نصوص أدبية

الشّيطان في دمي

حسن السالميأصبغت وضوئي.. وفرشت سجّادتي.. ويممّت وجهي إلى القبلة..

الله أكبر..

الحمد لله ربّ العالمين.. الرّحمان الرّحيم.. ملك يوم الدين.. إيّاك...

المخيّلة تستعر بمشاهد من وقت قريب..

فينيس العصر تكشف عن حديقة جسدها الشهيّ.. وتعزف بآهاتها المعصورة مع خمر الشّهوة لحنا غامضا أرقص الأفاعي التي في دمي...

ينبع صوت من داخلي.. لعلّه صوت ملك من الملائكة.. أو لعلّه من رجع الصّدى..

"الله أكبر من شهواتك.. الله أكبر من هوى نفسك.. الله أكبر.. الله أكبر"...

أشعر بالضّيق.. أحسّني في قرار مظلم حيث لا هواء..

أستمرّ في قراءة الفاتحة..

اهدنا الصّراط المستقيم.. صراط الذين...

تتقيّأ مخيّلتي حُمَمَها طورا آخر، بعد أن فتحت أبوابها دمائي السّاخنة، الملوّثة بالوحل والطّين..

يحلّ النّسيان وتسافر بي الغفلة..

شابان يافعان، كأنّما قُدَّ جسداهما من المرمر.. خطوط ومنحنيات وهضاب و وهاد وتضاريس لا عدّ لها، تنصب فخاخا للأرواح الهائمة مثل روحي..

فينيس تمسك إله الخصب من (...) وتقوده إلى المحراب.. المحراب وسط بيت مضاء بالشّموع.. والبيت وسط غابة نائية، لا ثالث فيها إلاّ اللذّة..

أتخيّلني مكانه.. أمدّ يدي إلى ثمرة من ثمار الآلهة و...

ولكنّ المشاهد في مخيّلتي تنطفئ لسبب غامض، لأجدني مع الله وجها لوجه.. أستحضر عظمته، قدرته التي ليس لها حدّ.. تسري في أوصالي الرّهبة.. ويغشاني شعور بالضّحالة والحقارة لم أشعر بهما من قبل..

أيكون هذا حالي مع ملك الملوك؟

عفوك اللّهم...

ولا الضّالين.. آمين..

قل يا أيّها الكافرون.. لا أعبد ما تعبدون...

الأفاعي التي في عروقي تستيقظ للمرّة العاشرة، فينزل الحجاب..

أجدني في ملكوت آخر.. في حديقة من نهود وثمار أخرى..

وتنهمر عليّ المشاهد كالمطر.. هذه المرّة جرعة الإثارة أقوى من سابقاتها.. بقعة ما في سروالي تحنب قليلا قليلا...

وأسقط في الظّلام..

أصحو من سكرتي على ندم جديد، وعذاب جديد، وشعور أعمق بالحقارة..

ولا أنا عابد ما عبدتم.. ولا أنتم عابدون ما أعبد..

ذاكرتي تفتح بابا من أبوابها.. هذه المرّة تفتحه على الضفّة الأخرى..

إمام الحيِّ يخطب يوم الجمعة..

"في الحريّة تمام العبوديّة.. وفي تحقيق العبوديّة تمام الحريّة.. فمن أراد أن يذوق طعم الحريّة ويستريح من العبوديّة، فليطهّر السّريرة بينه وبين الله تعالى..."

أشعر بقشعريرة تسري بين عظمي وجلدي.. يتلبّد غمام البكاء في سمائي، ثمّ ينهمر زخّات زخّات.. ما أعذب هذا البكاء.. أشعر وكأنّه يغسلني من درني، وينتشلني من لقمة الطّين..

سبحان ربّي العظيم.. سبحان ربّي العظيم.. سبحان...

ينبع صوت من داخلي.. لعلّه صوت شيطان.. أو لعلّه من رجع الصّدى:

"أنت كجادع أنفه بيده.. الشّهوة التي تصرخ بها خلاياك هي من صميم فطرتك، فلا تكبلنّك أوهام الدّين.."

يعاودني ضيق غامض.. وتتنازعني الظّنون..

صوت آخر..

"أستغفر الله العظيم.. أحسِب النّاس أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون"..

سمع الله لمن حمده.. ربّنا ولك الحمد..

تختلط عليّ الصّور والأصوات بلا خيط ناظم..

بيت مشقوق الجدران في حيّ مترب، هو بيتنا..

"طالت بك البطالة يا ولدي.. حسِبنا شهائدك ستغني عنّا من الفقر، لكنّها لم تغن عنّا شيئا.."

سبعة أخوة أنا أكبرهم، تسحقنا جميعا عجلة الاحتياج، فتحوّل أحلامنا إلى خيوط من دخان..

"أخي، لِم الجهد ومصيري بعد الدّراسة كمصيرك" !؟

أصحو على ضيق جديد.. وعذاب جديد..

...سبحان ربّي الأعلى.. الله أكبر..

الحمد لله رب العالمين.. الرّحمان الرّحيم...

على عتبات الجامعة ولد حبّنا.. نزل فينا كسرٍّ علويّ آبِق.. وجه أسمر فيه وداعة وجمال.. وشَعر غجريّ يسافر إلى منتصف الظّهر.. وقلب يتفتّح كوردة عذراء..

إيّاك نعبد.. وإيّاك نستعين.. اهدنا الصّراط المستقيم.. صراط الذين أنعمت عليهم...

"أنا لك ما حييت..."

"آسف حبيبتي.. لا أستطيع أن أحافظ عليكِ كالرّجال.."

ينقطع قلبي وأغلق باب الحبِّ إلى أجل غير مسمّى..

قل أعوذ بربّ النّاس.. ملك النّاس..اله النّاس..

أتذكّر ذلك اليوم الذي تثاءبت فيه شهوتي لأوّل مرّة.. كان ذلك منذ عشرين عاما.. منذ ذلك الزّمان وأنا كالقابض على الجمر.. أسرع إلى الصّيام فتسكت عنّي كلاب الشّهوة حينا، لكنّها لا تلبث أن تعود..

ينبع صوت لا أدري من أين:

"ليس بينك وبين كأس المتعة.. ليس بينك وبين إطفاء النّار التي تسري تحت جلدك، إلاّ أن تطرح عنك أوهام الدّين.."

الذي يوسوس في صدور النّاس.. من الجِنَّةِ والنّاس..

الله أكبر.. سبحان ربّي العظيم.. سبحان...

تُملأ مخيّلتي بثمار حديقة الحدائق.. إنّها فينيس تارة أخرى.. الدّم في عروقي يصير بنزينا.. تشتعل رغبتي حتّى لا يبقى بيني وبين تفجير مائها إلاّ ضغطة أو بعضها..

ينبع صوت لا أدري من أين:

"تأدّب.. أنت بين يدي الملك !"

تأخذني رعدة.. وينتفض قلبي بين ضلوعي كعصفور..

صوت إمام الحيّ يتردّد في أذني..

"إنّه الطّوفان، فماذا أنتم فاعلون.. لا يقولنّ أحدكم سآوي إلى جبل يعصمني من الماء.. إذ لا عاصم اليوم إلاّ من رُحِم.."

سبحان ربّي الأعلى.. سبحان ربّي الأعلى.. اللّهمّ يا من جعلت في دمي النّقيض وضدّه، غلّبني على ما فيه سخطك، فإنّي بك لا بنفسي..

التّحيات الزّكيات لله، الطّيبات الصّلوات لله، السّلام عليك أيّها النّبي...

ايزيس، آلهة الفتنة، تتجلّى للمرّة الألف...

أنفض سجّادتي، ولا أدري كم صلّيت.. خمسا أو أربعا.. أو أكثر من ذلك أو أقلّ...

 

قصّة قصيرة بقلم: حسن سالمي

 

 

في نصوص اليوم