نصوص أدبية

اللغز!

ali alqasimiأربعون عاماً مرَّت على الحادثة التي سأرويها، ولم أستطِع نسيانها، ولم أتمكَّن من حلِّ اللُّغز الذي حيّرني طوال عمري.

بين آونةٍ وأخرى، تطرُق ذاكرتي في وحدتي، تحاصرني في الأماكن الموحشة، تقضُّ فراشي عندما آوي إليه وحيداً: أظلُّ أقلِّب الأمر على جميع وجوهه: الممكنة والمحتملة والمستحيلة؛ لعلَّني أعثر على جوابٍ معقولٍ، أو أجد تفسيراً منطقياً مقبولاً لما وقع، يضع حدّاً لتساؤلاتي المتناسلة المحيِّرة. لم يخْبُ وهج هذه الحادثة بمرور السنوات الطوال، ولم يسلبها الزمن بريقها، كما فعل مع غيرها من الحوادث الأكثر أهمِّيَّة، والأبعد مغزى، والأقوى تأثيراً في مسيرتي.

كنتُ شاباً يافعاً في أوائل العشرينيّات من عمري، أدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت؛ المعرفة هي منيتي، واكتساب العلم هو همّي ومطلبي؛ متفائلاً ، كبقية أبناء جيلي في الجامعة، يملأ أعطافنا الأملُ في أنَّنا سنستنزل من أعالي السماء عنقاء الوحدة العربية في القريب العاجل، وهي تحمل على جناحيْها التنمية والديمقراطية والرفاهية، ونحرِّر فلسطين السليبة؛ وأزهار بيروت، آنذاك في أواسط الستينيّات، في عمرها الذهبي، لم تُقطَف بعد، وهي على أغصانها الميّاسة، تعبق بالشذى، وتفوح بالعطر والحبِّ والفنّ والحرِّيّة.

ذات يوم، قرأتُ إعلاناً في لوحة إعلانات الجامعة عن منحةٍ دراسيةٍ تقدِّمها جامعة أوسلو في النرويج لواحدٍ من الطلاب العرب، للمشاركة في دورةٍ صيفيةٍ مُدَّتها ستة أسابيع، ولا يتحمّل الفائز بالمنحة سوى نفقات السفر. بعثتُ بترشيحي إلى جامعة أوسلو، غير مصدِّق أنَّ الحظَّ سينعطف إلى دربي هذه المرّة، لِعِلمي بوجود جامعاتٍ كثيرة في وطننا العربي تضمّ آلاف الطلاب الذين هم أفضل مني.

كانت مفاجأةً سارةً لي عندما حطّتْ في صندوق بريدي الصغير رسالةُ القبول من جامعة أوسلو. ومع أنَّ امتحانات آخر العام كانت على أبواب المدرَّجات، فقد أخذتُ أضع الخطط لهذه الرحلة، مستعجلاً حلول العطلة الصيفية لاكتشاف أوسلو وجامعتها. فالأماكن الجديدة تمارس سحراً عليَّ: انجذب إليها، أتلهف إلى الارتماء في ربوعها، تنشأ علاقة حبٍّ عارمٍ بيني وبينها، منذ أن كنتُ طفلاً صغيراً في السنوات الأولى من المدرسة الابتدائية، حينما أهدى إليّ أخي الكبير أطلساً ملوّناً. كانت النرويج بالذات تثير حبَّ الاستطلاع لدي، لأنّها في أقصى الشمال. كنتُ أتخيّل بَردها الذي يتجمَّد معه شعر الرأس، وجبالها المكلَّلة بالثلوج التي لا تذوب، والخضرة التي لا تذبل، والشمس التي لا تغيب، في عزِّ الصيف؛ وأتصوَّر أهلها الفايكنغ  طوال القامة، شقر الوجوه، زرق العيون، كثّ الشعر، وهم يحملون فؤوسهم في أيديهم، ويركبون سفنهم العملاقة لغزو البحار. لعلَّ هذه الصورة التي هيمنت على مخيلتي هي نتيجةً للقصة التي رواها لي أبي عن سفير عربي اسمه ابن فضلان ابتعثه الخليفة المقتدر العباسي إلى ملك الصقالبة قبل حوالي ألف عام، فاختطفه رجال الفايكنغ بالقرب من نهر الدانوب في أوربا، وظلّ أسيراً لديهم أربع سنين كاملة، حتّى استطاع أن يفلت منهم، ويعود إلى بغداد، ويقدِّم تقريره إلى الخليفة العباسي عن أسباب تأخُره.

أسرعتُ إلى السفارة النرويجية في بيروت للحصول على تأشيرة الدخول. وعندما ولجتُ مكتب القنصل، ألفيتُ شابةً طويلة القوام، ذات وجهٍ جميلٍ صبوحٍ بشوش. رحَّبتْ بي كثيراً بلغتها الدبلوماسيّة الأنيقة، فأشعرتني بالمودّة، وختمتْ جواز سفري وأهدتْ لي كُتُباً وأدلةً عن النرويج.

اغتنمتُ مقابلتها ورحابة صدرها لأسألها عن أرخص الطرق للسفر إلى النرويج. قالتْ لي إنَّ ثمن تذكرة السفر بالطائرة إلى أوسلو ذهاباً وإياباً أغلى من ثمن سيّارةٍ مستعملةٍ في حالةٍ جيدةٍ في ألمانيا. واقترحتْ عليّ أن أسافر بالطائرة إلى اسطنبول ثم أستقل قطار الشرق إلى أقرب مدينة ألمانية، ميونيخ، وهناك أشتري سيّارةً أواصل السفر بها إلى أوسلو، وأعود إلى بيروت، وأبيعها بربحٍ، أو أحتفظ بها إنْ شئتُ. وأضافتْْ قائلةً:

ـ  " إنَّ الربح الحقيقي يكمن في الخبرة والمتعة اللَّتيْن تجنيهما من التجوُّل بسيَّارةٍ في أوربا."

قلتُ في نفسي: إنَّهم يستخدمون دماغهم في التفكير والتدبير؛ وأخذتُ بنصيحتها.

هبطتُ من الطائرة في مطار إسطنبول، وتوجّهت حالاً إلى محطَّة القطار. وعندما جلستُ في إحدى مقصورات القطار العريق الأنيق الذي أدمن الترحال منذ سنة 1883، جال في خاطري جميع الأدباء الذين أنتجوا بعض أدبهم في هذا القطار: گراهام گرين الذي أبدع رواية عنوانها " قطار الشرق السريع"، والشاعر الفرنسي أپولونير الذي نظم بعض قصائده فيه. وبعد أن تحرّك القطار وأخذتِ المشاهد الطبيعية تجري مُقبِلةً عليَّ بسرعةٍ متزايدةٍ خاطفةٍ، وراح القطار يدخل في بعض الأنفاق الطويلة المظلمة المخيفة، خطرتْ ببالي رواية أگاثا كريستي البوليسية " جريمة قتل في قطار الشرق السريع"، وداخلني شيءٌ من التوجُّس، حتّى إنني، عندما أطلَّ على مقصورتي رجلٌ له وجهٌ ثعلبيٌّ وشاربان معقوفان إلى الأعلى ونظراتٌ زائغةٌ، ظننتُه، مسيو بوارو، مفتش البوليس السري، يبحث عن القاتل بيننا. وبعد وقتٍ قصيرٍ، أخذتِ المشاهد تخبو شيئاً فشيئاً وغلب النعاس جفوني. وعندما أفقتُ من غفوتي بدأت قصَّتي.

فتحتُ عينَيّ فوقع نظري على وجه فتاةٍ تجلس أمامي. وجهٌ بهرني وأسكرني في آنٍ، وجهٌ ملائكيٌّ اجتمع فيه الحسنُ كلُّه: عينان نرجسيتان، خدّان ورديان، شفتان زَنبقيتان؛ سلّةُ زهورٍ ربيعيةٍ تتوِّج غصناً أهيف، يميل نحوي، فتنبعث الفرحة عارمةً في القلب والروح والوجدان. لم تكُن هناك عندما ركبتُ القطار وقبل أن يغلبني النوم.

في الوقت الذي كنتُ أفتح فيه عينَيّ، انفرجتْ شفتاها المكتنزتان عن ابتسامةٍ حلوةٍ متناغمةٍ مع تفتُّح عينَيّ، كما لو كانت تنتظر صحوتي منذ مدّةٍ ليست بالقصيرة، كما لو كنا نعرف بعضنا منذ الأزل وقد التقينا الآن بعد فراقٍ طويل، كما لو كانت روحانا روحاً واحدة قبل أن تنفتق السماء، وتولد الكواكب، وتبزغ النجوم.

كان لقاءُ عينَيْنا مثيراً. لم يكُن مثل لقاء قطارَيْن في محطةٍ واحدةٍ وهما على سكَّتَيْن متوازيتَيْن في اتِّجاهَيْن مختلفَيْن، وإنَّما كان لقاءَ بحيرتَيْن في وادٍ واحدٍ حيث تنساب كلُّ منهما في أحضان الأُخرى، تندمج فيها، وتتماها معها، وتتوحَّد بها، فتغدو مياههما مياهاً واحدةً ذات لون واحدٍ، وطعمٍ واحدٍ، وتموُّجٍ واحدٍ. مَن قال إنَّ الماء لا طعم له ولا لون؟! كلُّ شيءٍ في الوجود له لونٌ ومذاقٌ ورائحة؛ تماماً مثل لقائنا الذي كان بلون قوس قزح، ومذاق الشَّهْد بالزُّبْد، ورائحة الخُزامى.

لم أكن أؤمن بالحبِّ من النظرة الأولى. فذلك بالنسبةِ إليَّ ضربٌ من الخرافة، أو نوعٌ من الخيال. كنتُ أرى الوجوه حولي، فأستحسن بعضها، وأرتاح إلى بعضها الآخر، وأُسعَد برؤية نوع منها؛ ولكن لم يحدث أبداً أنَّ وجهاً من الوجوه بعث في أوصالي رعشةً عنيفة، اقتلعني من الأعماق، حلَّق بي في سماوات الفرح، بَرْعَمَ الرغبةَ الشديدة فيَّ لألمسه بيدي، وأقرِّبه من وجهي، وأُشبعه لثماً وعناقاً، كما فعل بي ذلك الوجه الملائكي. كان الشعور نفسه يفيض من ملامح تلك الفتاة، ويغمر كلَّ ما حولها ومَن حولها بالنشوة والنشاط والهناء.

مال جسمها اللَّدِن الرشيق نحوي، ومال جسدي نحوها، مثلما يميل غصنان من شجرتيْن متقابلتيْن بفعل نسيمٍ سحريٍّ غير مرئي. اقترب وجهانا، وقد تجمعتِ الكلمات على الشفاه. وتساءلتُ في نفسي مَن الذي سيتكلَّم أوَّلاً. وبدون أن أدري، سمعتني أقول بصوتٍ واهنٍ متردِّد وأنا بين النوم واليقظة:

ـ أأنا في حُلم؟

ازدادت ابتسامتها إشراقاً، وانساب صوتها الدافئ إلى قلبي دون المرور على أُذنيّ، وهي تجيب:

ـ أنتَ في واقع الحياة.

قلتُ :

ـ ولكنّها حياةٌ كالحُلم، جميلةٌ كلحنِ قصيدة، حلوةٌ كموسيقى موزارت.

وأضفتُ في قرارة نفسي قائلاً : أنتِ الحياة، أنتِ الدنيا.

همستْ قائلة:

ـ اسمي جسيكا، وما اسمكَ؟

قلتُ:

ـ انتشيتُ بلقائكِ. اسمي نبيل.

قالت:

ـ إلى أين أنتَ مسافر؟

قلتُ:

ـ إلى أوسلو.

قالت:

ـ ظننتكَ مسافراً إلى سالزبورغ.

قلتُ:

ـ لماذا سالزبورغ؟

قالت:

ـ لأنَّ مهرجان سالزبورغ سيبدأ قريباً، وكثيرٌ من الناس يؤمُّون المدينة، خاصّةً أولئك الذين يحبُّون موزارت، ابن مدينة سالزبورغ.

ثمَّ صمتتْ وهلة، وغضّتْ من بصرها، وأضافتْ قائلةً بابتسامةٍ حييَّةٍ وبصوتٍ خفيض:

ـ ولأنَّني من سالزبورغ. وأتمنى أن تأتي معي.

لم أرَ سالزبورغ ولا أيَّة مدينةٍ أوربيةٍ أُخرى من قبل، بيدَ أنَّ سالزبورغ نالت شهرة واسعة ذلك العام، بفضل فيلم غنائي رائع اسمه " صوت الموسيقى" يُعدُّ ثالث أشهر الأفلام الأمريكية بعد فيلم " ذهبَ مع الريح" وفيلم " حرب الكواكب". وهو من بطولة جولي أندروز، الممثلة المسرحية السينمائية المغنِّية الكاتبة البريطانية ذات الحُسن الأخّاذ. لقد جرى تصوير ذلك الفيلم في مدينة سالزبورغ، فأظهر جمال المدينة وبحيرتها الخلابة، المحاطة بالتلال، المكسوة بالأشجار الغافية في ظلال جبال الألب.

ويدور الفيلم حول قبطانٍ عسكريٍّ نمساويٍّ من النبلاء توفّيت زوجته المحبوبة مخلّفةً له سبعة أطفال، وكان صارماً في تربيتهم، فحرّم سماع الموسيقى والغناء في القصر، لئلا يتذكّر زوجته الراحلة فيزداد حزناً. وعندما استعان بمربيةٍ شابة، لم يدرِ أنّها مولعةٌ بالموسيقى والغناء، فعلّمتِ الأطفال أحلى الأغاني والألحان. وعندما وقع في غرامها أخذ هو نفسه يشاركهم الغناء، وقرّروا تقديم أُغنية في إحدى أمسيات مهرجان سالزبورغ. وفي تلك الأثناء، ضمَّ النازيون الألمان النمسا إلى ألمانيا، واستدعوه إلى الجيش مرَّةً أُخرى، على حين أنَّه معارضٌ لهم، فقرَّر الهرب مع عائلته إلى سويسرة عبر جبال الألب ، وتمَّ له ذلك بعد أن أدَّوا أغنيتهم في المهرجان ليلاً.

نظرتُ في عينَيّ جسيكا العسليتيْن، وقلتُ لها:

ـ أنا ذاهب إلى النرويج للدراسة في جامعة أوسلو مدَّة ستة أسابيع. وإذا كنتِ ترغبين في مجيئي، فإنَّني سأعود إلى سالزبورغ بعد ذلك. هل يمكنك الانتظار؟

قالت بنبرةٍ جازمة:

ـ سأنتظركَ حتّى ست سنوات، سأنتظرك العمر كلَّه.

لم أجِد ما أقوله، فصمتُّ. وراحت عيوننا تتواصل ونحن سكوت. لم نكُن نحتاج إلى كلمات، الكلمات تفسد صفاء الهناء المنساب من العينيْن بصمت. وكنتُ في غاية الهناء والفرح، كمن وجد ضالته بعد بحثٍ وعناءٍ طويليْن. لم أقُلْ شيئاً، فقد أوصاني أبي ذات مرّة قائلاً: إذا كنتَ في غاية الرضا والسرور أو في منتهى الغضب والسخط، فلا تتكلَّم، فالكلام أحياناً يضرُّ أكثر مما ينفع.

لم أصدِّق أنَّني عثرتُ على السعادة الكاملة بهذه البساطة. أغمضتُ عينَيَّ وهلةً ثمَّ فتحتُهما، لأتأكَّد أنَّني في كامل وعيي، فألفيتُها واقفةً تحمل حقيبةً صغيرةً بيدها اليسرى. نهضتُ واقفاً بدوري، وجهي الدهشة وعيناي التساؤل. قالت:

ـ يقترب القطار من محطَّة سالزبورغ. اكتب لي عنوانك .

وناولتني دفتراً صغيراً أخرجتْه من حقيبتها. أخذتُ الدفتر، وعدتُ ثانية إلى مقعدي لأكتب العنوان بيدٍ مرتجفةٍ على نضد المقصورة. وقفتُ مرَّةً أخرى لأعطيها الدفتر، فإذا بها تلقي الحقيبة من يدها وبحركةٍ مفاجئة تطوّقني بذراعيْها، وتضع رأسها على كتفي دون أن تنطق بحرف. ثمَّ تستدير إلى الخلف وتغادر المقصورة مسرعةً.

توقّفَ القطار. فتحتُ النافذة. مددتُ عنقي عبرها. وجدتها واقفة على الرصيف. رأتني. لوّحتْ بيدها إليّ. الدموع تنهمر من عينيْها العسليتيْن، وابتسامتها لم تفارق شفتيْها. لم تُثِر دموعها استغرابي، فقد كانت الدموع تترقرق في مآقي عينَيّ، أنا الآخر، وأنا أحبسها بصعوبة، كما لو كنتُ أصارع غولاً بأجفاني، ويداي مقيَّدتان. وظلّت عيناي مصوَّبتان إليها. وما إنْ تحرّك القطار وغابت عن ناظري حتى طلعتْ متوهجةً في فؤادي.

شعرتُ بندمٍ شديدٍ يجتاح أعماقي وروحي ووجداني كعاصفةٍ هوجاء تكتسح كلَّ شيءٍ في طريقها. لِمَ لَمْ أغادر القطار وأنزل مع جيسيكا في محطة الجمال والحبّ والفرح؟ ألمْ أفوّتُ فرصةً فريدةً قد لا تتكرّر، مثل مياه النهر التي تمرّ علينا ولا تعود بتاتاً. ولمتُ نفسي لبطئي في اتّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. كان والدي كثيراً ما يقول لي: " يكمن الفرق بين الرجال في تمكُّن بعضهم من التفكير بسرعة واتخاذ الموقف المناسب، وهذا ما يسمونه بسرعة البديهة، وما الرجل إلا موقف." كان لدي الوقت الكافي لأفكِّر بعد أن دعتني جيسكا لمرافقتها إلى سالزبورغ، ولكن عقلي تجمَّد ولم اتّخذ القرار. هل تغلّبَ حبّي للمعرفة على حبّي لجيسكا؟ أليس الحبُّ أساس المعرفة؟ أم أنَّ العكس هو الصحيح؟

انتشلتني من لجّة الأفكار المتلاطمة صفّارةُ القطار وهو يغادر المحطة. نهضتُ من مكاني، أسرعتُ مهرولاً نحو باب العربة. الباب موصد. لمحتها من زجاج النافذة وهي تهرول في اتجاه باب العربة، وكأنّها هي الأخرى اتخذت قراراً في اللحظة الأخيرة، أو بعد فوات الأوان. تزايدت سرعة القطار. طفقتُ أهرول نحو العربة الجنوبية الأخيرة. وصلتُها. بابها الذي يطلُّ على السكّة كان موصداً كذلك. لمحتُها عبر زجاج نافذة الباب وهي تجري بسرعة وراء القطار. خُيِّل إليّ أنَّها هي الأخرى لمحتْني. بَيدَ أنَّ سرعة القطار قد تفاقمت، وغابت جيسيكا عن ناظري خلف المنحنى. فعدتُ إلى مقصورتي أجرُّ ساقيَّ، مثقلاً بالخيبة، مثخناً بالحسرة.

من تلك اللحظة، أخذتُ استعجل الأشياء والزمن. رحتُ أتمنّى لو أنَّ القطار سار بسرعةٍ أكبر، كي أعود إلى سالزبورغ وجيسيكا بسرعة كذلك. كنتُ أريد أن يمرّ كلُّ شيءٍ بسرعة: شراء السيارة، الرحلة إلى أوسلو، الدورة الصيفية في جامعة أوسلو، رحلة العودة إلى سالزيورغ. صارت السرعة هي الشعار المهيمن على فكري وأقوالي وأفعالي. ففي ميونيخ، مثلاً، تذمَّرت من بطءِ إجراءاتِ شراءِ السيّارة واستخراج الوثائق اللازمة، على الرغم من أنَّ ذلك لم يستغرق أكثر من 24 ساعة فقط. ونسيتُ أنَّ دورة الزمن ثابتة وقياس الزمن على الأرض ثابت، فالأسابيع الستة التي سأمضيها في جامعة أوسلو هي ستة أسابيع لا أكثرَ ولا أقلَّ، وأنَّ السرعة قضيةٌ نسبيةٌ تتعلَّق بذات الإنسان، وأحواله، وحاجاته، وأحاسيسه؛ وتتعلّق بسرعة المعيار الذي نقيس ما هو متحرِّك بالمقارنة بهِ.

في ميناء كوبنهاكن، مثلاً، وقفتُ أراقب العبّارة التي ستقلّني وسيّارتي إلى الأراضي النرويجية وهي قادمةٌ من بعيد. فبدتْ لي ثابتةً في وسط البحر لا تتحرّك. ألتفتُ إلى رجلٍ دنماركيٍّ يقف إلى جانبي، شكوتُ له بطء العبّارة. قال لي بابتسامةٍ حسبتها ساخرة:

ـ " هل شاهدتَ حوريَّة البحر في الميناء؟"

قلتُ:

ـ " لا. "

قال:

ـ " أنصحك أن تغتنم هذه الفرصة لمشاهدتها، لأنَّ ركوبنا العبّارة سيستغرق ساعة ونصف. عليهم إفراغ حمولتها وتنظيفها قبل أن نستقلَّها."، وأشار بيده في اتّجاه المكان الذي تستلقي فيه حوريِّة البحر.

توجَّهتُ إلى حوريَّة البحر. نظرتُ إليها. بدتْ لي جيسيكا مستلقيةً على صخرةٍ في البحر، وقد تحوّل ساقاها الرشيقتان إلى زعانف سمكةٍ جميلةٍ. فمنذ أنْ غادرتْ جيسيكا القطار في محطَّة سالزبورغ، التصقتْ صورتها الحلوة في بؤبؤ العين وعلى شغاف القلب: أراها حيث نظرتُ، وإذا أغمضتُ عينيَّ في الفراش، واصل قلبي رؤيتها، وتمثَّلتْ لي في أحلامي التي لا تنقطع. باختصار، صرتُ أرى الأشياء من خلال صورتها، وأسمع صوتها في كلِّ ما يصل إلى مسمعي.

كانت أوسلو عروس أوربا المدلَّلة، تغسل قدميها خلجانُ بحر الشمال بمياهها الباردة المنعشة، وتتوارى بنايات جامعتها خلف أشجار غابة كثيفة، وهي تتسربل شجيرات اللبلاب، لا تغيب الشمس عنها في الليل ولا في النهار، بل تبقى معلَّقةً في سمائها الوردية طوال الليل، كعاشقة شاحبة الطلعة تسهر الليل في انتظار الصباح، وعندها يتحوَّل شحوبها تورُّداً فاحمراراً.

ما إن أكملتِ الكاتبة في إدارة جامعة أوسلو تسجيل اسمي، وسلَّمتني بعض المطبوعات عن البرنامج الصيفيِّ ولائحة المراجع، ومفاتيح غرفتي، حتّى قالتْ لي:

ـ "هناك ثلاث رسائل تنتظرك."

وناولتني إياها.

خفق فؤادي. ألقيتُ نظرة عليها. لاحظتُ أنَّ أختام البريد تحمل تاريخاً واحداً.  يا إلهي، إنَّها كَتبتْ هذه الرسائل في يومٍ واحد. ما أشدَّ لهفتها وما أشدَّ لهفتي!

أسرعتُ إلى غرفتي. رميتُ حقيبتي الصغيرة، ورحتُ أفضُّ ظروف الرسائل الثلاثة.

بأيِّ رسالةٍ أبداً؟ أخذتُ ألتهم الحروف والكلمات والعبارات. وعندما أنهيتُ قراءة الرسالة الثالثة عدتُ إلى الأولى أُعيد تلاوتها، فالثانية فالثالثة؛ وكرَّةً أُخرى راجعاً لتلاوة الرسالة الأولى. تخيّلتُ جيسيكا وهي جالسة إلى منضدتها، ممسكة قلمها بأناملها الرقيقة، تحرِّر تلك الرسائل، البسمة على شفتيْها، والدمعة في عينيْها.

في رسالتها الأولى، أعلنتْ لي فرحتها الطاغية بلقائي، أو على حدِّ قولها كيف التقت روحها بنصفها الذي كانت تبحث عنه منذ أنْ وُجِدت على هذه الأرض. واستشهدتْ بقصيدة عاطفية متأججة من ديوان " آنيت " لشاعر ألمانيا العظيم غوته.

وفي رسالتها الثانية، حدّثتْني قليلاً عن نفسها، فهي طالبةٌ في الصباح، تدرس المسرح في جامعة سالزبورغ، وقد تمتهن التمثيل المسرحيَّ أو السينمائيَّ بعد تخرجها. وبعد الظهر تعمل عدَّة ساعاتٍ في مكتبة المدينة الكائنة  في حديقة ماربيلا.

وفي رسالتها الثالثة، وصفتْ لي بعض المعالم الخلابة في مدينة سالزبورغ وما حولها، وكيف أعدَّت لي برنامجاً حافلاً لزيارتي التي تريدها أن تدوم أطول وقتٍ مُمكن ، وأن تكون أمتع ما يُمكن. ستأخذني في جولةٍ في أحياء سالزبورغ التاريخيَّة في اليوم الأوَّل، وفي اليوم الثاني ستصطحبني لزيارة بعض أشهر متاحف المدينة، وفي اليوم الرابع سنقوم بجولة في بحيرة سالزبورغ الشهيرة في قاربٍ بخاريٍّ صغيرٍ مزوَّد بمجافيْن، وفي، وفي. في كلِّ ليلةٍ، سنشاهد إحدى فعاليات مهرجان سالزبورغ الموسيقيَّة أو الغنائيَّة أو المسرحيَّة أو الراقصة، خاصَّةً المسرحيَّة منها، لأنَّها تعشق التمثيل... وستبدأ بانتقاءِ هذه المسرحيات، والعروض الأخرى، واقتناء تذاكرها، ابتداءً من الغد، لتضمن أفضل المقاعد، فالإقبال شديد على المهرجان.

وقبل أن أفتح حقيبتي الصغيرة لوضع حاجياتي الضرورية في الحمَّام، وقبل أن ألقي نظرة على مطبوعات الجامعة وبرنامجها، وجدتني أجلس إلى المنضدة لأحرّر رسالةً إلى جيسكا، أبثُّها ضيقي وبَرَمي بأوسلو وجامعتها، وهيامي بسالزبورغ ومسارحها.

ثمَّ عدتُ إلى قراءة رسائلها قراءةً جهريّة، فيعلق بلساني وشفتَيَّ طعمٌ حلو ألذّ من الرطب العمراني المنصِّف الذي أدمنتُ على أكله منذ أن كان جدي يطعمني إياه مع اللبن الرائب في طفولتي كلَّ صباح، اعتقاداً منه بأنَّ التمر والحليب هو أنفع الأغذية لنمو الأطفال، وتقوية أجسامهم الغضَّة.

كانت لذّة رسائل جيسيكا، هي الأخرى، يوميَّة حتّى أدمنتُ عليها؛ فقد كانت تصلني منها رسالة على الأقلّ كلَّ يوم. وأدمنتُ على كتابة الإجابات عليها كذلك.

عليَّ أن أعترف اليوم بخجلٍ شديدٍ، وأسفٍ وندمٍ أشدّ، أنَّني لم أتابع دراستي الصيفيَّة في جامعة أوسلو، بما تستحقّ من اهتمامٍ وتركيزٍ ومراجعةٍ وإعدادِ مذكرات، واستعدادٍ للاختبارات الأسبوعية، وللامتحان النهائي في آخر الدورة الصيفية. كان ذهني يشرد من غرفة الدرس، محلِّقاً إلى سالزبورغ التي رسمتُ لها صورة متخيَّلة في ذهني: مدينة مبنيَّة من ذهبٍ خالص ، تجري في وديانها مياه من عسجد، وأهلها ملائكةٌ من نور، يطيرون في شوارعها وطرقاتها، بأجنحةٍ ملوَّنة شفّافة مثل أجنحة الفراشة، ويحيّي بعضهم بعضاً بلمس أطراف الأجنحة لمساً خفيفاً طفيفاً، كما يُسلِّم أعمامنا البدو بعضهم على بعض بتلامس أرنبات الأنوف عند اللقاء.

وإذا لم يهرب ذهني من قاعة الدرس طائراً إلى سالزبورغ، فإنَّني أستلُّ قلمي وورقةً من دفتر الرسائل الملوَّنِ الأوراق الموشَّى بالورد والزنبق والياسمين، لأدبّج رسالةً غراميةً إلى جيسيكا، أغتالُ بكتابتها الوقتَ الذي تطاول، حتى أصبح عملاقاً يفوق عوج بن عنق طولاً.

عليّ أن أعترف اليومَ بخجلٍ شديد، وبندمٍ وأسفٍ أشدّ، أنَّ حصيلتي من الدراسة في جامعة أوسلو لم تكُن مشرِّفة ولا يُعتَّد بها. ولهذا، فإنَّني عندما أحرِّر خلاصةَ سيرتي العلمية، أتحرَّج من ذكر جامعة أوسلو بين الجامعات التي تلقّيتُ فيها دراساتي العليا. فحتّى ترجمتي لمسرحية " يبه الساكن على التل" لأبي المسرح الإسكندنافي لودفيغ هولبرغ، لم تكُن بفضل المحاضرة القيمة التي ألقاها أستاذ الأدب الإسكندنافي، الدكتور داغ غندرسون، حول هذه المسرحية ونقده إياها، وإنَّما كان نتيجة قراءتي تلك المسرحية بعد عودتي إلى بغداد وإعجابي بها، خاصَّةً أنَّ مؤلِّفها اقتبس فكرتها من حكاية ملِكٍ ليوم وليلة التي وردت في كتاب " ألف ليلة وليلة".

عليّ أن أعترف بخجلٍ شديدٍ، وبأسفٍ وندمٍ أشدّ، أنَّ المعرفة كانت دانية القطوف في جامعة أوسلو، وكنتُ سأجنيها بمجرَّد أن أمدّ فكري، وأفتح عقلي، وأملأه بألذِّ المعلومات وأشهاها. ولكنَّني، ببساطةٍ، وبكلِّ بلاهةٍ وبلادةٍ، تقاعستُ، تخاذلتُ، تكاسلتُ. كنتُ مثل كسولٍ حدَّثتني عنه أُمّي في صغري، وهي تحثّني على الدرس والجدّ. فقد كان ذلك الكسول الذي أسمتْه (تمبل) وينتمي إلى قبيلة من الكسالى يسمَّون بالتنابلة، يُمضي النهار كلَّه ممدَّداً تحت شجرة تفاحٍ في بستان، وعندما يمضُّ به الجوع، لا يمدُّ يده إلى التفّاحات الناضجة الشهية التي سقطت من الشجرة بالقرب منه، بل ينتظر أن يمرَّ به أحدهم، ليرجوه رمزاً أن يضع إحدى تلك التفّاحات في فمه الذي لا يفتحه إلا بمقدار. يا للعار! يا للشنار!

كانت رسائل جيسيكا تصلني يوميّاً، ليس بمعدَّل رسالة في اليوم بل رسالتيْن  وأحياناً ثلاثة رسائل. ولم تكُن الرسالة الواحدة تتألَّف من صفحةٍ واحدة فقط بل من بضع صفحات. ولم أتساءل في نفسي أبداً كيف يتسنّى لها أن تكتب جميع تلك الرسائل إذا كانت تدرس صباحاً في الجامعة وتعمل مساءً في المكتبة. لا بدَّ أنَّ وظيفتها في المكتبة، لا تتطلَّب منها القيام بعملٍ معيَّن. وتبادرَ إلى ذهني أنَّها تجلس في مكتبٍ ما في المكتبة، ولا تفعل شيئاً سوى كتابة الرسائل لي.

استغرق الردّ على رسائلها معظم وقتي، بعد مغادرة قاعة الدرس. وإذا كنتُ أتحرّى الدقَّة فإنَّني لم أكُن منهمكاً بقراءة رسائلها فحسب، بل كذلك بقراءة المطبوعات التي تبعث بها رفقة رسائلها، معظمها مطبوعات سياحية تتحدَّث عن تاريخ مدينة سالزبورغ ومتاحفها التي سنزورها معاً طبعاً، وحدائقها التي سنتجوَّل فيها أو نخترقها، معاً طبعاً، ونحن في طريقنا إلى مقاهيها الجميلة، ومسارحها الرائعة التي سنشاهد فيها العروض، معاً طبعاً، وبحيراتها الخلابة التي سنقف على ضفافها لمشاهدة غروب الشمس، معاً طبعاً. باختصار، لم تكُن إقامتي في جامعة أوسلو لدراسة الأدب الإسكندنافي والنظام التربوي النرويجي، كما كان مقرَّراً، بل لقراءة رسائل جيسيكا، وكتابة الإجابات.

لا أتذكر تماماً كيف مرّت الأسابيع الستة التي استغرقتها الدورة الصيفيّة في جامعة أوسلو سنة 1965. فغبار السنين الطويلة يعفي على جميع الأقوال والأفعال، بل يغطي زجاج الذاكرة ذاتها، فلا تستطيع أن تتبيّن ما فيها بسهولة. كلُّ ما في وسعي أن أتذكَّره الآن بصورة شبه أكيدة، أنَّني كنتُ أواظب على حضور الدروس، ولكنّي لم أستوعب شيئاً يُذكَر منها، لأنَّ أداة الاستيعاب، وأعني بها الفكر، كان منشغلاً أو ممتلئاً بشيءٍ آخر، أعني صورة جيسكا الكبيرة المتحرِّكة الراقصة على مساحة الذاكرة كلِّها.

أذكر أنَّنا كنا نتناول وجباتنا في مطعم الجامعة. وكانت بعض الطالبات النرويجيات يعملن فيه نادلات خلال عطلتهنَّ الصيفيَّة. وراحت إحداهن، واسمها الأوّل متّى، توليني عنايةً خاصَّةً، فتقترب مني أحياناً لتشرح لي مكوِّنات بعض الأُكلات النرويجية، ثمَّ أخذت تدريجياً تلاطفني وتداعبني بكلماتٍ رقيقة. بيدَ أَنّي، كما تتوقع، لم أبادلها المودّة، لأنَّ قلبي، ببساطة، لم يكُن معي، فقد غادرني، بلا إرادة مني، ونزل في محطة سالزبورغ.

أتذكَّر كذلك أنَّني كنتُ أتنزَّه مع بعض الطلبة في الغابة المحيطة بالجامعة ليلاً، ونظرتُ إلى ساعتي فوجدتها تشير إلى منتصف الليل، ولكنَّ الشمس كانت معلَّقة في كبد السماء صفراءَ باهتةَ اللون دون أن تغيب. وأنني لا استطيع النوم في غرفتي ما لم أسدل الستائر السوداء السميكة لحجب ضياء الشمس.

أذكر كذلك أنَّ إدارة الجامعة رتَّبت لنا رحلاتٍ إلى بعض المناطق النرويجية أثناء عطل نهاية الأسبوع، وأنني شاركتُ في جميع تلك الرحلات، ولكنّي لا أذكر منها الآن سوى رحلتنا إلى مدينة برغن، حيث استضافنا عمدة المدينة في منزله المطل على البحر وأشبعنا في وجبة الغداء من السمك السومون والجمبري الملكي العملاق.

أذكر أيضاً أن الطالب الذي تفوَّق علينا جميعاً كان رجلاً كنديّاً متقاعداً يربو عمره على الخامسة والستين. كان ضعيف البنية، ضعيف البصر، ولكنه قوي العزيمة شديد الرغبة في التعلُّم.

واللغة النرويجية التي علّمونا شيئاً منها في مختبر اللغة، لم أعُد أتذكّر منها سوى عبارتين هما: " فوردن ستور ده تيل؟ " أي كيف حالك؟، و " تك تك بور ماتن" أي شكراً للطعام.

أمّا غير هذه النتف القليلة الباهتة من الذكريات، فأنا لا أستحضر شيئاً. لو سألتني عن المحاضرات التي أُلقيت علينا أو المعارف التي اكتسبتها، فإنَّ وجهي سيتحوَّل إلى صفحةٍ صفراءَ خاليةً من أيِّ أثرٍ، أو إلى علامة استفهام فارغة.

وأخيراً، حان موعد الانصراف من أوسلو، وهو موعد ترقَّبتُه بلهفةٍ طوال الأيام الأربعة والأربعين السابقة التي بدت لي دهراً سرمديّاً. لم ينتابني شعورٌ بالأسى، وهو شعور يجتاحني بعد مغادرة الأماكن التي استقرُّ فيها مدَّة من الزمن، إذ أُحسُّ بأنَّني أخلِّف شيئاً من ذاتي ورائي، أو أنَّ شيئاً من تلك الأماكن يعلق بي ولا يفارقني إلى الأبد. فقد خُلِق قلبي ألوفاً حنوناً.

كنتُ قد أعددتُ خرائط العودة، ورتبتُ جداول السفر، محدِّداً ساعات الانطلاق، وساعات التوقُّف للراحة وتناول الوجبات، وأوقات النوم، مع حساب الوقت الضائع المحتمل بسبب اختناقات المرور أو غير ذلك، بحيث أصل إلى حديقة ميرابلا في سالزبورغ حيث تعمل جيسيكا في مكتبتها، حوالي الساعة الخامسة والنصف من بعد ظهر اليوم الثامن عشر من شهر آب/أغسطس، ولم يتبقَ لنهاية عمل جيسيكا في المكتبة سوى نصف ساعة فتنصرف، وأنا بصحبتها طبعاً لنستمتع بليل سالزبوغ.

انطلقتُ بسيّارتي، ولم أحمل فيها شيئاً من أوسلو. كلُّ شيء مؤجَّل حتى سالزبورغ. كلا، وضعتُ على المقعد الخلفي علبة حريرية جمعتُ فيها كلّ رسائل جيسيكا الغرامية إليّ. وكنتُ في أوقات الاستراحة من القيادة أو تناول الطعام، استلُّ إحدى تلك الرسائل، أعيد قراءتها، فتبعث فيّ شيئاً من النشاط، كما لو كانت إكسيراً للفرح أو فنجاناً من البُنِّ المركِّز القادم من بلدة موخا في اليمن.

وصلتُ مدينة سالزبورغ فعلاً في الخامسة والنصف من مساء اليوم الموعود، بيدَ أنّي أضعتُ بعض الوقت للاهتداء إلى حديقة ميرابلا في وسط المدينة، وهدرتُ دقائقَ لإيقاف السيّارة بالقرب من المكتبة. توجّهُت إلى مدخلِ المكتبة وأنا أنظر إلى الساعة الجداريَّة الكبيرة المنصوبة في برج المكتبة، وكانت تشير إلى الدقيقة الخامسة بعد السادسة، وكلّي ثقة بأنّ جيسيكا ستكون واقفةً هناك في المدخل، تنتظر وصولي بلهفةٍ، وذراعاها متأهبتان لعناقي.

لم تكُن جيسيكا في مدخل المكتبة. لا بُدَّ أنّها هناك في باب مكتبها، أو في مكان ما تنتظرني على أحرّ من الجمر. لم أرَ جيسكا في بهو الاستقبال الفسيح. كانت هناك فتيات غيرها، ولكن ليس لهنَّ حسنها وبريقها. توجَّهتُ إلى موظَّفةِ الاستقبال، وسألتُها بلطفٍ عن جيسيكا، جيسيكا باومان.

قالت الموظَّفة بابتسامة:

ـ غادرت المكتبة عند انتهاء عملها قبل دقائق؟

قلتُ وقد دهمتني الدهشة العارمة:

ـ قبل دقائق؟! قبل دقائق فقط ولم تنتظِرني؟! أنا على موعد معها وقد أتيتُ من أوسلو لأجلها.

لا شكَّ في أنَّ موظَّفة الاستقبال قد لاحظت الصدمة التي أصابتني، وشعرتْ بالعطف على هذا الشابِّ غريب الوجه غريب الكلام. قالت بدافعٍ من روح المساعدة التي تتحلّى بها لمساعدة قراء المكتبة وإرشادهم إلى ما يبتغون من مطبوعات:

ـ إنّها تذهب عادةً إلى منزلها بعد العمل، وقد تجدها هناك.

في تلك اللحظة، انتبهتُ إلى أنَّني لم أكُن أتوفّر على عنوان منزلها، فقد كانت جميع مراسلاتها تحمل عنوان مكتبة ميرابلا. فقلتُ بنوعٍ من الانكسار:

ـ ولكنَّي لا أعرف عنوان منزلها.

دوَّنت موظَّفة الاستقبال العنوان على ورقة، وناولتني إياها وهي تزوِّدني ببعض الشروح لمساعدتي في الوصول إلى المنزل بِيُسر. ومع ذلك فقد أضعتُ الطريق أكثر من مرّة، لأنَّني لم أستطِع أن أركِّز فكري ولا نظري على الطريق.

لا أذكر ما إذا كنتُ قد شكرت الموظَّفة، فقد كان الذهول يسيطر عليَّ. لا مراء في أنَّ خطأً ما قد حصل، وإلا كيف تستطيع جيسيكا أن تغادر المكتبة في هذا اليوم بالذات، ولا تنتظرني لدقائقَ معدودات؟؟ شيءٌ غير معقول مطلقاً.

قرعتُ جرس باب المنزل، مرّةً، ومرَّتين. وأنا أسمع الجرس. لحظاتُ انتظارٍ عصيبةٌ بدت لي طويلة. انفتح الباب. ظهرت فتاةٌ أُخرى. ليست جيسيكا، ولا تشبهها.

قلتُ بلهفة دون أن ألقي التحية:

ـ أنا نبيل، صديق جيسيكا؟ هل جيسيكا موجودة؟

بدتِ الفتاة كأنَّها لم تسمع باسمي من قبل. قالت:

ـ لا، ذهبتْ إلى النادي. أنا أختها لينا.

ـ ذهبتْ إلى النادي؟ كيف؟ أنا على موعدٍ معها. أتيتُ أقود سيّارتي من أوسلو لأصل في الموعد. هي تعلم ذلك.

لم تقُل الفتاة شيئاً، كأنَّ الأمر لا يهمّها من قريب أو بعيد. لذلك أضفتُ قائلاً بلهجةِ انكسار ورجاء:

ـ أرجوك أن ترشديني إلى النادي.

قالت:

ـ طيّب، سأصطحبك إليه.

جلستْ إلى جانبي في السيَّارة. تحرَّكتُ  في الاتجاه الذي أشارت إليه. سألتُها:

ـ كيف ذهبتْ إلى النادي؟

ـ بالدرّاجة.

داهمتْ فكري الظنون. لعلَّ جيسيكا التقت شخصاً أحبّته حبّاً كبيراً، فنسيتْ أمري. ولكن هذا مستحيل، فآخر رسالة منها كانت قبل أربعة أيام فقط. ومع ذلك سألتُ أُختها:

ـ هل ذهبتْ جيسيكا مع صديقها؟

أجابت بلهجةٍ باردة:

ـ لا صديق لها.

وصلنا النادي ودخلنا فيه. عند المدخل، هناك بعض المقاعد. طلبتْ مني أُختُها أن أنتظر هناك. وسارت نحو المسبح الذي يقع على بُعد خمسين متراً تقريباً. بعد دقائق، لمحتُ جيسيكا تخرج من الماء وهي بلباس السباحة،  تقف تحت الدُّش، ثم تتناول منشفةً لتنشف جسمها، وتدخل غرفة الملابس.

وأخيراً أقبلتْ عليّ وحدها. تقدّمتُ نحوها مادّاً ذراعَيَّ، وهي على بُعد خطوات عديدة مني وأنا أقول بلهفة:

ـ جيسيكا، وأخيراً أسعد باللقاء، يا إلهي، كم ...

غير أن جيسيكا مدّت إليّ يدها اليمنى فقط لتصافحني، دون أن تظهر على وجهها أيَّةُ ابتسامةٍ من أيِّ نوعٍ، كما لو كنا نلتقي أوَّل مرّة. كان وجهها جامداً خالياً من أيِّ تعبيرٍ. صافحتني بطريقةٍ رسميةٍ وهي صامتة، لم تنطق كلمةً ولا حرفاً واحداً. وكانت يدها أشدّ برودةً من وجهها.

وخطر لي أنّها حزينةٌ لأمرٍ ما، وحسبتُ أننا إذا جلسنا في المقهى، وأمضينا بعض الوقت، قبل الذهاب إلى مطعمٍ من المطاعم حين يحين وقت العشاء، فإنَّها ستخبرني بما هناك. قلتُ لها بحماسة بادية:

ـ هل تودّين أن نذهب إلى إحدى المقاهي؟

هزّت رأسها موافقة، وقالتْ لأختها أن تعود إلى المنزل بدراجتها. فتحتُ لها باب السيّارة. ركبتْ إلى جانبي. عدتُ إلى وسط المدينة العتيقة. كانت المقاهي منتشرة في الهواء الطلق تحت أقواس البنايات التاريخية وأروقتها. جلسنا في أحد المقاهي. طلبتْ فنجان قهوة، فطلبتُ مثلها. لم تفُه بشيء. قلتُ لها:

ـ هل حدث ما يحزنك؟ هل هناك ما يزعجك؟

ضمَّتْ شفتيها. لم تقُل شيئاً، بل هزّت رأسها بالنفي.

لم أدرِ ما أقول. وغرقتُ في لجةٍ من الأفكار والظنون. لم أهتدِ إلى تفسير.

مرَّ وقتٌ ونحن صامتان. الهواء ثقيل، والسكون يرين، برغم الموسيقى الكلاسيكية المنبعثة من داخل المقهى.  أردتُ أن أشيع شيئاً من البهجة، فقلتُ بابتسامةٍ مضيفاً شيئاً من المرح إلى صوتي:

ـ والآن أين تودّين أن نذهب؟

قالت بلهجةٍ حازمةٍ وصوتٍ خفيضٍ:

ـ إلى المنزل.

ـ وبعد ذلك؟

قالت بلهجة قاطعة:

ـ لا أستطيع الخروج مساءً.

ونهضتْ واقفة.

اصطحبتًها بالسيّارة إلى منزلها. نزلتْ من السيّارة واتَّجهت نحو باب المنزل.

دون أن تودِّعني أو تفُه بشيء. قلتُ مستفسراً:

ـ وغداً؟

هزّت رأسها، مُلغيّةً أيَّ أملٍ بلقاء.

لم أدرِ ما أفعل. اجتاحني غضبٌ وخيبةٌ شديديْن. التفتُّ إلى المقعد الخلفيَّ في السيّارة. التقطتُ علبة رسائلها، وصرختُ بها قبل أن تدخل المنزل:

ـ انتظري. خُذي هذه.

وقذفتُ بالعلبة عليها أو إليها، وانطلقتُ بسيّارتي خارجاً من مدينة سالزبورغ كلِّها.

 

قصة قصيرة

بقلم: علي القاسمي

..................

ـ من مجموعته القصصية “ الحب في أوسلو” ( بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2014)

 

 

في نصوص اليوم