد بعض الوقت للتحدث إليهم في شؤونهم الخاصة، ومن بين هؤلاء شخص يدعى جبر ويكنى بـ الأعور، وكان لديه عربة يدفعها ويبيع عليها الكعك والكيك وربما الشلغم المطبوخ في الشتاء أو اللبن في الصيف، كان كادحاً ومسحوقاُ بكل معنى الكلمة، ولكنك قد تتعجب إذا وقفت وتحدثت إليه، فعلى الرغم من أميته إلا أنه يحظى بنصيب وافر من المعرفة التي يحصل عليها عن طريق التكلم والتحاور مع مثقفي المدينة، الذين يجدون فيه شخصية مستلبة طريفة، كانوا يتوقون لسماع بعض الجمل القوية الرصينة التي تعود لمفكرين وشعراء كبار والتي اعتاد أن يطلقها بين وقت وآخر، بمناسبة أو من دون مناسبة وهو ينادي على بضاعته .

كان يلذ له بعد رحلة مضنية بعربته المكشوفة في شوارع المدينة وسط مطاردات البلدية وموظفيها القساة، أن يوقف عربته بالقرب من باب المقهى، فيلقي نظرة على المكان الذي اعتاد الناقد أن يجلس فيه هو ومجموعته، غالباً ما يختار وقتاً مناسباً وهو وقت الظهيرة حيث ينفض أغلب أصدقاء الناقد عنه ويبقى وحيداً مع جريدته، متأهباً للخروج والذهاب على دراجته إلى بيته، في هذا الوقت بالذات يحط جبر على الناقد كما يحط طائر مجهد على شجرته بعد رحلة عناء مضنية، يبادر الناقد بالتحية، ينظر إليه ويبادله التحية مرحباً به، أهلاً أهلاً جبر، كيف حالك ؟

ينتظر جبر ريثما يدعوه الناقد للجلوس بقربه، ويعتبر ذلك من مقتضيات اللياقة والكياسة، يفهم الناقد ذلك، فيدعوه للجلوس مشيراً إلى المكان بقربه، ويشير إلى عامل المقهى أن يأتي إلى جبر بـ شاي على حسابه ويبقيان يتحدثان لبعض الوقت، يعلم جبر أنه لا يستطيع أن يختلس مزيداً من وقت الناقد الثمين فيستأذن منه وهو في غاية الحبور والراحة وينهض ثم يذهب إلى عربته وهو يحس أنه أصبح أكثر احتراماً واعتزازاً بنفسه، في أحد الأيام، وبينما هو جالسٌ بقربه، أخبره أنه معزوم على جلسة شراب في بيته، وأن عليه أن يحدد يوماً يذهبان فيه إلى هناك، استظرف ناقدنا هذه الدعوة ولقيت استجابة منه، ولكنه، بعد أن أعمل فكره قليلاً، اشترط على جبر أن يحضر معهما صديقهما الفنان التشكيلي الذي تحدثنا عنه آنفاً، فهو أيضاً صديق مشترك لهما .

اتفق الثلاثة على يوم الخميس الذي سوف يحل بعد يومين، وعندما حان الوقت رأيا جبر يأتي وهو يحمل عدة الجلسة ومستلزماتها من مأكل ومشرب ومكسرات ومضوا لشأنهم، عبروا الجسر العتيق ودلفوا سوق العمار ومنه دخلوا في أحد الأفرع الذي قادهم إلى فروع أخرى مغرقة في شعبيتها وبؤسها، ثم دفع جبر باباً انفتح تلقاء نفسه، طرأت على الناقد فكرة احتمال أن يكون قد دخل في عصر الكهوف والمغاور أو أنه وقع في كمين، ولكنه، ونظراً لكونه اعتبر مضيفه جزءاً من حكاية فلكلورية هزلية لا تنتهي فإنه تقبّل الأمر بصدر رحب .

احضر جبر كنبة مصنوعة من جريد النخل فوضعها أمامهما، ثم جاء بقطعة قماش عليها رسوم لطيور وبعض الفاكهة، ثم جاء بثلاثة أقداح ووضعها على الكنبة .

كان المضيف يحس بالحرج الشديد، ولكنه خمّن أن ضيفيه سوف يقدّران ويتفهمون وضعه المعيشي الصعب، ولكنه سرعان ما تذكر مقولة نطق بها أحد مثقفي المدينة أمامه وترسّخت في ذهنه وهي لشاعر فرنسي يصرح فيها بأن من شأن الخمرة أن تجعل من أحقر الأماكن أبهة عظيمة، وما أن نطق بها جبر حتى انفرجت ملامح ضيفيه واعتبروا ذلك فألاً حسناً وفاتحة موفقة للجلسة، أخرج قنينة العرق العصرية وهو يترنم بأغنية شعبية للمطربة نرجس شوقي وصب لهما ثم صب في كأسه، ثم سكب الماء المثلج في كأسيهما بينما، رفع كأسه ورفعا كأسيهما قائلاً ؛ بصحة صديقي الناقد الذي أتشرف أن يأتي إلى بيتي ويشاطرني جلستي البسيطة هذه، كرع جبر كأسه بسرعة من دون أن يخلطه بالماء، فضحك الناقد وتعجب لهذه السرعة فهتف جملته الأثيرة ؛ هله هله !!

بعد أن ارتشف كلٌّ منهما كأسين بينما كرع جبر أربعة كؤوس، أخذ الناقد يجول ببصره على محتويات الغرفة، ولا سيما الحائط قبالته فاستقرّت عيناه على عدد من الصور الفوتوغرافية بالأسود والأبيض مكبّرة وموضوعة داخل إطارات منمّقة، كانت جميع الصور لشخص واحد يبدو في عدد من اللقطات وهو يستعرض جسده مفتول العضلات، وواضح أن هذا الشخص كان يمارس رياضة كمال الأجسام ورفع الأثقال في آن واحد، ولكن ما أن وقعت عيناه على وجهه حتى اشمأز وأبدى امتعاضه، بينما كان عينا أو عين جبر تتابع عن كثب الانفعالات وردود الأفعال المرتسمة على وجهه، لقد تعمد أن تكون جلسة الناقد بمواجهة الصور، وجّه الناقد سؤاله المباغت لمضيفه ؛ منو هذا المزيّن زروره وگالبهه عمصه ؟ ...

لم يشأ جبر الأعور أن يقول إنه أنا، فقد كان يطمع بإطراء وامتداح من الناقد

ولكن الصفعة باغتته، فكتمها في نفسه وكأنه قد بلع موس حلاقة، بصعوبة بالغة حاول إخفاء المشاعر الجياشة التي ألمّت به في تلك اللحظة، التي رسّخت لديه إحساساً بالدونية والانسحاق بلا هوادة، حاول تلافي الأمر بإطلاقه بعض الضحكات المصطنعة، صب لنفسه كأساً أخر فشربه على عجل، ثم كأساً آخر، بينما بقيا يراقبانه بوجل، لم يجرؤا على مد أيديهما لتناول كأسيهما وأحسا أن ثمة خطأً ما فادحاً قد حصل، خاصة وأن مضيفهما أخذ يتمتم بصوت خافت ولكنهما يسمعانه ؛ گالبهه عمصه استاذ جبّار ؟ !!

فهما أن جملته فيها من نذر التهديد والوعيد ما فيها ..فأحسا أنهما وقعا في مأزق خطير، وعزما أن يخرجا من هذه المحنة بأسرع وقت ما إن تتاح لهما فرصة مواتية، في هذه الأثناء طلب جبر الإذن منهما وذهب لبعض شأنه، لاحقه التشكيلي بنظره فرآه يذهب ليس باتجاه المرافق الصحية وإنما باتجاه آخر، هالهما أنهما أخذا يسمعان أصوات آلات معدنية حادة وهي تقرقع، وكمثل هرٍّ محترف قفز الناقد من مكانه وتبعه التشكيلي وسارا ببطءٍ باتجاه باب الدار، فصدمت يد الناقد كوزاً كبيراً للماء فسقط وأحدث دوياً، ولكنهما وجدا نفسيهما خارج الدار، وهما يهرولان وخلفهما جبر الأعور وهو يمسك بإحدى يديه قامة طويلة وبيده الأخرى طبراً وهو يشتم الناقد ويكيل عليه لعناته، ركض الناقد كما لم يركض من قبل ووجد نفسه خفيفاً جداً حتى كاد أن يقفز في الهواء، ما أن التشكيلي ساوره الإحساس ذاته، ولكن همّة جبر كانت أقوى من همّتهما فكاد أن يلحق بهما، ولما كانا يركضان متجاورين هتف الناقد لصديقه ؛ أخويه ثـ.... اذهب أنت باتجاه وأنا أذهب باتجاه آخر من أجل أن نشتت تفكيره ! وفعلا ذلك، وتمكنا من تضليله، ولكنهما ظلا يدوران لأكثر من ساعة في أزقة ودرابين محلة الوردية حتى عثرا أخيراً على منفذ يؤدي إلى أحد الشوارع ... وحمدا الله على نجاتهما ....

 

أحمد الحلي

 

في نصوص اليوم