نصوص أدبية

الطّـلاسم (1)

hasan salimiشيء في نفسي يضيّق عليّ الدّنيا بما رحبت، ويجثم فوق صدري كالجبل.. شيء غامض ينبت بين ضلوعي كشجرة شوك. ويظلّ يتشعّب في خبايا روحي كاللّعنات لأسباب لا أعرفها.. والحقّ أنّ هذه ليست المرّة الأولى التي أذوق فيها من هذه الكأس المترعة بالعذاب.. بين فترة وأخرى قد تطول وقد تقصر أجدني بائسا كما أنا الآن.. بيد أنّ المران علّمني أن لا شيء يهوّن عليّ مثل الخلاء...

انتبذت مكانا قصيّا. ورحت أقلّب أمري على جميع وجوهه، فما وقفت لحالتي على سبب بيّن. شردت بي الأفكار شرقا وغربا.. ومضى زمن كنت خلاله قد انسلخت عن العالم، كأن لا بصر لي ولا سمع. حتّى أنّ صديقا من أصدقائي القدامى، اقترب منّي فلم أشعر به إلاّ وهو يضع يده على كتفي، ويقول بصوت متحشرج:

- رُبّ صدفة...

فرفعت إليه رأسي، فإذا هو على صورة لم أعهدها له.. وجه شاحب، وجسم نحيل وملامح كملامح الأشباح.. قلت وقد هالني ما رأيت منه بعد أن تبادلنا تحيّة السّلام:

- ما كدت أعرفك. ما الذي غيّر حالك هكذا؟

قال وهو يشعل سيجارة وما عهدته من المدخّنين:

- تلك قصّة طويلة، لا تخطر على بال.

ألقيت نظرة على قرص الشّمس الذي بدأ الأفق يبتلعه رويدا، رويدا.. ثمّ قلت:

- أخبرني إيّاها. فلعلّي أعينك على أعبائها.

قال وهو مطرق وفي صوته نبرة حزن:

- إنّي أعيش دوّامة هذه الأيّام. اختلطت الحقائق وتشابكت السّبل أمام عينيّ.

- إذن، أقصص ولا تعجل.

***

(2)

أمّي تحترف الشّؤم. تعسّر ولا تيسّر. وتنفّر ولا تبشّر.. قالت لمــــّا أطلعتها على رؤياي: "يا ولدي لن يكون لك نصيب في وظائف الدّولة "!

***

السّماء مظلمة، أضيق من الفلس. وأنا وغيري نصوّب سهامنا إلى حلقة بعيدة في قبّتها، بدت لي كسمّ الخياط. أطلق أحدنا سهمه.. ومازلنا نراه يشقّ الفضاء في قوّة ورشاقة، حتّى بلغ هدفه.. صوّبت سهمي أنا الآخر، فخرج ضعيفا متعثّرا. سقط قبل أن يبلغ الحلقة.. أعدت الكرّة ثانية فثالثة.. لكنّ محاولتيّ لم تكنا أنجع من الأولى!

***

رأيت فيما يرى النّائم أنّي أقدّم أوراقي إلى لجنة مجهولة.. قال رئيسها بعد مداولات طويلة: "آسف.. تنقصك ورقة"!

***

ما الحلم؟

هل هو شيء تصنعه ذواتنا ذات لحظة؟ أم هو يشقّ رحلته إلينا من وراء الكون؟!

***

في البيت امرأة قعود.. جاءتنا من المغرب الأقصى.. مرحة ضحوكة.. لكنّها تقوم في جوف اللّيل فتهمهم بكلمات غامضة وتحرق البخور...

****

إذا جاء الصّيف بتنا ليالينا في العراء. السّماء صافية ممتدّة. ونسيم بارد يسبح لنا مع ضوء القمر. المجهول الذي ما فتئ يأكل أعصابي، أفزع طيور الكرى من جفوني، ليظلّ عقلي معلّقا بين السّماء والأرض... في لحظة لا أدريها أهي من بنت الغياب أم من غيرها.. أحسست شيئا يدبّ على جسدي.. بدأني من رقبتي حتّى منبت اللّذّة.. تزورني الرّعشة على عجل.. ويولد في رأسي ألف سؤال!

***

رأيتها.. وما أدري هل رأيتها بعينيّ رأسي، أم بالعيون التي في أعماق الرّوح... بدت لي آلهة جمال بكامل جبروتها.. وقبل أن تنقضي اللّمحة طبعت في مخيّلتي ابتسامة كالسّحر!

***

... ما اليقظة؟ ما المنام ؟!

***

ليلة أخرى تخفّفت فيها من ثيابي إلاّ ما يستر العورة.. النّجوم كذرّات فضيّة رشّتها يد عبقريّة على ثوب أسود.. عيناي ترومان مكانا فيها، ولا تملاّن البحث عن سرّ ما هناك... طيف يتضوّع عطرا. ينـزل على جسدي.. تتفجّر شهوتي، وتبذر في قلبي بذرة عشق!!

***

البيت خال إلاّ منّي والمرأة الضّيفة.. دخلت غرفتي وهي تميل بجسدها الثّقيل ذات اليمين وذات الشّمال.. كعادتها هذرت بكلام كثير.. لكن قبل أن تخرج ضحكت ملء شدقيها.. تلك الضّحكة التي تطلقها المرأة عند الحديث عن الحبّ.. قالت وصوتها يخرج منغّما من بين أسنانها المتفلّجة: "محبوبتك تقرئك  السّلام"!

ومضت وأسئلة أخرى، تشتعل في رأسي كالنّار!

***

"عليك بديك أسود. اذبحه في ليلة ظلماء.. وإيّاك أن تبسمل" !!

***

والأمر سجين في صدري وصدرها. نتفت ريش الدّيك وأهلي نيام. مزّقته شرّ ممزّق، ورمته فتاتا في أركان البيت.. أخذتُ الرّيش والأمعاء ومضيتُ بهما إلى مجرى ماء بعيد.. فلمّا بلغته ورميتهما، قفلت راجعا لا ألوي على شيء، وتحذير المرأة لا يبرحني: "الحذر، الحذر. إيّاك أن تلتفت "!!

***

بتّ أسمع صوتا رقيقا يعزف في أذني:

- أحبّك!

- (...)

***

أمّي تصرخ في وجهي: " تبدّل حالك ولم تعد كالرّجال.. تقعد في البيت كأختك. فأنّى أن تقبل عليك الدّنيا، وأنت توليها ظهرك "!

***

الصّوت ينسكب في أذني مع النّسيم للمرّة الألف:

- أحبّك!

***

وشحنة من الحبّ يلتقطها جسدي:

- أما آن أن تميطي عنك اللّثام. أما آن أن تذوب بيننا المسافات. فأحيطك بعينيّ وألمسك بيدي!

يمتدّ الصّمت ولا أسمع صوتها...

وتستمرّ القطيعة...

***

أمّي مرّة أخرى: "اصفرّ وجهك ونحل جسمك.. ولم يكفك أن قعدت في البيت. بل زدت أن قاطعت طعام أمّك"!!

***

خلت بي المرأة الضّيفة وقالت في حنان: "إنّ حبيبتك تألم مثل ما تألم.. أضرّها صراخك وإثقالك عليها في الطّلب. فاحذر غضب أمّها يا ولدي"!

***

- أحبّك!

- (...)

***

- أحبّك!

- (...)

***

- أحبّك!

- (...)

***

- تحبّ أن تراني؟

- لقد ارتشفت عيناي من جمالك مرّة واحدة. فلا تحرميني لذّة النّظر إلى وجهك..

- لا أستطيع. وداعا !!

***

وعجاج من بخور يملأ الغرفة. فاض السرّ وانتقل إلى صدور الأهل.. العذاب يهوي بي، وضعف جسدي ينذر بالشّؤم.. المرأة تتمتم.. البخور يتصاعد.. حفنة من العيون تنظر إليها في ترقّب... الزّمن يتحوّل إلى منشار يحزّ أرواحنا ويعدها بالتّلف.. قالت المرأة الضّيفة ووجهها كقطعة ليل مظلم: "آسف حبيبتك تلفظ أنفاسها الأخيرة.. وأمّها تتوعدّك"!

***

كلبة حمراء في حجم الحمار، تعترض سبيلي بعينين محمرّتين كالدّم، وأنياب حادة يقطر منها الموت. الرّعب يعتصر قلبي بأصابع من حديد، وأنا أراها تتحفّز للانقضاض عليّ.. أصرخ صرخة مريرة. سكون اللّيل يتمزّق. أمّي تفزع إليّ أوّلا.. ثمّ تتقاطر العائلة على فراشي. العيون جميعها تمسح وجهي المخطوف وجسمي المرتجف..

المغربيّة تقول وهي ترفع رأسها إلى السّماء، وكانت إذّاك تشهد زرقة الفجر:

- الكلبة.. الكلبة مرّة أخرى !!

***

جسدي يحتاج إلى غفوة.. إلى رحلة قصيرة في عالم النّوم.. عسى أن يجدّد طاقته ويلتمس قدرة على البقاء.. لكنّ ذلك الكابوس يجثم على روحي.. ما أن أغمض عينيّ، حتّى أرى الكلبة الحمراء فيهوي قلبي في قرار سحيق..

الحزن يبني عرشه في بيتنا، ثمّ يجلس عليه كالآلهة ويبسط سلطانه وقوانينه المجحفة.. لا طعام ولا شراب.. ولا ضحك ولا ابتسام.. الكلام بمقدار.. وإن كان ولا بدّ، فلا يدور إلاّ في فلك المرض الذي بات ينهش جسمي كلّ لحظة..

***

الكلبة الحمراء للمرّة المليون.. الشرّ في عينيها.. والموت في أنيابها.. وحدي في الطّريق، لا رفيق لي إلاّ رعبي.. الموت بات أمنية. والقبر صار أوسع لي من السّماء!

***

المغربيّة تحرق البخور في جوف اللّيل كعادتها.. وينبوع الأمل بات رهينا لتمتماتها وهمهماتها.. كانت تنتبذ ركنا قصيّا.. لكنّ العيون كانت ترحل إليها كلّ لحظة.. تنهض فجأة كالمصعوقة.. تتقدّم إلينا وهي تتعثّر في خطاها، وجسمها الثّقيل يميل يمينا ويسارا.. ووجها ينبئ بمسرّة ما..

- اذبحوا تيسا أسود. واتركوا لي الباقي!!

***

كالعادة، وحدي في الطّريق.. المشهد ذاته يتكرّر.. الكلبة بعيون ملؤها الشرّ، وأنياب تقطر موتا.. قلبي يهوي للمرّة بعد المليون.. النّهاية هذه المرّة باتت وشيكة أكثر من ذي قبل.. الكلبة تنقضّ.. لكنّ يدا امتدّت إليها.. مسكتها من ذيلها.. رفعتها عاليا وضربت بها الأرض. كان فارسا فاره الطّول يتوشّح بالبياض، يمتطي حصانا أبيض.. عوت الكلبة كالجريحة.. زمجرت وكشّرت عن أنيابها، لكنّها نكست رأسها وولّت هاربة.. وكأنّما الأرض طويت لي.. وها أنّي أراه يطاردها حتّى بلغ بها طرف الدّنيا..

عاد الفارس إليّ.. كان حسن الطّلعة، جميل الهيئة.. وضع يده على رأسي وقال:

- يا غلام. لا خوف عليك بعد اليوم!

***

"عظّم الله أجرك في حبيبتك.. أمّا أمّها ففي قمقم مخبوء"!

***

بعد شهور أخرى..

إذا عسعس اللّيل وضرب السّكون قبّته، عادت تراودني أطياف جميلة.. أسمع أصواتها ولا أراها.. وتفجّر في جسدي ينابيع اللّذة ولا ألمسها..

الخوف ينبت في نفسي كشجرة الزّقّوم..

وذاكرتي لا تملّ قيء قصّتي القديمة!!

***

يتبع....

 

قصّة بقلم: حسن سالمي

 

في نصوص اليوم