نصوص أدبية

محاورة بيني وبين تجعيدة - الصبا مرّت لياليه

طُفينا العُمر شمعة ورا شمعة ورا شمعة

وواسانا الزمن دمعة ورا دمعة ورا دمعة

دمعنا شجاب وشوَدّى

كبرنا والزمن عدَّى."

 

كلماتٌ حين ينوح بها كريم منصور تئن لها أضلُعُ من استمعَ إليها بجوارِحِهِ.. وكم حدَّثتُ نفسي ألا تخضَعَ لرغبتِها الملحّةِ في نفض الغبار عما وضَعْتُهُ عمداً فوقَ الرفوفِ العالية، إلا أنَّ تلك الرغبةَ العنيدةَ لا تكُفُّ عن اختلاسِ الفرصةِ للاستماعِ الى هذا الصوتِ الحزين.

كما انني لم استطع مقاومة الرغبة في النظر في المرآة لرؤية أثارِ الشموعِ التي اطفأتُها شمعةً بعد شمعة...

 

ونظرتُ إلى وجهي في المرآة، فرأيتُها تتمدَّدُ على صفحةِ خدِّي وكأَّها قد جاءت بوثيقةِ الاحتلالِ موقعةً من قِبَلِ آلهةِ المشيب...

 

مسَّدتُ عليها بيدي ...

صَرَخَتْ: آآخ ...

قلت: هل أوجعتُِكِ كما أوجعتِني؟

قالت: وكيف لي أن أوجِعَ وأنا طفلةٌ تحبو!

قلت: لقد تسلَّقتِ وتمدَّدتِ في خدّي؟

قالت: ذلك لأنّي لا أهوى النومَ إلا حيثُ النعومةُ والنضارة ...

قلت: ولكنَّكِ ما أن تجدي مكاناًً تستقرِّين فيه حتى دعَوتِ الأخرياتِ إليه .. فيأتين الواحدة بعد الأخرى، بعد الأخرى، حتي تصبحُ الخدودُ الناعمةُ ملعباً يضجُّ بكِ وبصاحباتِك...

قالت: لا تتَّهميني .. لا ذنبَ لي ، هُنَّ يتبعنَني ... ولو تُرِكَ الأمرُ لي لبقيتُ وحدي هنا أنعمُ بهذه المساحةِ وأتمطّى كما أشاء.

قلت: وماذا بعدُ؟

 قالت: وما أدراني أنا؟

لماذا لا توجهين سؤالَك لتلكَ الشُعَيرةِ البيضاءَ التي تسلَّلت إلى خصلاتِ شَعرِك وأنتِ غافلة ًتجادلينَني؟

قلت: أين؟ إنّي لا أراها..

قهقهَتْ التجعيدةُ الفتيةُ بصوتٍ يقطُرُ منه التشفّّي..

ثم قالت: وكم من الحقائقِ غابت عن الأعين، ولم تغبْ!

قلت: ماذا تخبريني أيّتُها التجعيدةُ اللعينة؟

قالت: أنا لي ملعبي على صفحاتِ خدِّكِ، وهي لها ملعبُها، وسوف تدعو صاحباتِها للَّعِبِ فيه، وحسبَ ما توحي به خبرتي، أنّها حينَ تحلُّ برأسٍ فإنَّ صاحباتِها لا يتوانَين عن تلبيَةِ ندائها إن هي دعتهُنَّ لرِفقَتِها؛ وحسب علمي أنَّها لا تُحِبُّ الوحدةَ والإنعزالية..

قلت: ماعلينا من الشعيرةِ البيضاء فسأعالجُها، أمّا أنتِِ، فأنتِ المُعضِلةُ ورأسُ الفِتنة، ولعلَّكِ أنتِِ التي دعوتِِ الشعيرةََ البيضاءَ لترافقَكِ!

ضَرَبَتْ بكفِّها على صدرِِها وجحظتْ بعينيها قائلة ً:

 أنا؟ أنا؟ ... بالله كُفّي عن اتَّهامي وأنا الطفلةُ البريئة!

وجَلسَتْ في ركنٍٍ قربَ زاويةِ فمي وهي عابِسةُ التقاطيع ... لا تتحرك وكأنها "شيطانٌ يحلم!" *(1)

ثم بعد حينٍٍ من الصمتِ قالت:

سمِعتك يوماً تقولين أنّ كلَّ سَنةٍ من سِنِيِّ عُمرِكِ هي حَجَرٌ كَريمٌ يُضافُ الى تاجٍ يُتوِّجُ رأسَك..

قلت: صَدَقْتِِ.. وأنا عَنَيتُ ما قلتُه؛

قالت: ألَستُ أنا من علاماتِ هذا العُمر؟ ألَستُ أنا من يَضَعُ الحَجَرَ في التاج؟

قلت: ولكنَّك تقفينَ أمامَ هذا التاج وتحجبينَ بريقَ أحجارِه...

قالت: بل أنا الختمُ الذي يُوَثِّقُ أصالةَ أحجارِه..

قلت متململةً من مَلَحَّتِها: لماذا لا تجدين مكاناًً آخرَ تلعبينَ فيه؟

قالت: إنَّنا نلعبُ في كلِّ ملعبٍ، أنظري الى ذاك الرجُلِ وعكازِّه، كنتُ العبُ هناك من قبل ولكن حينَ جاءَت صويحباتي وضجَّ الملعبُ بهنَِّ تركتُهنَّ هناك وجئتُ إليكِ...

قلت: أعليَّ أن أشكرَكِ لتشريفي بمجيئك؟

قالت: كلا.. لا أرتجي منكِ الشكر، ولكن انظري للرَجُل ولاحِظي، أنه مازال يبتسمُ؛ لماذا لا يتذمَّرُ كما تتذمَّرين أنتِ منِّي؟

قلت: لأنَّه رَجُلٌ؛ إن غَزَتْ وجهَهُ التجاعيدُ قالوا عنه "هذا رجلٌ وقور!" ؛" اما المرأة فيقولون عنها "هذه عجوزٌ شمطاء،" وإن لم يكن لها ربعَ مافي وجهِهِ من تجاعيد ...؛

قالت: وما العيبُ في قولِ عجوز؟ أليسَ فيها إشارةٌ للوقارِ والمعرِفةِ والحكمة؟ أما كلمةُ "شمطاء" فهي ليست مشينة على الإطلاق، هي لا تعني أكثرَ من أنَّ المرأةَ قد خالط البياضُ السوادَ في رأسِها .. والرَجُلُ أشمطُ إن خالطَ البياضُ السوادَ في رأسه...

قلت: إذا لماذا لا نسمعُ احداً يقول لرجلٍ "أيُّها العجوزُ الأشمَط"؟

قالت: سوف أذهبُ وأرقصُ وأهزجُ على وجهِِ ذلك الرجل: "أشمط،... أشمط،... أشمط،... أشمط! " إن كان ذلك يسعِِدُك ويعطيكِ الشعورَ بالمساواة...؛ ولكن إن طلبتِ المساواة فعليك ان تستضيفي الصَلَعُ أيضاً ....

ضحكتُ وضحكتُ وضحكتُ .. ثم قلتُ في نفسي، لأرسلْها هناك لعلها تستعذبُ البقاءَ مع صاحباتِِها وتريحُني منها ومن جَدَلِها،

ولكنِّي سكتتُّ ولم أنبس ببنتِ شَفة ..

تدحرَجَتِ التجعيدةُ وقربت من أذني وهَمَسَتْ: إني أعلمُ مايدورُ بذهنِكِ ... أنا جالسة ٌهنا ولن أتزحزح ، هذا بيتي ولن تنفعَكِ الأحاييل..

فقد حدَّثَتني أمِّي وقبلَها جَدَّتي عن أحاييلكنَّ أيّتُها النساء ....

قلت: وماذا قالت لك الجَدَّة؟

قالت: كانت جدََّتي تُرَدِّدُ على سمعي قولَها المأثور "لا تأمني لهنَُّ، إنَّ كيدهُنَّ عظيمُ!"

قلت: وماذا قالت لك أمُّك؟

قالت: أوصَتني أمِّي وصيَّتَها المُفَضَّلة " إيّاكِ أن تترُكِي بيتَكِ، فإنْ حلَلْتِ بوجهٍٍ فهوَ بيتُكِ وهو قبرُكِ."

وهنا خَطَرَ ببالي سؤالٌ فقلت: لكِ أمٌّ وجدََّة، فهل لكِ أبٌ وجدٌّ؟

ضَحِكَتْ وضَحِكَتْ وتَمَرَّغَتْ على صفحةِ وجهي قائلةً:

 كم ساذِجَةٌ أنتِ! وتدَّعِينَ حكمةَ السنين؟

قلت: لا عليكِ بسذاجَتِي أو حِكمَتي، فقط أجيبي سؤالي...؛

قالت: إننا نتكائرُ بالإنشِطار ..

قلت: كيف إذاً تعرفينَ أمَّك وجدَّتَك؟

قالت: إننا نبقى معلقاتٍ بخيطٍ رفيعٍ بأمَّهاتِنا، وأمَّهاتُنا بجَدّاتِنا .

قلتُ في نفسي: ملعوناتٌ هُنَّ! ويعرفنَ أواصِرَ القُربى أيضاَ !!

نظرتُ مرَّةً أخرى في المرآة، فإذا بها قد أقامت حفلاً ودعت اليه حشداً من صاحباتها .. 

سألتها: هل تنوين الرحيل يوماً ما؟

قالت: أبداً بعد اليوم!

وأمسَكَتْ بأيدي صُوَيحباتها وراحت تهزجُ ببهجة:

(وبوَيتنا ونلعب بيه... شِلها غَرَضْ بينا الناس ..

لابينا الغمّازة... ولا بينا اللمّازة ..

ولا بينا التدرس بالمكتب... مَيلَن غاد عن درُبْنا ..

مَيلَن غاد عن درُبْنا!)*

بيأسٍ استسلمتُ لحكمِ الزَمَن، وأعدت النَظَرًَ إلى وجهي في المرآه وحسرةٌ تشق طريقها من بين ضلوعي لتنطلقَ اعترافاً بالغلبة لتلك التجعيدة اللعينة.. فإذا بالشاعر عمر أبو ريشة يطلُّ عليَّ منها وهو يردد:

"أما الصبا فلقد مرت لياليه 

 فابكيه ياعَفَّةَ الجَلبابِ فابكيهِ

 

ملكتِِ قلبِكِ عن رَوضِ الهوى زمناً....

واليومَ روضُ الهوى غيضت سواقيهِ

 

بالأمس إن جئتُ أبدي ما أكابدُه

 لويتِ جيدَك عما جئتُ أبديهِ

 

وما رثيتِ ِ لدمعٍ كنتُ أذرفُه

 ولاعطفتِِ على جرحٍٍ أعانيهِ

 

واليوم جئتك لاصبّّّا ولاكلِفا

 بل للجمالِ الذي يذوي أعزّيهِ. " (عمر أبو ريشة)

 

وماذا بعد؟! ما على المقهور إلا الصمت... فكان صمتي.......

 

December 31, 2009

 

..................

كانت هذه خربشات على هامشِ رحيلِ سنةٍ وحلولِ سنةٍ أخرى، بعد منتصف الليل!

 

حرير وذهب (إنعام)

الولايات المتحدة

 

http://goldenpoems.wetpaint.com/

 

_____________

الهوامش:

*(1) ..وكأنها "شيطانٌ يحلم!" تشبيهاً بغراب أدغار ألن بو.

**(2) ... أهزوجة عراقية

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1274 الجمعة 01/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم