نصوص أدبية

زُغــْـدَة

hasan salimiخرج معي حفيدي إلى عرس في الصّحراء.. وكان ذلك أوّل عهدها بها ولمــــّا يبلغ الثامنة.. رفضت صحبته في البداية، لما آنست فيه من شقاء غريب لا ينتهي عادة إلاّ بمكروه.. لكنّه غافلني وصعد حاوية العربة مع جملة من صعدوا، وكانوا جمعا غفيرا يحدثون الصّياح واللّغط، ورفع العقائر بالغناء والأهازيج.. فلمّا اقتربنا من المضارب، برز لي وعلى وجهه ابتسامة شيطان، فتوجّست خيفة لكنّي غالبت مخاوفي وضممته إلى صدري، مشترطة عليه أن لا يبتعد عن عيني...

وجدناهم نصبوا خمس خيام في ساحة فيحاء من أرض سهلة جرداء، وبنوا عريشين واسعين من جريد النّخيل وأخشابه..

الأرض هنا بلون واحد، يقصر الطّرف عن أرجائها.. عند آفاقها البعيدة سلسلة جبال محيطة، سقط عليها شفق آخر المساء، فإذا هي على حالة من التوهّج والعظمة..

في طرف السّاحة بئر عميقة، ضُرِب حولها سور قصير من الحجارة والطّين، فسرت في خاطري صورة حفيدي وهو مدقوق العنق في قعرها.. تفلت عن يساري ثلاثا، واستعذت بالله من الشّيطان الرّجيم..

بحذاء البئر حوض واسع، يُملأ بالدّلاء والأسطل، ترده الكلاب والإبل والأغنام وهوام الصّحراء.. غير بعيد عنها شجرة كلبتوس عملاقة، قيل أنّ عمرها تجاوز مائة عام.. يتفيّأ الأعراب ظلّها، ويحتطبون من أغصانها، ويجعلون من دوحتها أراجيح لصبيانهم، ولهم فيها مآرب أخرى..

*****

عندما جنّ اللّيل بدت لي السّماء أوسع ممـــّا كنت أراه في المدينة، وصادف أن كانت ليلة قمراء يرقص في أرجائها النّسيم..

نحن -الصّبية- لم نكفّ عن الركّض واللّعب بأرجل حافية، رغم تحذير الكبار مخافة أن نلدغ أو نلسع.. لكنّنا كنّا نمضي على شريعتنا، لا نسمع لهم قولا، ولا نبالي منهم زجرا...

العشاء طبخته النّسوة على أحطاب الصّحراء فاستغرق منهنّ وقتا طويلا، سيما وأنّ اللّحم كان قاسيا كالمطّاط، اقتطعنه من ذبائح "قارحة"..

فلمّا جهز، تحلّق الرّجال أوّلا حول جفان كبيرة، تكدّس فيها اللّحم والكسكس، وقطع البطاطا والقرع وخضار أخرى.. وراحوا يعبّون منها عبّا، أكلا بالأيدي ورفسا بالأصابع.. في الوقت الذي كنّا نحاش فيه نحن معشر الصّبية عن الطّعام كما تحاش الكلاب.. إذ مضت سُنّة في الأوّلين أن لا يأكل الصّغار حتى يفرغ الكبار.. فلمّا انفضّوا من حول الجفان، جعلت النّسوة شيئا من الأدْم على فضلتهم ثمّ تركونا دونها، فانطلقت إليها أيدينا في غبشة اللّيل وحولنا غمائم الغبار، لكن دون أن يكون لنا نصيب من اللّحم.. غير أنّ جدتي خبّأت لي من سهمها، فأعطتني إيّاه ولم تتركني حتّى أسكنته بطني..

ولا أذكر كيف بتُّ تلك اللّيلة.. لعلّي لم أنم مع جملة الصّبيان.. أو لعلّي افترشت معهم الأرض في العراء، ولم نصب من الكرى إلاّ نزرا قليلا.. بعد أن ركضنا طويلا، وحملنا الفضول بعيدا عن المضارب، حيث الوحشة والرّهبة وخشوع الأشياء..

*****

الشّمس تطلّ على الكون في استحياء.. والسّماء عليها ثوب رماديّ ينذر بالقيظ.. وعشرة صبية يتّجهون غربا وأمامهم قطيع أغنام، تثير بأظلافها الغبار وتمزّق سكون الصّباح بغثائها...

وجد نفسه في ركبهم دون أن يعود إلى جدّته أو يستأنس برأيها.. كانت نفسه منفلتة من كل قيد، حاملة بين أقطارها طاقة من الحركة والصّخب لا تستوعبهما إلاّ الصّحراء..

ومضت قرائحهم الصّغيرة تستنبط ألعابا بسيطة يبتكرونها من الرّمل والحصى والحجارة والقتاد والجرابيع والجراد والخنفساء.. كلّ شيء كان مفجّرا للعبة ما.. وضحكة ما..

أوغل بهم المسير في أعماق الأرض وهم بين لهو وحبور، غير آبهين بالشّمس التي أخذت ترتفع منذرة الكون بالجحيم..

وكما تولد الأحلام، ولد ذلك الطاّئر فجأة.. ترابيّ اللّون، حجمه في مُدّ رجل واسع الرّاحتين، طويل السّاقين، شبيه باللّقلق.. إذا مشى تكاسل في مشيته فظنّوه على علّة تمكنّهم منه، لكن ما إن اقتربوا منه مسافة ذراع أو ذراعين، حتّى دبّت فيه العافية فجأة، وقفز إلى الأمام مترين أو ثلاثة.. صرخ أحد الصّبية وكان من سكّان الصّحراء:

- الحذر الحذر من هذا الطّائر التواّه..لا يزال يجــرّكم إلى أعماق الخلاء حتّى يلقي بكم في المتاهة والضّياع.

فنفض الصّبية أيديهم منه، إلاّ ذلك الحفيد وصبيّ آخر لا يقل عنه جنونا.. مضيا مبتعدين، واليأس لم يتمكن منهما حتّى صار القطيع وأترابهما كتلة من السّواد.. قال صاحبه:

- ولئن تمكّنت من هذا الطّائر فهو لي !

- بل هو لي..أنا رأيته أولا !

- أصمت يا ابن الفاعلة، وإلاّ سكبت دمك هنا !

- لن تقدر عليّ.. وخذ هذه على الحساب.

وبسرعة جنّي، غمر من التراب غُمرا أذراه في وجهه، فصرخ الصّبي:

- عيناي.. عيناي.. أيّها اللّعين..

صفق الطّائر بجناحيه، وطار بعيدا في السّماء حتّى ما عاد يُرى.. فلمّا سكت الألم عن خصمه وعاد ضوء البصر إلى عينيه، أقبل عليه كوحش جريح، وكان أكبر منه سِنّا وأشدّ منه قوّة.. فطرحه أرضا وضربه ضربا مبرِّحا عجز عن ردّه..

- لن أمضي معك.. سأعود لتويّ إلى المضارب وسأشكوك إلى جدتي.

- اذهب.. لا أعادك الله !

*****

أطلّ عليّ من بين ثنايا السّراب.. وحينها لازلت في عرض الصّحراء، أحثّ بغلتي على المسير قبل أن يشتدّ القيظ ويتنفّس الجحيم الذي في السّماء..حسبته حيوانا في البداية، يبحث عن نقطة ظلّ.. لكنّ صراخه الذي تناهى إليّ ضعيفا بعد أن قطع المدى، جعلني أشدّ اللّجام وأجبر دابتي على الوقوف، مستطلعا خبره.. فلمّا تقلّصت المسافة بيننا، تبّينت وجهه فإذا هو صبيّ دون العاشرة.. أبيض مشرب بحمرة، رقيق الملامح، حسن الوجه، سبط الشّعر يبلغ شحمة أذنيه..

لاحظت تعبًا شديدا يرهق وجهه الذّابل، فسألته عن أصله وفصله وسبب خروجه وحيدا في مثل ذلك الحرّ، فأخبرني أنّه جاء من المدينة، يشهد عرسا مع جدّته، وما لبث أن تاه وسط هذه الصّحراء الغادرة..

- بلغت مأمنك يا ولدي.. أتبعني..

ولكزت بغلتي، ومضيت وهو يهرول ورائي، وكنت قد عرضت عليه الرّكوب فأبى.. وما هو إلاّ ميل أو أقلّ حتّى التفتُّ ورائي فلم أجد له أثرا.. فقلت في نفسي لعلّه كان من صبيان الجن، عابثني قليلا ثمّ مضى...

*****

أقبل الرّعاة وليس فيهم حفيدي، فهوى قلبي وركبتني فاجعة أفقدتني الوعي.. لم أفق إلاّ على رشاش الماء يصيب وجهي وأطرافي.. كان حولي جمع غفير من الرّجال والنّساء والصّبيان، وقد ارتفع لغطهم ونطقت سحناتهم بالقلق والأسى..

- أين ولدي؟

- قرّي عينا، فإنّ الرجال رادّوه إليك.

- ماذا أقول لأبيه.. وا كرباه !

- تفاءلي خيرا يا زغدة، وتماسكي..

خرس صوت الدفّ والمزمار، وخيّم على المضارب.. ودخل الحزن كلّ قلب، وسكن كلّ خيمة، وانقلب العرس إلى مأتم.. انفض ّالجمع وراح النّسوة والصّبية يبحثون في الأرجاء القريبة.. أمّا الرجال فقد ركبوا الخيل والبغال، وانطلقوا في كلّ صوب يجوبون الأرض البعيدة..

كدت أفقد رشدي، أو لعلّي فقدته فعلا في تلك السّاعة، وقد بلغ بي الكرب حدّا تعجز عنه الكلمات..

خرجت هائمة على وجهي، ولم أسمع نصح النّاصحين.. وهناك، حيث ينبت الجحيم كانت وجهتي.. مضيت وحيدة.. والشّمس حينها تجاوزت مدرج الزّوال..

*****

مضت ساعات عن متاهتي ولا وجه إلاّ وجه الشّمس، ولا أنيس لي إلاّ ظلّي.. الأشياء ممتدّة متشابهة، تبلغ الخطّ الذي تتّحد فيه الأرض والسّماء.. ثمّ تغيم هناك وراء سراب مخاتل.. حتّى تلك اللّحظة لم أكن أحيط بالخطر الذي حاق بي، ولا كان الخوف استقرّ بعد في فؤادي.. لازلت أحسب متاهتي لعبة من تلك التي كنت أخوضها، ولا ألبث أن أجد طريقي إلى المضارب..

واصلت الدّوران في متاهتي، رغم العطش الذي بلغ منّي، والإعياء الذي برك على بدني، ورغم الشّوك الدّقيق الذي تحوّل إلى جمر في قدمي.. إذ كنت قد نزعت حذائي وجعلته تحت إبطي بغية أن أخفّ في المسير..

ولقد ألبست عليّ الجبال المحيطة بي في المدى.. فظننت أنهّا تحاصرني حصارا لا نفاذ لي منه إلى المضارب.. وكنت أسأل نفسي كيف أبلغها وهي أبعد من السّماء، وكيف لي أن اجتاز إلى ما وراءها..

من بعيد، لاح لي سواد ضئيل، فانطلقت أليه يحدوني الأمل.. فلمّا اقتربت منه وما حسبتني أبلغه، خالطني البِشر وقلت في نفسي عسى أن تكون هذه الشّجرة هي التي تحاذي البئر في المضارب.. ولكن ما إن أشرفت عيها حتّى وجدتني على جرف هار، يحول بيني وبينها واد عميق الغور.. حينها أدركت أن أملي كان كاذبا، إنّما أولده الوهم.. زُلزل قلبي زلزالا شديدا، وكاد يسقط بين ضلوعي.. انفجرت باكيا لأوّل مرّة، وقد بات عندي أنّي هالك لا محالة.. ثمّ تذكّرت الرّجل الذي لقيته وهو يشقّ البيداء على ظهر بغلته، فساورني النّدم على عدم اتّباعه.. بيد أنّي في لحظة أخرى كنت استحسن الانفصال عنه لما وجدت فيه من غلظة، إذ لم يعرض عليّ شرب الماء، ولا أشفق عليَّ ولا حملني وراءه على دابته. فضلا عن توجّسي من الغرباء، فلقد أوصاني أهلي أن لا أقربهم وأن لا أمشي معهم.. وإن أغروني بشيء أتركه لهم وأهرب.. !

*****

سمعت نباحا مزّق سكون الهاجرة، تدلّ شدّته على هياج الكلاب.. فأطللت من غرفتنا الوحيدة في هذه الصّحراء العارية، فإذا هي تضرب حصارها حول صبيّ يحاول إحاشتها بالحجارة وبإثارة الغبار في وجوهها، لكنّها كانت تصرّ على النيّل منه.. فخرجت حاسرة الرّأس، حافية القدمين، أشقّ الرّمضاء وحرّها يكاد لها الدّماغ أن يغلي.. أصرخ وأولول وورائي أخي يرجم الكلاب بالحجارة، فما كادت تنفضّ من حوله.. وجدناه مخطوف الوجه وقد بلغ به الفرق درجة الانهيار..لم نكد نفقه له قولا من شدّة بكائه، فحمله أخي بين ذراعيه وأدخله الغرفة... ولبث زمنا غير يسير يعقل الصّمت لسانه، وعيناه تدوران في محجريهما، وأثر الدّهشة والصّدمة لم يبرحهما..

- كأنّك لست من هذه الأرض؟

فعاودته نوبة البكاء ولم ينطق حرفا..

- لقد بلغت مأمنك يا أُخَيْ..نحن لك أهل حتى تلقى أهلك على خير..

فلمّا مرّ من الزّمن زهاء السّاعة انحلّت عقدة لسانه وانفجرت من تحته ينابيع الكلام.. فعرفنا أنّه تاه في البيداء منذ الصّباح الباكر، جاء إلى عرس أحد الأصدقاء.. كان أبوه صديقا لأبينا، ربطت بينهما وشائج الصّحراء..

أسقيناه ماءً ولبنا، وقدّمنا له رفيسة من رقيق الخبز والسكّر والزّبدة، فلم يصب منها إلاّ قليلا.. فلمّا لمسنا منه الرّاحة، وظهرت العافية على وجهه أمرت أخي أن يحمله على ظهر أتاننا، ويعجّل به إلى أهله.. وكان الوقت حينها بلغ العصر...

*****

وحدي ضربت في ذلك الخلاء.. ومشيت فيه بضع ساعات، مشقوقة الحلق عطشا وصراخا.. ومتهدّمة البدن حرّا وتعبا.. وبي ما بي من اليأس والعذاب، والهواجس التي سكنت رأسي أكثر ممّا سكنته الشّمس الملتهبة فوقي..

تلك السّاعات، لا أنساها ما بقيت، سيظلّ ندبها غائرا في أعماق روحي، وإن سقاني الموت شربته الأخيرة..

أكثر ما كان يعذّبني ويشدّد عليَّ الخناق، وقع الخبر على ولدي.. بأيّ وجه سأقابله، وكيف له أن يتحمّل الصّدمة وولده منه كروحه.. انتظره طويلا.. وفي سبيل أن جاءه تحمّل العذاب والسّهاد سنين كأنّها الدّهر..

وإنّ الذي يدكّني من الدّاخل دكّا، طبيعة الموت في الصّحراء، إذ لا تكون هيّنة أغلب الأحوال.. وإنّي كلّما تخيّلت حفيدي ممزّق الأوصال بأنياب الذّئاب، مادت الأرض تحت قدمي، وجثم الحزن على صدري كأطنان الحجارة.. وإنّ الذي يزيدني كربا على كربي، انفجار هواجسي التي أوغلت بي في كلّ ناحية، ورسمت في مخيّلتي الدّم والفجيعة فكأنّي أراهما مشاهدة وعيانا:

ذئب وحيد جائع يرى حفيدي أوّل الأمر، ثم لا يلبث أن يشقّ الصحراء بعوائه يستصرخ أصحابه.. ثمّ ترتسم في ذهني صورة الذّئاب وهي تتحلّق حوله.. ترقب إشارة الموت في عينيه.. تميد بي الأرض مرّة أخرى، وتنفجر رئتاي من البكاء، كأنّ الصّبي قد هلك فعلا على تلك الصّورة..

من بعيد، والشّمس بدأت تنزل على عرشها، رأيت غبارا علا ونزل، ثمّ بدأ السّراب يميط اللّثام عن القادم.. رجل مزمّل على فرس أبلق.. وقبل أن تتّضح ملامحه تناهى إليّ صوته هيّنا خافتا من بعد المسافة:

- أبشري يا زغدة...

ولم أسمع بقيّة الجملة، إذ غشيتني إغماءة من شدّة فرحي...

عندما بلغت المضارب، دلّوني على الخيمة التي تأوي قلبي الضّائع.. دخلتها مسلوبة العقل مرتجفة الأوصال، وقلبي يكاد أن يقفز إلى الخارج..

ألفيت نسوة يتحلّقن حوله.. فلمّا رأينني هجعت أصواتهنّ، وأفسحن لي الطّريق.. وما إن اقتربت منه حتّى غشي الخيمة صمت مهيب..كانت لحظات عميقة مؤثّرة.. الدّمع يترقرق في عينيه، مثلما يترقرق في عيني.. ولكن ما بنفسي كان أعظم..

- جدّتي !!

- أيّها الشقيّ...

وهويت على خدّه بصفعة مدويّة، وأنا انفجر باكية قبل أن أضمّه إلى صدري وسط ذهول الجميع...

 

قصّة قصيرة بقلم: حسن سالمي

......................

* المجموعة القصصيّة زغدة- وقصص أخرى

 

في نصوص اليوم