نصوص أدبية
مُسَيَّر أم مخيّر؟
ذاتَ حُلـْم ٍ مستغرَبٍ في حياتي*كنتُ فيه كضائع ٍ في فـَلاةِ
لاح لي في المنام شيخٌ غريبٌ*باديَ الحزم سائرٌا في ثَباتِ
لم أشاهدْ أمثالـَه طُولَ عُـمْـري*فهْـو ذو خِفـَّةٍ وفـَرْطِ أنـــاةِ
مَـنـْطقـيٌّ لكـنه ذو انـْـدفـاع ٍ*ليس تـُعْــيـِـيهِ أكبرُ المعضلاتِ
يُـرسل الحكـْمة َالبـلـيغَـة َلكنْ*يـمـزج الجـِـدَّ دائما بالـنـِّكـاتِ
قد بدا لي مُقـَرْفِصًا فوق رمل*ومن القـلبِ يُرسـلُ الدعـواتِ
خِلـْتـُها، إذ سمعتـُها في منامي*مِـن فـؤادٍ مُحَـيَّـر ٍصـادراتِ
كابْـتِـهالاتِ نــاسكٍ ظـلَّ يَــتـْـلو*دعـواتٍ تـَهُـزُّ قـلبَ الصَّفـاةِ
وهْـو فيها، لخوفِـهِ من عِقابٍ،*خـَالَ أفعالـَهُ مـن المُـنـْكـَراتِ
يسألُ اللهَ خاشعًا مستـَنـيــبًا:*(رَبِّ عفوًا على الذي كنتُ آتي...
مـنْ ذنــوبٍ حُـمِّـتـُها دون ذنـْـبٍ*وفِـعــالٍ تـُعَــدُّ مــن زلاّتـي
ويَـقـيــني بـأنَّ ربِّـي يَـقـيـني*بـيـقــيني في خالـق الكائـنــاتِ
جَـنـّة ُ الخـُلـْـدِ للـتـُّـقـاةِ جـــزاءٌ*مــن إلــهٍ، وعــفـْوُهُ للعُـصاةِ
ذاك قـَدْ ظـلَّ يَـشـْتري بـِتـُـقاه؟*جنة الخُلـْدِ، وهي أجْرُ التـُّـقـَاةِ
وسِـواهُ لم يُـقــْرضِ اللهَ قـَرْضًا*حسنا كيْ يضاعِفَ الحسناتِ
يا إلهي قــوِّمْ خُطايَ لأسْعَـى*فـوق أجْـلـَى المسالك النـَّيِّـراتِ
أنتَ تـَدري بأنني كنتُ أدري*أنَّ ما خُـط َّ في كتابي سَـيـاتِي
والذي فيه سوف ألقاه حتما*مِنْ تـُقـًى صـادق ٍومِنْ نــزَواتِ
تـُبْتُ عنها واللهُ يمـنـحُ عفـْوًا *لنفـوسٍ، عمّا أتـَـتْ، نادماتِ
وذنوبي ليستْ ذنوبـي، ولكنْ*هيَ أمرٌ مُسَـطـَّـرٌ في حياتي
لمْ يَكُنْ لي عنها محيصٌ، فقِِدْمًا*وضعتْها الأقدارُ في طُرُقاتي
فأطعتُ الإلهَ في كل أمــر ٍ*وَهْيَ عندي مِنْ أكبر الطاعاتِ
والمقاديرُ ليس تـُدفـَعُ إلاَّ*بالمقاديـر من إلهِ الحـياةِ
فـلماذا حُـمِّـلـْتُ ذنبا ثقيلاً*وأنا طائعٌ بما كنتُ آتِي؟!
إنَّ هذي الحياة َكالوردِ فيه*يَحْرُسُ الشوْكُ يانعَ الزهراتِ
وفِعالُ الإنسان ِ، منها شَذِيٌّ*كعبير ٍيَنـْسابُ في النـَّسماتِ
وفِـعـالٌ كـرائحـاتِ نِـعَـالٍ*داسَ أصحابُها على الفضلاتِ.)
****
قلتُ للشيخ: (ما تقولُ خطيرٌ*حين صغـَّرْتَ هــذه الموبقاتِ
ونسبْتَ الذي اقترفتَ إلى مَن*وجَّهَ المرءَ نحو ما سوفَ ياتِي...
مِنْ فِعال ٍ ما بين خيْـرٍ وشرٍّ*وهُـما لازمان في ذي الحياةِ
كنت فيها مسيَّرًا في ضَلالٍ؟*أمْ تـَخيَّرت أقوم الطرقاتِ؟)
فانبرى الشيخ قائلا في اعتدادٍ*بعد ما ظل مصغيًا في سُباتِ:
(إنّ تلكَ الذنوبَ ليستْ ذنوبي*فلماذا تـُعَــدُّ مِـن ســيـئاتي؟
وأنـا مُنـْجـِزٌ لِمَـا في كتابٍ*للمقـاديـر ِقـــبل بـدْءِ الحـياةِ
أ تـُراني (مخيَّرًا) كنتُ أمشي*مثل أعشى في مظلم الطرقاتِ؟
أم تراني (مُسَيَّرٌ) في دروبٍ*مَهَّدَتـْها الأقـدارُ للكائـناتِ؟
وإذا ما سلكتُ دربا سواها*كـُنتُ فيها كعابــر ِالظـُّلـماتِ
(خـَبْط َعَشواءَ) سَيْرُها في ضَلالٍ*أو كمن سار ظامئـًا في فـلاةِ
ظـَلـْتُ أجري خلفَ السراب طويلاً*لم يُـسَـدِّدْ أهلُ الهُدَى خطواتي
ولأني (مُـسَـيَّـرٌ)، فــأراني*قد أتيتُ الذي أنا كنتُ آتي...
مستجـيـبًا لكل ما في كتـابي*يوم خـُط َّ المقدورُ في صفحاتي
À
والذي في الكتابِ سوف نراهُ*بعيُونٍ، عـنْ غـيِّـها، غافلاتِ
إن ربي ربِّ المكارم في مَنْ*يسْتحقون عفوَ ربِّ الحياةِ
هل ينال العـفـوَِ الذي نال أجْــرأ*بصلاة مفروضةٍ وزكاةِ
وجميع ِ الأركان مِنْ أمر ِ رَ بٍ*غافر ٍ للذنوبِ والزلاتِ
إنما العفو للذي كان يُخطي*لا لمن سار في دروب الهُـداة
والتقاةُ الأخيارُ مَنْ قدْ أطاعوا*أخـذوا أجـرَهم على الطاعاتِ
وأرى العفو من غفور رحيمٍ*ظلَّ يعـفــو على ذوي الزَّلاَّتِ
إنْ نكنْ باختيارنا قد جَنَيْنا*ما جنينا من سـالف المعـصياتِ
فـلأنـّا مُعَـوِّلـونَ على مَـنْ*يَـمْـنحُ العـفـوَ، قــادرا، للعُـصـاةِ
أوْ نـَكـُنْ مذنِـبين في ما اقترفنا*فاعْفُ عنا يا ماحيَ الزلاتِ
أتـُراني كنتُ (المخيَّرَ) في ما*سرْتُ فيه مِنْ مظلم الطرقاتِ؟
ورجائي بأن نـَكون جمـيـعًا*في جِنان الخلود، دون افتئاتِ).
****
قلتُ: (ماذا تقولُ يا شيخُ ماذا؟*بعد هذا؟ يا صاحبَ الفلسفاتِ؟
فأبـِنْ لي فالأمرُ جـِدُّ عويصٍ)*قال: (دعني من هذه المعضلاتِ
فـَإلهُ العباد رَبٌّ رؤوفٌ *بعيال ٍ يــرعاهمُ في الحياةِ
نحن فيها عيالـُهُ منذ كنـّا*وحَــريُّــون منه بالرحماتِ
وحنانُ الإله في الخلق أقوَى*من حنان الآباء والأمهاتِ
ما استـُشِرنا في جَيْأَةٍ أو ذهابٍ*وفِعال ٍ كانت لـنا مُلـْزَماتِ
وإذا ما جئــنا بها صَـنـَّفونا،*بهواهُمْ وجهلِهـِمْ، في الجُــناةِ
وتمنــوا لنا الجحيم لِـنـُكـْوَى*بشظايا نيرانِـها المحرقاتِ
والإلهُ الكريمُ يعفو على مَنْ،*في الكتاب المسطور، قد ظل يـاتي
وأراني في فعلها مسْـتـَـجِــيـبًا*للـذي شـاءَ خالِــقُ الكائــنـات ِ
وإذا كان منــطــقِي منطقــيًّا*وصــوابًا، فقد ضمِــنـْتُ نجـاتي...
من حِسابٍ على الذنوبِ التي قـد*جعلتني في الناس ضِمْنَ العُصاةِ
إنْ أكـُنْ قـد جـنـيتـُها باخـتـياري*فـَلأنـِّي قــد كـُنـتُ كــالآلاتِ
مَنْ تـُرى يذبحُ السكاكينَ إن همْ*وجدوها في كف بعض الجناةِ؟
بدمـاءِ القتــيل تـقـْـطـُرُ، لـكــنْ*بَــرّؤوه بــِمَحْــق ِتلك الأداة ِ
كنتُ مثـُُلَ السـكين في كفِّ جان ٍٍ*طـعــن الأبرياءَ حتى المماتِ
يا إلـهي إنـي أحِـسّــكَ تـسْــري*سَـريـانَ الدماء في نبـضـاتي
أنـتَ لي الكهربـاءُ دبّتْ بجسمي*كـدبـيبِ الإحساس في عضلاتي
تـُلـْهـِـمُ النفسَ فِـسْـقـَها وتـُقـاها*فأتـَتْ بالتـُّـقـَى وبالـمـوبـقاتِ
يا إلهي قــوِّمْ خُطايَ لأسْعَـى*فـوق أجْلـَى المسـالك النـَّيِّـراتِ
ويَـقـيني بأن ربي يَـقـيــني*مِن عِـقابٍ مُــرٍّ على المَعْصياتِ
كنتُ فيها منـَفـِّذ ًا للذي قد*خُط َّ في اللوح قبل بدء حياتي
فـهْـيَ لي، لكنـَّهمْ حـمَّـلوني*وِزْرَ فِعْل ٍقد كان من طاعاتي !)
***
وبدا لي أن أسأل الشيخَ في ما*خاض فيه من تلكمُ المُعْضلاتِ
وعلى حين غِرَّةٍ غابَ عني*كسـرابٍ بـِـقِـيعَـةٍ فـي فـَـلاةِ
وطغَى الماءُ في القِـفارِ فأحْـيىَ*كلَّ شيء قد عـُدَّ في الأمواتِ
وغـدَا الـقفرُ جــنة ً، في رُبـاهُ*تـُـرْسِلُ الطيرُ أعذبَ الأغنياتِ
كدتُ من فيضها أكـونُ غريقـًـا*رَغـْمَ أنّ المياهَ نـَـبْعُ الحياةِ
دام حُلـْمُ الصحراء بالماء حَتـًّى*طوقتني بأعْـبَــق الـزهَـراتِ
وبدتْ لي البيداءُ روضًا خصيبًا*وكأني رضوانُ في الجنـّاتِِ.
****
وأتى مَنْ أفاقني مِنْ منامي*لأعــيدَ التـفكــيــرَ في المـأساةِ
قال لي: (انهضْ فالكونُ يدعو بحزمٍ:*دَعْ مناما فالنوم صِنـْوُ المماتِ)
وأراني أُسائــلُ النفــسَ عـمَّنْ*كانتِ النفسُ عنه في السائلاتِ:
(ذلك الشيخ من يكون؟ فإني*خِلـْتُ نفسي إياه في التـُرَّهات ِ
فلسفاتٌ قد حَـيَّــرتْ مِنْ قديم ٍ*كلَّ مَنْ قدْ مضَى ومَنْ سوف يــاتي
***
أ .د : نورالدين صمود
06/22/06/2018