نصوص أدبية

محمد عبد الحليم غنيم: لم يصبنى أذى

MM80كنت أعلم أنه سيزدحم بالركاب بعد قليل، فقد علمتني التجارب وأنا راكب قطارات من الطراز الأول، وهو ما حدث، أخذت مكاناً محترماً، ولكنى لم أكن بجوار الشباك، لذلك كنت قلقاً قليلاً: ماذا لو جاءت امرأة تحمل طفلاً علي يدها أو في بطنها ووقفت بجواري؟ إن أخلاقي تحتم عليً في هذه الحالة أن أقوم وتحتل هي مكاني، لحسن الحظ لم تأت امرأة قط .

مع مرور الوقت ازدحمت العربة، وكانت في الواقع أكثر ازدحاماً من العربات الأخرى، بحكم موقعها الاستراتيجي، إذ كانت أول عربة درجة ثالثة بجوار عربات الدرجة الثانية الكثيرة، يفر إليها الركاب خوفاً من الغرامة الكبيرة .

وزاد الطين بلة وصول هذا القطيع من البشر، هابطا من الشبابيك ومندفعا من الأبواب قبل أن يتحرك القطار، كان القطيع مختلف الأشكال والألوان يتقدمه عسكري قصير يحمل مدفعا فوق كتفه ويتأخر عنه رجل ثيابه مرتبة، يحمل حقيبة جلدية ليست كبيرة، مثل حقائب الكتب المدرسية، أشار نحوه أحد أفراد القطيع عندما تقدم منه الكمساري قائلا :

- مع المندوب

عندئذ أخذ المندوب والكمساري في عد  أفراد القطيع ثم دفع المندوب ثمن التذاكر راضياً

ويبدو أنه حدث انسجام بينهما، وسمعته يقول للكمساري :

- سنغير في الزقازيق، ومن هناك سنركب إلي ميدان أحمد حلمي مباشرة .. هؤلاء المجندون أتعبوني .

في ذلك الوقت كان القطيع قد أخذ مكانه في الطرقة، وفوق الأماكن المخصصة لحقائب الركاب، فأقل ما كان يصاب به الراكب بعض التراب أو قطعة من الطين فوق رأسه، وكان هناك من تحملوا ثقل الأحذية والأجساد الضئيلة علي أكتافهم، ومع ذلك لم يزد التذمر عن بعض الألفاظ مثل : قلة أدب .. قلة ذوق ..، وهي ألفاظ لم تكن تتجاوز محيط المقاعد ويبدو أن أفراد القطيع كانوا معتادين علي هذه الألفاظ فلم يبد أحد منهم رد فعل، ولعل ذلك شجع أحد النسوة أن تقول لواحد منهم :

- أنت حمار .

وكان رده الضحك والاستهزاء، فأضافت في حنق :

- وقليل الأدب .

ثم سكتت، أما المندوب الذي صار وحيداً بعد وداع العسكري الحارس ذى المدفع الصغير، فقد استطاع أن يجد نصف مقعد جلس فيه محشورا، ثم أخذ يتحدث بحرارة إلي جاره عن التجنيد

والتأجيل والوسائط ثم عن الشعراوي وأحمد عدويه وحسن الأسمر .

وعلي الرغم من أن المندوب وجنوده قد أتخموا العربة وأثقلوها بروائحهم الكريهة، دخان سجائر وريح البطون وغير ذلك، فإن الركاب ما زالوا يتقاطرون من المحطات وعربات الدرجة الثانية المجاورة أيضا .

حتى الآن لم يصبني أذى مباشر، كل ما ضايقني تأفف جاري الذي كان يجلس بجوار الشباك، وكنت أحسده علي هذه الجلسة، في البدء ظننت أنني السبب، ولكن عندما راجعت الموقف، اكتشفت أنه يأخذ أكثر من نصف المقعد المخصص لاثنين،علي الرغم من أنه لا يزيد عنى كثيرا في الحجم، ويبدو أن جاري قد نفد صبره فسمعته فجأة يفأفأ ويزبد، ثم ينطق لأول مرة :

- حمار .. قلة أدب .

ثم انتفض واقفاً وهو يزيل شيئاً عن بنطلونه، وهنا سمعت الشاب الذي يجلس فوق رف الحقائب الذى يعلونا يعتذر في ضيق ونفاد صبر :

- معلش .. أطفيها يعني؟

- وبعدين .

سكت جاري، وضحك الشاب، وانتقل الضيق لي شخصياً، فقلت لنفسي : لو أني مكان جاري هذا لأنزلت هذا الشاب وضربته قلمين فإذا  بطفية سيجارة تمر أمام عيني، انتظرت أن تقع فوق بنطلوني ولكنها تلاشت في الهواء، مما وجدتني أكذب عيني، وأصمت .ثم أنشغل بهذا الصبي الذي وجدته فجأة أمامي في طرقة العربة المزدحمة، لم يكن بيني وبينه سوي ذراع واحد، كان يحمل فوق يده صرة من القماش المشجر، ربما كانت جلباب أمه، كانت الصرة كبيرة وذات ألوان غامقة خليط من الأسود والأزرق والبني وبصيص من الأبيض، ماذا يمكن أن يكون في هذه الصرة؟ إنها أشبه بصرة الشحاذين، أما الصبي فكان يرتدي بيجامة كستور متسخة، وتتنشر في وجهه القمحي الغامق  بعض البثور الصغيرة ذات الرؤوس السوداء، والتي لم تكن مستها يداه بعد . لم يدعني الصبي أفكر كثيرا فيما داخل الصرة، إذا تطلع حوله وهو يرفعها بيده، فخطفها منه أحد الجنود ووضعها بجواره فوق الشبكة، فشكره الصبي في صمت .  وبعد قليل، أخرج الشاب الذي جعل جاري مطفئة السجائر رغيفا من الصرة، وقد لفه علي هيئة ساندويتش وهو يشير في سخرية إلي صديق له علي الشبكة المقابلة قائلا :

- هل تريد أن تأكل يا ....

عندئذ تنبه الصبي الذي كان يتصفح جريدة، فتركها تنزلق من بين يده، وكادت دمعة تطفر من عينه، لكنه تماسك وقال قي أدب :

- أنت يا ..

وفي سرعة عجيبة خطف الرغيف من يد الشاب وجر الصرة من فوق الشبكة، ثم وضع الرغيف فيها، وقف للحظات، لم يكن أحد يتطلع إليه، حتى أنا خجلت، فلم أستطع أن أنظر إليه، كان الصبى  يتفرسرس وجوه الركاب فى تحد مرير، لم ينبس أحد بكلمة واحدة، لا أنا  ولا مطفئة السجائر الذي يجلس بجواري، لقد كان نائما وربما يدعى النوم، فسمعت الشاب الجالس فوقنا يقول فى وقاحة، بينما الصبي يعطينا ظهره وهو يختفي وسط الزحام:

- ستجد أناسا أسوأ هناك .....

خطر لي أن أدعو الصبي للجلوس مكاني، أو آخذ منه صرة الخبز لأضعها فوق ركبتي .

ولكن الصبي كان قد أختفي، حجبته عني جثة رجل ضخم، وقف بجوار المقعد يكاد يحمل عليً بنصف جسده النتن، فكدت أختنق، كانت العربة تزداد ازدحاما أما غطيط جاري فصار أكثر ارتفاعا، حسدته من جديد علي جلسته بجوار الشباك ولم تفارق عيني صورة الصبي ذي البيجامة الكستور وصرة القماش، ولكن الرحلة لم تنته بعد .

 

في نصوص اليوم