نصوص أدبية

رَكـبُ الخـردَل !(1)

اصـحَ، تقـولُ لِنَفسِكَ كأَنَّكَ غَيرَكَ، أو كَأَنـَّكَ خَرجتَ تَـوّاً عن أَنَـاك َ،

قُـمْ إزرَعْ النَشيدَ في الريحِ لَعَلَّه يَصيرُ إسطورةً، أو خُرافَـةً تَحيا فـي مُتـونِ الحَكايَـا ..!

أو قَـدْ يَصيـرُ حِـداءاً يُـرَوِّضُ بإيقاعِـه "الفوضـى "، ويُحَـوِّلُ الغمـوضَ معنىً مُيَسَّراً ...،

فهـذا طوفـانٌ لا تَبكي فيـه السماءُ دَمْعَـا .. !

مُعَطَّـرٌ بالترقُّبِ، بَصيـرٌ أنتَ،

كُنتَ وَطَّنْتَ نَفسَكَ علـى مجيءِ طوفـانٍ، يُخَلِّصُكُم مـنْ عَجَـاجِ اليقيـنِ،

صَنَعتَ سَفينةَ فَـأْلٍ للعُبـورِ .

نَجَـرتَهـا من كـلامٍ ...

أَمَّلْتَ نَفسَكَ أَنْ ترفَـعَ رايَـةَ البَنَفْسَـجِ فـوقَ صَواريهـا .. تَتَواطَـأُ مع مُتعَـةِ " الإثـمِ " !

ماذا ستَفعلُ الآنَ بسفينةٍ من حُـروفٍ، والطوفـانُ بـلا مـاءٍ، يُسَيِّرُ الياءَ بَجَعَـاً، يَرفُسُ القَطْـرَ بجنـاحِ الراءِ، فَتَصيـرُ الحاءُ خاءً، والضادُ ظاءً .. ؟! ............................

أطْلِـقْ، فَـدَاكَ اليَقينُ !

أطْلِـقْ غُرابَـكَ في " العَمَـاءِ الأوَّلـيِّ "، ضَـرَّهُ الجـوعُ، يَلـوكُ الحصى .. !

فلا أَنتَ بنوحٍ ... ! ومـا خَطَرَ طُوفانٌ، كهذا، حتى على بالِ رَبِّ نـوح .. !!

هِـيَ " قيـامَةٌ " جَلِيَّـةُ الإلتباسِ .. ماكِـرةُ البَراءةِ والتَعليـلِ .. !

مُتَهَجِّساً، تَجوسُ قاعَ السَكينَةِ، بعـدَ أنْ أَهـدَرتَ الكثيرَ .. الكثير

كَفٌ معروقةٌ، تَخثّرَتْ عليهـا السنون .. ولا مِسبَحَةً تَطُـقُّ بحبّاتِهـا صَفيـحَ الـزمنِ، علـى إيقـاعِ قلبِكَ

اللائب ...

منْ كُهوفِ الشَكِّ أتاكَ (الزمنُ)، يَطرُقُ بابَ " الفَرَجِ "!

بِنَصلِ الذكـرى، يُجَرِّحُ سُوْرَ النسيانِ .. ويَدري أَنَّ ذاكرَتَكَ، لَعنَتُكَ، وأُمُّ خَرابِـِكَ !

مِثلَ بوذا، تَجلسُ مُتَرَبِّعـاً، تُحَدِّقُ في جُمّـارِ المـدى ... عَلَّكَ تَظفَرُ بِلقاءٍ مُترَعٍ بالجنونِ مع الأبجدية ..

مُتوَجِّسَاً، تَدلِفُ إلـى داخِلِكَ، كأنّـكَ تُحـاوِرُ الصَمتَ مُتَلَعْثِمَـاً،

غَيرَ مُكْتَرِثٍ بِغُبـارِ ظِـلٍّ دَهَسَهُ بغلٌ مُسرِعٌ،

فَيروحُ يَتَزحلَقُ على جليدِ كَذبٍ مَبثوثٍ ... يَتَظاهَرُ باللا أدريَّةِ، كـي لا يُصابَ بكآبَةٍ الخَيبَـةِ،

وسطَ ظُلمَـةٍ تَعَضُّ جناحَ المُهجَـةِ ..

.............................

" يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤياكَ علـى أَحَـدٍ .." فَتَصيـرَ " جَباناً !" في زَمَنٍ يَعتَـدُّ

بشجاعَـةٍ الجَـهلِ .. يَستعذِبُ رؤيـةَ خبيرٍ فيزياويٍ، أو مُثَقَّفٍ، يَحـارُ في تَضبيطِ

حُمولةِ بَغـلٍ، رُبَّمـا لَـمْ يشهده قَبْلاً !

" هكـذا، هُم المثقفـونَ ..! لا يُحسِنونَ، غيـرَ الثَرثَـرةِ ... والتَسَيُّبِ !! " مقـولَـةٌ يَتَمَطَّـقُ بهـا

" الأُميّـونَ "، دفاعاً عـن مواقعهـم ..

................................

لا تُفسِدْ أحـلامَ صَحبٍ، جاءوا مثلَكَ، على فَرَاشِ حُلُمٍ، يَسترجعونَ زَهـوَاً، افتقدوه في شَتاتٍ، مُوحِشٍ .. علـى أَملِ عَـوْدٍ يُرَمِّـمُ ما خَلَّفَه الغيابُ ..

سيموتونَ، مثلَكَ مُكَفَّنينَ بالحنين لتِلكَ المواطِـنِ .. قَدْ يعيشُ أَطفالُهـم ويموتونَ كذلكَ علـى مـا سَيرثونـَه من حُلُـمٍ ...

تُـرى مَـنْ يَجرأُ علـى القـولِ أَنَّ مَـنْ يريـدُ النهـوضَ، عليـهِ أَنْ يُقِـرَّ، أَوّلاً، بأَنَّـه مُلقىً علـى الأرضِ ..؟!!

قَـولٌ يستدعي " نبياً " أَو أَحمَقاً، فـي زَمَنٍ لَمْ تَشَأْ فيـه " قُريشٌ " أَنْ تَتْـرُكَ آلهـةً، صَنَعَتها مِـنْ يوتوبيا"هـا".. !!

ــ مارتِـنْ لوثَـرْ دَقَّ " إطروحاته " على بابِ الكنيسة، تُـرى أَينَ نُعلِّقُ أمانينـا، ونَحـنُ حَضَـرٌ " طُـوارِقْ " ؟!

ألأنّنَـا تَجَرّأنا على الحُلُمِ بِبُقعَـةِ ضوءٍ، رَدَّ العدوُّ علينا بِمَنجَنيـقٍ يَسعُلُ " خردَلاً " وتِنّيـنٍ

يتَجَشَّأُ لَهَبَـاً ؟!

قَـدْ يأتي زَمَنٌ " ينتَحِرُ " فيه أَحَـدُهم، فَيحمِلُ كِسرَةً مِنْ مِـرآةٍ، يَضَعُهـا تحتَ أُنوفِنـا، عَلَّنـا نتَأَهَّـلُ لرؤيَـةِ الصورةِ بحجمهـا "الطبيعي" !!

هنـاكَ، حيثُ دُروبُ الثلجِ مُطَـرَّزةً بِخُطانـا العجـولة، أَجفَلَتْ وعـولَ الجبَـلِ ... تِلكَ الدروب المُدَثِّـرَةِ بالظنـونِ، المَنقـوشةِ بآثـارِنا المُتَخَثرَةِ، وثَرثَـراتٍ هامِسَةٍ ..

هنـاكَ شَمَمْنـا الفِخـاخَ، رأينـا البُروقَ فـي عيـونِ الوَحشِ ..،

فَعُـدنـا " مُنضبِطيـنَ "، مثلَ صُبّـارٍ يكظِمُ ظَمَأه بالشوكِ، نَتَكيءُ علـى أَكتـافِ

" عـاداتٍ " قديمـةٍ، لَـمْ تَبْـلَ، رُغـمَ إستخدامها المُفـرِطِ، نستأذِنُ الذُهـولَ ..

كَـيْ نَشُدَّ سَهَمَ الفَضيحَـةِ إلـى قَـوسِ مَشهَدٍ رَوَّضَ الجَسـارَةَ فينـا ..

لكنَّنـا سنمضي، لأنّـه لَـمْ يَعُـدْ خلفنـا وراءٌ ! .. وإِنْ قِيـلَ لنـا " أَنَّ الداخِـلَ ظَهيرُنـا "!!

سنَتّخِذٌ من الحـدودِ، لُعبَـةً نَقفِـزُ فوقهـا مثلما " التُوْكِي " في لُعَبِ الصِغـار ..!!

...............................

لكـن إيّـاكَ .. إيّـاكَ، إِنْ وافـاكَ السُهادُ، أَنْ تَعُـدَّ النجـومَ ..! قـدْ تُخطِيءِ العَـدَّ فَتَنثُـرُ النجـومُ الثآليلَ فـي يديـكَ !(2) لأنَّ الناسَ تَصعـدُ، هذه الأيـام، إلـى السماء جمعـاً لا فَـرادى، بعـد أَن " تَنَسَّمَتْ " غـازَ الخردلْ ! ستصيرُ نجـومـاً، تُزيدُ ضوءَ السماء!

ـ بعَصاً من سِحرِ الحرفِ سَنرفو شَقّاً، نَسِيَ موسـى أَنْ يُرَتِّقَه، بعدَ عُبـورِ البَحـرَ .. عَسى الدربُ سالكـةً تَغـدو، فَيَمُـرَّ "رَكبُ الخردَلِ " بهُبـوبِ الزَعفَـرانِ ..!

............................

التَوجُّسُ مُنشَغِلٌ بتَحضيرِ بطاقاتِ دعـوةٍ لمآتِمَ، ستُقامُ على مَنْ نَخَرَ " الخردَلُ " أجسادَهمْ، ونَسِيَ " التأريخُ " أَنْ يَفردَ لهم صَفحـةً .. لأنهـم أُناسٌ عاديّـونَ، وفوقَ ذلكَ لَمْ ينتصروا ... حتى على " أَقدارهـم ".. !

إنتصروا على مخاوفهِـم ورغباتهم فقط، كـي يُنقذوا المصيرَ من مصيـرِه، لأنهـم قرأوا كـفَّ الأقـدارِ، فقالَ لهمْ "الجنرالُ"!، مثلَ تمثـالٍ مُتَجَهِّمٍ صالَبَ ذراعيـه عندَ الصدرِ كَـي

يمنَـعَ إنكِسـارَ معنويـاتٍ، هِـيَ صلبَةٍ أَصلاً .. " كلاّ هذه قنابِلُ دُخانٍ ولا شيءَ آخر .. إيّـاكم والمغـالاة ! لأنَّهـا قد تُثيـرُ هَلَعَـاً لا يَليـقُ بمناضليـن ..! "

ـ تُـرى لِمـاذا تُصِـرُّ " الآلهةُ " علـى أَلاّ تُخطِيءُ بِحَـقِّ غَيرِنِـا .. ؟!

أَلأَنَّنَـا غُـرَرٌ مُنضبطونَ ..؟!

.......................................

الصبحُ يَقرضُ بقايا الفَجرِ، قُمْ إشرَبْ النَّـدى الوليد هـذا، مُتعباً من رحلـة الليلِ، كأَنَّ هـذا الصباحَ، النـاطِـرَ خلفَ التَلَّـةِ، يُغَـرِّدُ نشازاً أَخـرَقَ .. يَفتَـحُ كُـوَّةً للصحـوِ، فينهـضُ الوَسَنُ ..!

الجـو مُنعِشٌ، وإنْ خايَلَته نفحـَةٌ من بردٍ نَدِيٍّ فـي صباحٍ لَمّـا يَزَلْ يَتَمَغَّطُ

بالمهـدِ رضيعـاً، يَلهـو بِنُخَالَـةِ الفَجْـرِ ..

سَقَطَت الجمراتُ الأولى (3) مصحوبةً بترقُّبٍ وخوفٍ دَفينٍ، لا يجرأُ أحَـدٌ على البَـوحِ بـه،

لكنَّ الجميعَ يُحِسّونه ..

مورقَةٌ بالهمسِ المُتَحشرِجِ، ذاكرَةُ الرهبَـةِ ..

فـي الليلِ يَتعرّى الليلكُ، فيفضـحُ شَـذاه ..

ــ إِنْ كـانَ الليـلُ أَبكَمَـاً .. لِمـاذا لا يَصـرَخُ النهـارُ في صِـوانِ السكونِ.. ؟!

................................

الصمتُ، يا هـذا، يَجلـو فضـاءَ السَفسَطَةِ .. يُرَتِّـقُ جراحَ الثَرثَـرَةِ ..

قُـمْ، فالساعةُ تُشيرُ إلى مُنتَصَفِ الأملِ/ الوهـم ..

بِرحـى الحنينِ، إِطحـنْ أَحلامَكَ، تُنَقِّرُهـا زَرازيـرُ الرحيـلِ .. فقـدْ تصحـو ذاتَ خطأ، ذاتَ زمـنٍ فـي أماكِنَ أَربَكَتْ يـوماً مشـاعِـرَ غضَّـةً لَـمْ تَعهـدهـا من قبل، فأحتظَنْتَهـا بجناحِ المهجـةِ .. !

ستروحُ تَرشُّ التَوَجُّسَ في عَتمةِ ضوءٍ ينوَلِدُ تـوّاً .. تُنَقِّلُ نَبضَكَ بين المسافةِ ودَندَنَةٍ لَمْ تُبارحكَ، منذُ بَدأَتْ نوبةُ حراستِكَ ...

لِمَـنْ الصهيلُ ... فهذه ريـحٌ من " خردَل "... !!

صليلُ بردٍ نَديٍّ يوقظُ فِيكَ رعشةً خفيفةً، تَنفُخُ في كَفَّيكَ واقفاً في موضعِ الحراسةِ .. فما بَقِيَ منها سوى بعضٍ من وقتٍ تَحَجَّـرَ.. وعلـيكَ أَنْ تُوقِـدَ النـارَ في المطبـخِ وتُهيأ شـايَ الإفطـار قبل أَنْ تُوقظَ الرفيق " الطبّـاخَ " المناوبَ، ومَن سَيَليكَ في نوبةِ الحراسة .

الجبلُ، الذي يستلقي في سريرِ العتمةِ، أمامكم، في آرموش بوادي خُواكُورْكْ (4)، يَتَمَلْمَـلُ متكاسلا ً في فِراشه الداكِنِ، يَفرِكُ وجهه، فَتَكْتَسي هامَتُه بغبارٍ من ضياءٍ برتقاليٍ ..

السماءُ لَمّـا تَزَلْ فَتِيَّةً، مُحمَرّةَ الخدود . والحياةُ تَدُبُّ مثل خَدَرٍ لـذيذٍ يُنَمِّـلُ الأطرافَ بعدَ نـومٍ هانـيءٍ، بلا كوابيس .

أمامكَ، حيثُ تَقِفُ، تُشاهِدُ خيطاً رفيعـاً من دُخانٍ، يتسلَّقُ سُلَّمَ الهواءَ، لَمْ تَتَبيّنْ بالناظورِ مصدرَه . أَقنَعْتَ نفسَكَ، لابد أَنَّهم رعاةٌ، أشعلوا ناراً يتدفّأون بها ويصنعونَ شايَ الصباح ..

مُنهَمِكاً يُلَملِمُ الفجـرُ آخِـرَ خيوطِـه .. تُنَقِّلُ " زومَ " نَظَرِكَ ناحيَةَ اليمينِ، حيثُ تَقِفُ في موضِعِ الحراسةِ ... تَلَّـةٌ تَنحَـدِرُ باتجاه موقِعِ "الأعلام المركزي " في آرموش .. هو طاسةٌ وسطَ تَلَّتَينِ، جهَـةَ اليسارِ واليمين، تَستَنِدُ بظهرهـا إلى جبلٍ ...

تَتَرَصَّـدُ، أَنتَ الواقِفَ هنـا، الخَطَّ بينَ ما تَبقَّـى من رمـادِ الفجـرِ والضـوءِ المُنسَرِبِ مُتأخّـراً، إذْ سيَغمُـرَ، عَمّا قريبٍ، وادي خوا كورك، فيشيعُ البهجَـةَ، يُرخي توَتُّـرَ الأعصابِ وشدَّ تَرَقُّبٍ مُمِـلٍّ ثقيـلٍ .....

"قافِلَـةٌ" تَتَرَنَّحُ على المنحَدَرِ بأتجاهكُم .. أَهِيَ قافلَةُ "غَجَـرٍ!" مـن مُهَرّبينَ أَمْ "مَفرَزَةٌ "...؟ الناظـورُ سيَحسِمُ الأَمـرَ،

ــ قافِلَـةٌ تَمشي الهُوينا، كأنهـا تَهبِطُ على سُلَّمٍ نازِلٍ من غيمَةٍ ..

ثلاثَـةُ بِغـالٍ، مشدودَةَ الآذانِ تَتَمايَلُ بحَذَرٍ، تُنَقِّلُ قائمَـةً، بعد أَنْ تَتَأكَّدَ من ثَبَاتِ بَقِيَّةِ القوائم .. حَذَرٌ، ليَتَنـا تَعَلّمناه منها ..!!

واحِـدٌ منها كانَ مُحمَّلاً بما تحتاجـه " القافِلَـةُ/المفرَزَة " وآخـرانِ، على ظهرِ كُـلٍّ منهمـا شخصٌ، لَمْ أَتَبَيَّـنْ مَـنْ هُمـا .. كانا أشبهَ بنائمٍ يَتَشَبَّثُ بخيطِ صَحـوٍ هارِبٍ .. كأنَّ مَلاكَاً رحيماً يدفَعُهمـا من الظهـرِ، يُنسيهما مُتعَـةَ " الأثـمِ " و" الخطيئَةَ " .. !

بالأمس تَلَقينـا برقيَّـةً من موقِـعٍ متقدِّمٍ لنـا، أَنَّ مفرزةً من جرحـانا في قاطِـعِ بهدينـان،

قد وصلَتْ .. وستَتَجه إلينـا في اليـومِ التالـي ..

ثمانِيَةُ راجلينَ، أو ما يزيد، يَتَسانَدونَ كأنهـمْ سُكارى .. يَسحَلونَ مصائرَهم، صُلبانهم وخُطىً مُتثاقِلَـةً، مَلَّتْ حَملَهـم أربَعَةَ أَيـامٍ، من بهدينـان إلى هنـا .. مُعَفّريـنَ بِتُرابِ وَحشَةٍ إستولَدَتْهـا، مَرارَةُ واقِـعٍ لَمْ يَحلَمـوا بـه ولا رَأَوه، حتى في الكوابيس .. وبراغماتيَّـةُ

" أُمميَّـةٍ !" آثَرَتْ نِسيانَهـم، لئـلاّ تَخْـرَبَ مصالحهـا الخاصَّـةِ... !!

الأشجارُ هَجَـرَتْ إستقامَتَهـا، وإنطَوَتْ على نفسِها تضامناً معنـا، يـومَ عَـمَّ الصَمتُ المُهـادِنُ على مصائرنـا !!

مُضَرَّجيـنَ بما لا يُمكِنُ للناظـورِ إِستِبيانُـه منْ هُمـومٍ .. يُلَمْلِمُـونَ وجَعَـاً، لا يَكِـلُّ

عن التَشَبُّثِ برحيـقِ النَرجِسِ .. وحُزمَـةِ مواويلٍ تُناكِفُ الغيـابَ، والنسيانَ ..

يـا إلـه المنسيينَ، يا مَـنْ لا ينسى !

أَيتـامٌ نحـنُ، ضِعـافٌ ولنـا أَطفالٌ ونسوَةٌ، مَقروريـنَ ينتظرونَ ..

هَبْ لَنَـا من لَدُنكَ كُـوَّةً واحـدةً فـي عـذابنـا، عَلَّنـا نَصحـو، أو نَغفـو لِنَكتُبَ بِنَزيفِ الأمانـي ما تَيَسَّرَ منْ عيشٍ شحيـحٍ ... هُـوَ حَشوَةُ ضِرسٍ، كـادَ يَبْرَأُ من تِيـهِ نَصٍّ

عَصِـيٍّ ليَعـودَ إلـى سَجِيَّةِ المعنـى !

* * *

أَغمَضتَ عينيكَ لوَهلَةٍ، تَتَلَصَّصُ علـى نفسِكَ .. ماذا تُراهـا فاعلَةً الساعة، بيـدَ أَنَّ القَذائفَ الإنفلاقيّةَ مُبكِّرةً تَصحو... سَئمَتْ مَخادِعَها، تَتَحرَّقُ "شوقاً " لأجسادٍ، هَـدَّها الإرهـاقُ وسوءُ

التغذيَـةِ .. فالنظامُ و"جحوشُه "(5) يستعدّونَ للزحفِ باتجاهكم، مَهَّـدوا لـه بقصفٍ مدفعيٍّ لأيـامٍ متواصلة ..

ــ باطِـلٌ كُـلُّ ما كَتَبنـا، وبـاطِلَـةٌ هِـيَ كُـلُّ أَحلامِنـا، إِنْ لَـمْ نُـؤَطِّـرْ هذه اللحظـةِ المحتدِمَـة ..

قبـلَ أَنْ يَلِفَّنـا لَولَبُ العمـلِ اليـوميِّ ... أو ننساها/ نتناساها كأخواتها عنـدَ واحِـدٍ من

" المُنعطَفـاتِ "، حتـى تَحْمَـرَّ الأرضُ خَجَـلاً لأَجلِنـا .. !

مَنْ سيسمع الرصاصـةَ، التي ستَقتُلُنـا في عويـلِ الحـرب هـذي ..؟!

مَنْ سيُنصِتُ لتَـأبينٍ بليـغٍ فـي مأتَـمٍ متـواضِـعٍ خلفَ الصخـور ؟!

فلا راياتِ لدينا، سنلُفُّ موتانا بالكلامِ / الصمت !

لا شيءَ هاديءٌ هنـا ... طبـولُ الحـربِ وغِـربانُهـا تَعـوي، صباحَ، مساء !

حتـى الحَجَلُ صـارَ ثرثـاراً ..!!

فَتَنَحَّـيْ، أَيَّتُهـا الحـربُ المخبـولَةُ،

تَنَحَّـيْ، أَيَّتُهـا اللقيطـةُ، إبنَـةُ الكلبِ ..

تَنَحَّـيْ، فقـدْ دَفَعنـا مَهرَكِ غاليَـاً، وما زِلنـا نَرنو إلى السلمِ، كيما ندفَعُ فواتيره أَيضاً ..!

تَنَحَّـيْ، فالكأسُ، التي تَرَكْنـا قَبْلاً، ما زالَت من ضَجَـرٍ، تُذيبُ ثلـجَ الإنتظـار ..

تَنَحَّـيْ، خُـذي قِنـاعَ قابيـلَ مُلَطَّخـاً بدم أخيـه، كَـيْ يَمُـرَّ " رَكْبُ الخَـردَلِ " إلـى صّمتٍ فَصيـحٍ، كذاكَ الذي تَجَمَّـدَ، فَـوقَ شِفاهِ هابيـلَ .. !!

صّمتٌ يواسي وحشَةَ ليالـي الشتاءِ الطويلـةِ بحكاياه حـولَ مواقِـدِ الجمـرِ ..

..................................

..................................

مزَّقتِ المدفعيةُ سمفونيةَ الطَيرِ، حتى الدجاجُ في قِنِّه أَصابَه الذُعرُ ...

هَبَّ " فصيـلُ الإعـلامِ " يَركُـلُ النـومَ، يَهُشُّ النُعاسَ .. تَوَزَّعَ في مواضِعَ، إتّقاءً من قصف العدو . فقد تكـونُ قواته رَصَـدَتْ حركـةَ المفرزةِ، أو يكـونَ عَمـلاً عاديـاً يُمارسونه ضِـدّنا، مثلَ " رياضـةِ الصبـاح "، قبلَ الفُطـور .. ! كما دَأَبَ الرفيق الطبيب أبو گوران، على تسميَته ساخراً ..

كما الطيرُ إلى أعشاشه يَهِبُّ، تَنتحي خَلفَ صخرة غيرَ بعيدٍ عن إداريِّ الفصيل ر. أبو جعفَر وأبو كوران، تُقَلِّبُ بحذَرٍ صورةً وحيدةً نَجَتْ لبُنَيَّتِكَ .. مَخافَةَ أَنْ يُمْسِكَ بِكَ أَحدٌ مُتَلَبِّساً بالحنينِ ويَضيفُها لِنقاطِ ضَعفِكَ .. !!

القصفُ المدفعي حرَّركَ من أغنيةً تشبّثتْ بكَ منذ يومين ...

قَفَـزَ ر. أبو جعفَر – إداري الإعلام المركزي - إلى محَـلِّ سُكنانا، لَمّا لاحظَ أنَّ أبي گوران نَسِيَ حقيبته الطبيَّـة ...

إنتَهَتْ " رياضةُ الصبـاحِ "! فَعَـمَّ سكونٌ فَصيـحٌ .. هَرَعنـا من مواضِعنـا بأتجـاه" المطعم "

، حيثُ وَصَلَتْ مَفرَزَةُ الجرحى ...

كأَنَّ خَيزينَهم من القِـوى أَفلَتَ صمّامَ أمانِه، فأندَلَقَـتْ طاسَته دفعـةً واحـدةً لَمَّـا وصلـوا إلينـا .. جَلَسَ البعضُ، وآخـرونَ إستطالَتْ أجسادُهم على الأرض .. وجـوهٌ سمراءَ كَدَّهَـا

الإرهـاقُ، صُفرَةٌ باديَةٌ في بياضِ العيـونِ، علَّقـوا جراحاتِهـم في المآقي، إلى جانِبِ غموضٍ، أشبهُ بسؤالٍ كبيرٍ يبحثُ في وجوهنـا عن جوابٍ لا نَملِكُه ..

أَنينٌ هنـا .. ونـداءٌ من هنـاك .. وأبو گوران يَنُـطُ بينهـم مثلَ أَرنَبٍ ..

+ متى إغتَسَلتُم ؟

# منذ أسبوع، أي قبلَ القصفِ بأيام ..

+ لَـو أَنهـم تركـوا الوادي و"حِكمَةِ " الجنرال ! فتَسَلَّقوا الجَبَلَ إلى النبـعِ، حيثُ المضاداتُ الجـويَّة .. إغتَسَلوا هُناكَ وبدّلوا ملابسهم، لَمَا كانت هذه الكارثةُ، قالهـا أَبو گوران، وأطلَقَ معهـا حَسرَةً حَرّاقَةً ..

مثـلَ بقايـا جيشٍ مُنكَسِرٍ، جاءوا كَأَنَّ كُـلاًّ منهـم يحمِـلُ قَبـرَه وصَمتَـه معـه .. يُجرجـرُ خلفَـه صليبـاً ثقيـلاً مـن سؤال .. !

لَـمْ يكـونوا بينَنَـا .. أَتُراهـم ذَهَبـوا يودِّعونَ الأهـلَ والصحبَ ويخبرونهم بمـا فعَـلَ "الخـردَلُ" وسوءُ التقديـرِ والتدبيـرِ .. عِندمـا تَسَلَّلَ إليهـم حافيـاً، على رؤوسِ أصابِـعِ هـواءِ الربيـعِ ؟!

كنتُ أراهم نائمينَ، أو على شَفرَةٍ، بينَ الغَفـوِ والصَحـوِ .. وقَـدْ تحَجّـرَتْ على الشفاه بقـايا قصيـدةٍ أو سؤالٍ عَمَّـنْ نجـا من الصَحبِ، ومَنْ عَبَـرَ إلـى الغيـابِ، دونَ وداعٍ ... لَـمْ

يُسعِفه الوقتُ أَنْ يأخُذَ مَعه صوراً ومسوداتٍ ورؤوسَ أَحـلامٍ يستحي أنْ يُريهـا لأَحَـدٍ ..

ما كانوا يدرونَ ما قاله البومُ عنهم .. ولا ما وَشَتْ بهم الثعالبُ،

......................

إلتَقَتْ نَظَـراتُ البعضِ مِنّـا، إتَّفَقنـا أَنْ نَنْسَحِبَ .. نَترُكًهـم يهنأونَ بنـومٍ ناعِـمٍ،

نُجَهِّـزُ لَهُـمْ الحَمّـامَ، ليغتسلوا ممّـا عَلُـقَ بأجسادهـم وملابسهم من "غـاز خردل" .. ظَـلَّ يَقتاتُ على أبدانِهم، حتى تَعَفَّنَتْ القروحُ ونَزَّتْ صديـداً ..

زاهِـدَ القامَـةِ كانَ، وسيماً كما أوصفَت العاصفة، كي لا أقولَ ضامِرَ البُنيَـةِ .. طاعنِـاً في السُمرَةِ كالبُـنِّ اليمـاني، يَلِفُّ رأسه بِجَمَداني ( يشماغ/ حَطَّة ) حائِل اللونِ، غَطّـى عينيه،

قيـلَ لنـا أَنّهمـا إبيَضَّتَـا ولَمْ يَعُدْ يرى غَيـرَ مَشهَدٍ حليبيٍّ ..

تَمَـدَّدَ تَحتَ سقيفَةٍ، كُنَّـا نُسَمّيها مَجـازاً بـ"المطعم"، لَعَلَّنـا نُبقي على صِلَةٍ لَنـا بواقِـعٍ أَصبَحَ رَمـادَ ذِكـرى، بِفِعلِ " التَقادُمِ " الزمنيِّ .. !!

فُضـولٌ شَرِسٌ يَنهَشُني أَنْ أَندَسَّ إليـه، فَأرى آخِـرَ مـا أَبصَـره .. أَنْ أُطِـلَّ على شُموسِ ذكرياتِه ... تُـرى بمـاذا كانَ يحلـمُ !!

بِـي شَـوقٌ أَنْ أَرى ألوانَ مراكِبِ الرحيـلِ مُزَركَشَةً، جَهَّزَهـا الحنين للعبـورِ ..

أَنْ أَسُدَّ نافِـذةً، أَطَلّـوا منهـا خطـأً، فـي زمـانٍ خَطأٍ، فَتَلَقَّفَتْهُمْ الفجيعـةُ بأَذرُعِ أُخطبوطٍ، ماكِـرِ البَسمَةِ .. !

أَنْ أَملأَ أَوراقَ إِلتباسِ المعانـي بثقـوبٍ من سيجارتـي .. عَـلَّ ضجيجَ "الحماسَةِ" يَرشَحُ، فَنَثوبَ إلى صمتٍ صافِيَ النَقـاءِ .. !

كـانَ يُعالـجُ دُوارَ شهيقٍ مُتهالكٍ، يليـه زفيـرٌ مهـدورٌ ..

مُتعَثِّـراً بأنفاسه، يَشفِطُ الهـواءَ بِمَشَقَّةٍ مصحوبَةٍ بخَرخَشَةٍ في الصَدرِ، مثلَ حَمْلٍ صغيرٍ يستَحلِبُ ضرعاً جَفَّ ...

كأَنَّ فَراشاتٍ سـودٍ، رَشَّتْ نُعاساً مُزَركَشاً حَطَّتْ فـوقَ جُفونِـه وماتَتْ .. لِتَستُرَ سِـرّاً كـادَ يتَزَحلَقُ علـى ظهـرِ دمعـةٍ ..

راحَ يَتَلَوَّى مثلَ راقِصٍ في آخِـرِ السَهرَةِ، وحيـداً، إلاّ من ساكسَفونٍ دافِيءٍ، يُرسِلُ أنينـه من بعيـدٍ .. في ليلَةٍ لَـمْ يَرقُصُ على لحنِـه سـواه ..

بَـدَا يحتَضِنُ الفـراغَ، كَأَنَّـه يتَمايَـلُ وسطَ عتمَـةٍ مليئـةٍ بِدُخـانِ بـارٍ في نيو أورليانس،علـى إيقـاعِ لَحـنٍ قَديـمٍ، حَمَلَـهُ " العبيـدُ " في جيـوبِ الذاكـرةِ، على سُـفُنٍ إرتَحَلَتْ من زنجبـارَ

لِتَبْنِـي أَرضَ حُريَّـةِ " الآخَـرَ " .. !!

لَحـنٌ، يبدو أَنـهُ حَفِظَـهُ عنْ ظَهـرِ رَقصٍ ... !!

.............................

مثلُ مَلسوعٍ، كان يَهُشُّ بيده أحياناً .. أَتُـراه كانَ يطرِدُ ذُبابّةً كَـدَّرتْ غَفوَتَـه ؟ أَم كانَ يحاولُ القبضَ على ياقوتةِ المجهول ليصفَع وجهَ طوالَـعِ النحسِ، التي ساقته، تلكَ الساعة إلى مَقَرِّ القاطِـعِ، ليشهَدَ هذا المصيـر ؟!

ولَمّـا فَتَـحَ عينيـه، وارتَطَمَتـا بضياء الصُبـحِ، حاوَلَ أَلاّ يُجاهِـرَ بِدمعَـةٍ ناقِصـةٍ، تَكَـوَّرَتْ في مَحْجَـرِ العيـنِ .. تَلصِفُ، تكـادُ تَنْزَلَـقُ، ولَمّا مَسَّهـا الضوء، تَدَحرَجَتْ كأَنَّهـا كُـرةٌ

من زئبـقٍ، إكتَظَّتْ عليهـا الكواكِبُ .. دَمعَـةٌ حـارَّةٌ إنزَلَقَتْ في أَخاديدَ حَفَرَهَـا الغيـابُ

والحنين .. !

قُلتُ نمْ يا رفيق، لن نزعجَ نومتكَ .. فحتى العصافير إختنقت في صدورها الأغاني

.. لكن لا قُدرَةَ لنا على إسكاتِ عواء المدفعية ...!!

آهٍ لو كانت " الآلهـة " تـرى، كي تقرأ ما بعيـونِ الضحايا .. لأَدرَكَتْ كَـمْ أنَّهـا في الموقـعِ غيـرِ المناسبِ أبـداً ..!!

غيـرَ أَنَّ السرابَ، ينخَدِعُ بسهولَةٍ، فيتضَخَّمَ، عندمـا يـرى صورتَـه فـي عيـونِ العَطَاشى ..!!

لكنَّـه لا يَدري مـاذا تَفعَلُ البُـروقُ عندمـا تَفْتَضُّ كروشَ الغَيـمِ ..!!

* * *

لَـمْ يَبـقَ كثيـرٌ فـي هذا الزمنِ الرجيـمِ .. سينفَرِطُ الشَمْلُ وينـادي المُنادي بالرحيـلِ، سَتَذرونـا الريـاحُ فـي جَـوفِ الشَتاتِ ..

وَسَنُشعِلُ العتمَـةَ، نُؤَجِّـجُ بهـا وَحشَةَ الغِيـابِ ..

مُسرَجينَ على خيـولِ الخيبَـةِ، سَتَصيرُ لنـا تَأويـلاتٍ شَتّى ..

سَيغدو مِنّـا " باطنيـونَ !"، ونصيرُ " أَهـلَ شَتَاتٍ ! "

سَنَقولُ .." لا بأس ! كُـلٌّ ينحَتُ بأزميلـه فـي رُخـامِ الرؤيـا "!!

ولَمّـا تَشْحَبُ الوجـوه، وتأكُـلُ النيـرانُ الزَرعَ والضَرعَ، تَصيـرُ للرؤيـا عِدَّةُ

قُـرونٍ ..!! وتكتسي " تَفاسيرَ ودِلالاتٍ " لا حَصْـرَ لهـا !!

ستَهجُرُنـا الموانِـيءُ، وتَلفِظُنـا الطُرُقـاتُ .. سَتنهَرُنـا المحطّـاتُ والأرصِفَةُ .. وسَنَنْسى، لسوءِ طالِعنـا !، مُغازَلَـةِ البروقِ ... ولَـنْ نَـدري بأيِّ وَجـهٍ نُجابِـهُ شَبَقَ المرايـا ..!!

فمنسوبُ الطيبة لدينا وفيرٌ...!

.. سأُوَدِّعُ الريـحَ .. إِنْ سألَتْني " مـاذا تَحمِـلُ عنِّي ؟ " سأَقـولُ " غازُ الخـردَل "

، " وقيعـةُ " المِروحيّـات (6) وزجـاجـاً لا وظيفَـةَ لـه هنـا، غيـرَ أَنْ يِتَشَظَّى ..!

سأَحمِـلُ صَوْلَجـانَ حُزنـي، وأَصيـحُ : هَنيئـاً للعافِيَـةِ، فاتَهَـا أَنْ تَمَسَّني بجناحٍ !

سأرفَـعُ رايَـةً من كـلامٍ أَبيَضَ مُطفَيءٍ، لا يحتـاجُ حماسةً ..

فها أَنـذا أَترُكُ الشَجَرَ يتَخَبَّطُ فـي شِراكِ الريـحِ .. لَنْ أُبالِـي بِصُـراخِ عِراكِهِـم،

ولا بوَجَـعِ قَمَـرٍ، عَثَـرَ بغيمَـةٍ فأنكَسَرَ، مثلَ صَحـنٍ من بَلُّـورٍ ..

لَـنْ أُبـالي بعدَ اليـومِ إِنْ مَرَّت المِروحيَّـاتِ تُهرولُ في سَقفِ السماءِ مِـن فَوقِنـا ...

إِنْ نـطَّ سمَكُ الأَنهـارِ يَتَشَمَّسَ فـوقَ الصَخـرِ بفضائحِيَّـةٍ داعِـرَةٍ .. !

أو إِنْ سَرَحَ الماعِـزُ الماكِـرُ بالرُعـاةِ، يُضِلُّهُـم عـن مواضـعِ الكَـلأِ .. كـي لا يَسمَنَ ويَصبَـحَ للذبـحِ جاهِـزاً .. !!

......................................

ولا شَأنَ لِـيْ بنفسي، إنْ مِتُّ أَمسِ، أم اليـومَ، أمْ فـي الذي يليه، فقَـدْ شَهِدتُ ميتـاتٍ صغيـرةً كثيـرة ..

وعبَّأتُ جُـرابَ الذاكـرةِ بمـا أَتخَمَهـا، وكفـى ..!

غيـرُ مُغريةٍ هِـيَ مائـدةُ التفاصيـلِ،

فَقَـدْ حَفِظنـا مصطلحاتٍ كثيـرة .. صواريخَ باليستيَّة، غاز الخردل، قذائف إنفلاقيَّة، وقنابُلَ عنقوديَّـة، صواريخ ستريللا.. وغيرهـا كثيـرٌ،

فلا جـدوى من مزيـدٍ ..،

سوى صَمتِ حجَـرٍ، مُقفَلِ الجُنُباتِ على وعـورَةِ سيرتِنا !!

نصٌ من كتاب [مُطاردٌ بين "الله" والحدود] يحيى علوان

صدر عن دار الفارابي – بيروت، بداية عام 2018

.........................

(1) فـي ربيع 1988 وتمهيداً لـ" حملة الأنفال " الإجرامية ضد مئات القرى الكردية، وتتويجها بجريمة حَلَبجة بالغازات

السامة، شَنَّ نظام صدام هجوماً بالغازات السامة، مستخدماً " غاز الخَردَلِ "، ضد مَقرّات الحزب الشيوعي العراقي

في قاطع بهدينان، إستشهد لنا فيه ثلاثة رفاقٍ، وأُصيبَ أكثرُ من عشرينَ آخرينَ، جراح بعضهم بليغة، استوجب

نقلهم إلى الخارج للعلاج. وكان يستوجب نقلهم إلى سوران والمرور عبر مقر"الإعلام المركزي " ثم التوجه إلى

الخارج ...

(2) لمّا كنا صغاراً، ننام في الصيف فوق السطوح ليلاً، ونلوذ بأحضان الجدة تحكي لنا قصصاً مسلّية حتى نغفو، وعندما

ترى واحداً مِنّأ يُعدُّ نجوم السماء تنهاه لأن : " نجوم الله كثيرة وإن أخطأتَ حسابها ستمتلأ يديكَ بالثآليل" – فالول

بالعامية العراقية – أو عين السمكة، وهو نتوء خشن الملمس ينمو على سطح الجلد، نتيجةً لأصابة فيروسية .

وهو مُعدي يصيب الناس من كل الفئات العمرية، لاسيما أطفال المدارس .

(3) في الموروث الشعبي الكردي، تسقط في نهاية الشتاء ثلاث جمراتٍ تِباعاً، تعمل على إنعاش دورة الحياة ..

الأولى تتولّى تلطيف الهواء، بعدها تسقط جمرة الأرض، التي تتولّى إذابةَ الثلوج، التي غطَّت الأرض خلال

الشتاء .. وآخر جمرةٍ هي جمرة الماء إيذاناً بحلولِ الصيف وإمكانية السباحة في الأنهار والجداول ...

(4) وادي خواكورك، يؤدي إلى پيربينان، حيث مثلّثُ الحدود العراقية- التركية – الإيرانية، هناكَ كانت

مقرّات قيادة الحزب الشيوعي العراقي وإعلامه المركزي وإذاعة "صوت الشعب العراقي "، وفي ربيع

1987 صار هناك مقر للجبهة الوطنية الديمقراطية (جود).

(5) جرَت العادة على إطلاق تسمية "جاش/جحوش" لفصائل المرتزقة، التي جنَّدتها الحكومة بين صفوف العشائر

الكردية لدعم النظام في محاولة منه لكسرِ شوكة المعارضة المسلَّحة . ذات العشائر (قياداتها) ستغدو فيما بعد

- بعد "تحرير"العراق من قبل اليانكي - جزءاً من المنظومة الحاكمة في الإقليم ..! وكأنَّ شيئاً لم يكن ... !!

(6) في ضحـىً من أيام شباط (فبراير) من عام 1985 كانت درجاتُ الحرارة قد وصَلَتْ إلى ما دونِ العشرين تحت

الصفر. الثلوج غَطَّتْ المنطقة ووصلَتْ مستوى سطوح الغرف التي نسكُنها بقاعدة لولان ( قرية مالي مه له)

وكُنّا مقطوعينَ عمّا حولنا. فوجئنا، ونحنُ نتَحلَّقُ حولَ مدفأةٍ عامرةٍ بالجمر، عندما صاحَ ر. أبو سلوان من

تحت البطانية:

" رفاق الحرارة في الغرفة وصَلت صفراً .. تهانينا ! لن نموتَ برداً !"، صُعِقنا بصوتِ مروحيَّةٍ جاءت من خلفِ الجبل، الذي   نحتمي بخاصرته ...

هرعنا بسرعة، كُنتُ وقتها حافي القدمين لأنَّ ر. أبو وسام أجرى لي قبلَ يومٍ عملية جراحية في قَدَمَيَّ، لإزالة سبعة مسامير مُتقرِّنة كانت تعيقُ حركتي جدياً.. تفَتَّقَتِ الجروح في نفس اليوم لأنَّ آمرِ القاعدة رفضَ توفيرَ دابَّة لنقلي من الطبابة إلى حيث نسكن بحجة أن المسافة َلا تزيدُ على مئة متر .. ولا يحتاج الأمر ... [حتى لا يُقال أنه أمرَ بنقل مسؤول القاعدة فيما لا يستوجب ... كي يبرّأ نفسه من تهمة ٍ قد تُلصَقُ به بمحاباة المسؤول .. وهو جوٌ شاعَ بعدَ بشت ئاشان !! وكان شكلاً جنينياً غير مُشَذَّبٍ لرفض القواعد الأنصارية لصيغ العمل الحزبي والأنصاري، التي تعرقل طاقاتهم وتكبح مبادراتهم، تلك الصيغ التي أدَّت في حالاتٍ إلى خسائر بشرية بين صفوف الأنصار والتنظيم المحلي في داخل العراق] إثر ذلكَ انتَشرنا على الفور في مواضع دفاعية، ظناً منّا أنه إنزالٌ حكومي مباغت يستهدف تطويقنا وتصفيتنا.. لم يطُلْ بنا الأنتظارُ والشدّ .. الأصابع على الزناد، انتظاراً لإشارة من ر. ملازم قصي بعدَ أنْ اتفقتُ معه، على التأكد من الأمر لأنَّ المروحية لم تُبدِ نيَّةً عدوانية أو هجومية . فلا قصف، ولا تمشيط ... حطَّت المروحية، وكانت إيرانية، في فسحة لاتبعدُ أكثر من خمسينَ متراً تقريباً عن مقرنا .. نزَلَ منها (فاضل مَطني ـ مراني) عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني وتوجَّه برفقة حمايته إلى مقره، الكائن في الجهة المقابلة لقاعدتنا على الضفة الأخرى من النهر الفاصل بيننا. لَمْ يُكلِّف الحليف نفسه " مَشَقَّةَ " إعلامنا برقيّا ً، كي نكونَ على بيِّنةٍ . لكنها الغطرسة والاستهتار بالناس"الحلفاء" ومصائرهم، كادتْ تُسيلُ دماءاً وتُزهِقُ أرواحاً بصورة مجّانية، لا موجِبَ لها .. !

 

في نصوص اليوم