نصوص أدبية

الطّـلاسم (2)

hasan salimiقصّة صاحبي أفقدتني إحساسي بالزّمن، وضربت على وتر حسّاس... كان اللّيل قد مضى منه بعضه، وصوت الآذان يأتينا من صومعة قريبة.. ونسيم أوّل الخريف يهبّ علينا كأنفاس الجنّة، يداعب قمم النّخيل والأشجار، ويحمل معه أريج الفلّ والياسمين إلى المدى...

حانت منّي التفاتة إلى السّماء، فهالني امتدادها اللاّنهائي وبساطها الأسود المزركش بحبّات اللّؤلؤ.. تراءت لي عجيبة غريبة كذلك العالم الذي حملني إليه صاحبي. وقد فجّر في رأسي أسئلة عديدة:

ترى ما وراء تلك الكواكب والنّجوم؟

وأي سرّ تحمله في خباياها؟ وهل ثمّة هناك ما يدقّ وراء العقول؟!

والعقل، ما هو؟ وما حدوده؟ وأين مكانه منّا؟

والإدراك، ما هو؟ وما سرّه؟

وهل الصّورة التي ندركها هي نفسها في واقعها الموضوعي؟ أم هي شيء آخر؟ إذ من المحال أن نأخذ عن الشّيء صورة عقليّة محسوسة، تحاكيه في السّعة والشّكل والخصائص الهندسيّة على جزء ضئيل من المخّ ؟!

والرّوح، ما هي؟

هل هي درجة في الوجود، مجرّدة عن المادّة يصلها الكائن الحيّ في تكامله وتطوّره؟ أم هي نتاج أعلى للمادة وأثر من أثارها؟

وهل ثمّة حدود فاصلة بين المادّة والرّوح ؟

وهل هما درجتان مختلفتان من درجات الوجود. ينتج كلّ منهما عن حركة جوهريّة واحدة؟

والحلم، والشّعور، والوهم، ما هم؟!

وما حقيقة ذلك العالم الذي يعيشه صاحبي؟

هل هو وهم من الأوهام ؟!

- شردت بعيدا. وما أسمعتني رأيك؟

- المعذرة يا صاحبي. أخشى أن تكون أسيرا لوهم من الأوهام؟!

قال في تأثّر:

- قصّتي لم تكن وهما. فأنا أوعى النّاس بذلك. وإلاّ كيف يستطيع هذا الوهم أن يحافظ على نسق واحد.. اللاّحق فيه ينتج عن السّابق طيلة أشهر، كأنّه حياة موازية لحياتي العاديّة.

- معك حقّ. ولكن كيف أصدّق أنّ عالم الجنّ، عالم مستقلّ عنّا بذاته ؟!

زوّى ما بين حاجبيه، وظهر الاحتجاج في وجهه. لكنّه قال بعد أن زفر زفرة حارّة:

- ليس كلّ غائب عن حواسنا منافيا للحقيقة. وإنكار الشّيء لا يعني بالضّرورة عدم وجوده.

- هل من دليل؟

قال في نفاد صبر:

- إنكار الشّيء مطلقا يحتاج إلى دليل. مثلما إثباته مطلقا يحتاج إلى دليل.

- سلّمت بأن لا دليل عندي على النّفي، فما دليلك على إثباته؟

أطرق يفكّر قليلا، كأنّه يبحث عن خيط يلتقط منه حقيقته الضّائعة.. ولم يلبث أن رفع إلىّ رأسه وقال:

- العقل العلميّ، لا يتعالى على الظّواهر ولا ينكرها. بل يسعى إلى تفسيرها واكتشاف مجاهيلها، مهما بدت له مشطّة عن المنطق المألوف.

- أرجو المعذرة يا صاحبي. ولكنّي أنصحك بزيارة طبيب نفسانيّ!

تلقّى كلمتي كاللّكمة.. انفتحت عيناه، وظهر الغضب فيهما:

- أتظنّ بي الجنون؟!

- بل لعلّك...

قاطعني في حنق:

- عدت إلى التّعالي على الحقائق!!

ثمّ سكت ولم ينطق.. حاولت أن أمدّ بيننا جسور التّواصل مجدّدا، لكنّه نهض وشدّني من يدي وقال في صرامة:

- تريد الدّليل. حسنا. أتبعني!

وجرّني جرّا:

- إلى أين؟

- أتبعني!

وانقدت له مستسلما، نشقّ طرق المدينة والصّمت يخيّم فوقنا.. أردت أن أقطع حبله، لكنّه ظلّ يردّد نفس الكلمة بذات الصّرامة:

- أتبعني!

بلغنا حيّا عتيقا.. أزقـّته ضيّقة. وجدرانه عالية عليها كسوة من الآجر الصّغير، امتازت به هذه المدينة.. وقف بي أمام باب خشبيّ كبير قدّ من جذوع النّخل، عليه أشكال هندسيّة مستلهمة من التّراث، تشكّلها مسامير كبيرة بيضاوية الرّؤوس.. وما لبث أن استمهلني وقتا ريثما يعود...

الزّقاق كان ممتدّا متعرّجا، تتقاطع معه أزقـّة أخرى متشابهة، تغشاها أضواء الفوانيس الشّاحبة، ويتردّد بين جنباتها صياح الصّبية ولغطهم وهم يلعبون..

مضى الوقت ثقيلا متباطئا، وصاحبي لم يظهر بعد.. خطر لي أنّه يريد الاستعانة بالمرأة المغربيّة حتّى يضرب لي الدّليل على ما يزعم.. وخيّل إليّ أنّه يختلي بالمرأة ويجعلني كتابا مفتوحا أمامها، ليُحكم خطّة الإيقاع بي.. لكنّي عدّلت عن هذا، واعتبرته مجرّد ظنّ لا دليل عليه..

أخيرا برز لي، فأدخلني بيته معتذرا مرحّبا.. ومضى بي عبر سقيفة مفرطة في الطّول، تفضي إلى بهو واسع تتوسّطه نخلة باسقة، ذات عراجين ثقيلة لم ينضج تمرها بعد.. أدخلني غرفة جانبيّة، فوجدت فيها امرأة بدينة ضخمة الجثّة، تجلس على بساط خفيف.. وأمامها كانون ترقد في أحشائه بضع جمرات.. هشّت وبشّت في وجهي، وابتسمت لي مرحّبة، ودعتني إلى الجلوس أمامها، قبل أن تمدّ إليّ صحنا من رطب التّمر.. تناولت منه حبّتين لكنّي لم أشأ أكلهما.. فلمّا رأتني لا أضعهما في فمي قالت ضاحكة:

- كلهما ولا تخف!

أربكني تعليقها.. ولم أدر أهو من عمق فراستها أم من سوء ظنّها بي؟.. قالت وهي تحدجني بنظرات متفحّصة :

- كأنّي بك تحبّ أن تطلّع على صفحة من قادم أيّامك!!

ففهمت أنّ صاحبي أوحى لها بهذا...

- أ وتطّلعين على الغيب؟

قلت ذلك وأنا أجيل بصري في الغرفة.. كانت ضيّقة عارية الأثاث إلاّ من سرير حديديّ واحد..

- معاذ الله. إنّما أطّلع على ما دون ذلك!

ومدّت يدها إلى يدي وأمرتني ببسطها.. وراحت تتأمّل كفّي مدّة من الزّمن.. وما عتّمت أن ضربت الأرض براحة يدها، وكمشت كمشة من بخور -لا أدري من أين التقطته -ورمت به على الجمر، فصعد دخان أبيض زكيّ الرّائحة، سرعان ما سبح فوق رؤوسنا وتضوّع عطره في المكان...

عادت تنظر في كفّي، وتطيل النّظر في خطوطها، وأنا ساكت جامد أراقب ما سيكون منها، وفي نفسي شيء من الحذر.. صديقي كان حاضرا معنا يؤثر الحياد وعدم الكلام. وليس بيننا من لغة إلاّ نظرات خاطفة محمّلة بالسّؤال..

قالت وصوتها عميق غائر، وعلى جبينها حبّات عرق:

- الآن، الآن فقط رُفع لي الحجاب عن ماضيك وعن مستقبل أيّامك!!

وراحت تذكّرني بما مرّ بي من أحداث غابرة.. وهي تلقي على مسامعي كلاما منغّما كالشّعر، لكنّه في أغلبه كان فضفاضا واسعا يحتمل الشّيء ونقيضه، ينسحب عليّ كما ينسحب على غيري.. لكن من ناحية أخرى، استطاعت المرأة أن تخرج من حقيبة النّسيان تفاصيل دقيقة من حياتي، لا أحسب أحدا قد اطّلع عليها.. وهنا يولد السّؤال: كيف استطاعت أن تحيط بتلك الأحداث، وهي لم تشهدها، ولم تسمع عنها من النّاس؟!

- لم تسمعني رأيك؟

قالت ذلك، وهي تلقي مجدّدا كمشة من البخور في الكانون.. قلت بعد إطراقة وقد أضمرتُ استفزازها لغاية في نفسي:

- أنت صانعة أوهام.. بكلمات قليلة تبنين في أذهاننا عالما كأنّه الحقيقة.

حسبت كلماتي زيتا سكبته في دمها، لا ألبث أن أراها تستعر غضبا.. لكنّها مالت إليّ في هدوء ونظرت في عينيّ مباشرة، وهي تقول وابتسامة الدّهاء تتّسع على شفتيها:

- لا حرج عليك يا ولدي. فالمرء عدوّ ما يجهل!

وصمتت قليلا ريثما تخرج من طيّات ثيابها سبحة كبيرة :

- أ إذا أتيتك ببرهان، أكنت مصدّقي!

قلت على الفور:

- نعم.

أغمضت عينيها قليلا، وأخذت تهمهم بكلمات غامضة.. وحبّات السّبحة تتساقط من بين أصابعها، محدثة طقطقات متواترة.. هممت بالكلام فأشارت لي بيدها أن أصمت.. صاحبي كان جامدا كأنّ على  رأسه الطّير.. لكنّي قرأت في عينيه كلاما كثيرا.. شفقة وعتابا وأشياء أخرى..

- سنأتيك بكتاب من بيتك، قبل أن يرتدّ إليك طرفك!

وأمرتني بإغماض عينيّ، ففعلت ذلك مستسلما.. وما هي إلاّ برهة حتـّى صفّقت بيديها تصفيقة واحدة، فتحت عينيّ على إثرها، فإذا كتاب لي بين يديها.. قالت في لهجة المنتصر:

- اشتريته قبل ثلاثة أيّام. قرأت بعضه. وأحسبك بلغت إلى هنا!

وأشارت إلى صفحة من صفحاته، فشهقت شهقة كادت لها روحي أن تخرج. لأظلّ بعدها مشلولا من الدّهشة، وجسمي يرتجف، وقشعريرة كالكهرباء تسري في جلدي، من فروة رأسي حتّى أخمص قدميّ..

انتابتني مشاعر غامضة، وخيّل إليّ أنّ الغرفة مسكونة بمخلوقات أخرى قدمت إلينا من المجهول.. مددت يدي إلى الكتاب.. قرأت عنوانه.. ورأيت عند أولى صفحاته توقيعي، والتّاريخ الذي اشتريته فيه...

قلت وقد جفّ الرّيق في حلقي:

- كيف استطعت ذلك؟

ضحكت حتّى بانت أسنانها المتفلّجة، لكنّها صمتت ولم تجبني.. قمت مسلوب العقل أبغي الخروج.. فما كدت أبلغ باب الغرفة حتّى سمعتها تقول:

- ألا تريد أن ترى صفحة من قادم أيّامك؟!

قلت في وهن وما حسبت صوتي قد بلغها:

- كلاّ. حسبي ما رأيت !!

لحق بي صاحبي إلى الشّارع. وودّعني دون كلام..

أخيرا أصبحت وحيدا، وقد عادت رياح الاكتئاب تهبّ علي.. وبكلّ جهدي أسعفت رئتيّ بأنفاس الخريف الرّطبة.. مضيت وبيميني كتابي، وأنا أشعر بأنّ المرأة استطاعت أن تحفر تحت قدميّ حفرة عميقة...

 

قصّة بقلم: حسن سالمي

في نصوص اليوم