نصوص أدبية

شمس وشظايا

صالح البياتيألهبت رأسه شمس تموز، انتبه، فوجد نفسه مقرفصاً، حاسرا وحافيا، وسط حقل كبير، مزروع بشظايا قنان زجاجية، تبرق ألسنتها المرهفة كالمدي والأنياب، تحت أشعة شمس الظهيرة، شظايا على امتداد البصر، لاشئ سواها ينبئ بنسمة حياة.

لاشئ سوى انعكاسات ضوئية حادة، ذات ألوان مختلفة، احاطت به كحلقة محكمة، كانت الشمس في السمت، والظل لم يستطل، والاتجاهات حتى تلك اللحظة غير محددة، حاور نفسه بهدوء، فسخرت منه الشمس، واستهزأت بأفكاره، لانه فكر بالأنتظار حتى الزوال، الذي سيأتي بحل لمعاناته. فقتلت الشمس امله، بأن ستصب عليه شواظا من نار، تحرقه فلا يبقى منه شئ، قبل ان تجنح للافول.رد عليها غاضباً.

- لن ترهبيني، سأطفئ نارك بأقرب نهر يصادفني. ضحكت منه

- اذا بقى منك شئ تطفئه.

كان يفكر بفتح طريق وسط الشظايا، خلع ملابسه العسكرية وفرشها تحت ركبتيه، شق القميص نصفين، ولف كل قطعة على ذراع، وشرع بإزاحة الشظايا التي أمامه، ورماها على جانبيه، وهكذا كان كل متر ينظفه يصبح ممشا آمنا، تذكر كيف تدرب اول مرة على ركوب الدراجة الهوائية، فكانت ركبتيه تنسلخ بعد كل سقطة، صرخ بوجه الشمس:

-      سأصلي لك ايتها الشمس المتكبرة، ان انتصرت عليّٓ.

حدد الاتجاه، واخذ يزحف ببطء ولكن بثبات، تمزق البنطال العسكري، فتجرحت ركبتيه وقدميه، وتشققت قطعتي القميص، وغطت الجروح كفيه ورسغيه، ولكنه واصل الزحف بإصرار وعناد، كانت عيناه تؤلمانه وتدمعان من شدة الوهج، كان في ذروة انهماكه يريد ان يتوقف، يفكر بهدوء ويسأل نفسه:

- ما لذي افعله، مجنون انا ..او أني لست بكامل وعيي ولا اعلم! يستحيل ان ما أراه حقيقيا، لابد أني احلم، او ربما انا في عالم آخر. سخرت منه الشمس:

- بدأت تهذي أيها المسكين الضعيف، هل اوجعتك ضرباتي؟ مهلا سأطيح بك بالضربة القاضية عندما يحين وقتها…هه هه.

كانت الانعكاسات الضوئية قد أخذت بالاضمحلال، عندما شعر بالتعب ينهك جسده، وآلام قوية توجع ظهره ورجليه، ولكنه واصل الزحف، غير مكترث بآلامه المبرحة، أفلت الشمس، ولَم يقطع سوى مسافة قليلة، جاء الليل بنسمات باردة، وكان القمر بازغا، يعكس ضوءه الناعم على الشظايا، فيشعل فيها مهرجانا من الألوان الدافئة.

- هذه مملكتك أيها الجندي، وهي اجمل ممالك الدنيا، لا ينازعك عليها احد بحرب او بدونها.

كانت النجوم تهمس له بهذه الكلمات، تعيدها عليه حتى نام، ولما أشرقت الشمس في الْيَوْمَ الثاني، خلع ما تبقى من مزق بدلته العسكرية، وشق طريقه بعناد، كان هذا الصباح الصيفي لا يختلف كثيرا عن صباحات مدينته الجنوبية، احس بنسمات باردة تهب من الغرب، فيها شئ من رطوبة النهر، وبدت له من بعيد، بعض شجيرات الصفصاف، حجبت عنه رؤية النهر، أراد ان يستعيد تجربة اوتنابشتم السومري، عندما أرسل حمامة في محاولة اخيرة للنزول لليابسة، فعادت له بغصن رطيب، فكر الجندي، ماذا يرسل، فقال:

- لو كانت معي جزمتي العسكرية، لقذفتها بهذا الاتجاه، فإن سقطت في الماء وأحدثت صوتا، قدرت المسافة الباقية.

التقط قعر قنينة زجاجية، وقف منتصبا، وقذفها بكل ما تبقى من قوته، طارت الشظية في الهواء، وخطف بريقها تحت الشمس، عينيه لثوان، سقطت ولَم يسمع لها صوت انكسار، او تناثرت الى شظايا صغيرة، هتف بأعلى صوته، اليابسة.. اليابسة، تخيل انه واقف على قيدوم سفينة شراعية، تبحر نحو شاطئ قريب، ننسى ما أمامه من شظايا حادة، وركض كالمجنون حتى وصل الى الشجيرات، استراح على الجرف العالي، نظر لقدميه المدماتين، والى النهر الذي التمعت مرآته امام عينيه الكليلتين، كانت المويجات تتلألأ تحت شمس الظهيرة، بانعكاسات أخاذة، كأنها شموس صغيرة لا تحصى، مترجرجة في حركتها الموجية الرائعة، التفت وراءه الى الحقل الزجاجي، ونظر اليه نظرة مسالمة، ثم رفع رأسه للشمس، التقط شظية اخرى، هزَّ قبضته، صرخ كالمجنون.

- لن اطلب منك سن غزال، سأفقأُ عينك ايتها المغرورة.

وقذفها بقوة بإتجاه الشمس.

- ها انا قد انتصرت عليك اخيراً.

رمى جسده في النهر، طن في أذنيه صوت وش وش.

زال عنه الإعياء لمجرد انغماسه، غسل الماء جراحه، عب منه فأرتوى، راح يحرك ساقيه ويديه ويطبطب بقدميه، لاهيا كصبي يسبح لأول مرة في النهر، تذكر ان شيخا جليلا قال له يوما" ان رحمة الله تسع حتى المذنبين الخارجين من الجحيم، فبعد ان يعفو عنهم، يرمون الى نهر بارد من حليب في الجنة، يعيد لهم نضارة جلودهم التي تفحمت في النار"

كان جذلا منتشيا، لدرجة انه لم يسمع الرجل الذي كان يناديه من الشاطئ، ويأمره بالخروج، أراد ان يقول للرجل، الواقف عند جرف النهر،(الذي بدا انه كان متوجسا منه)، انه عار، لكن صراخ الرجل أربكه، فخرج، وقف أمامه على مسافة، نظر الرجل الى القرص المعدني المتدلي على صدره، كان يقطر ماءً، اقترب منه، مد يده وانتزعه، قرأ الحروف المحفورة فيه، ثم أعاد السلسال حول رقبته، ودون ان يقول شيئاً، ركض وعاد يحمل دشداشة بيضاء، رماها له، وحين لبسها هبت ريح قوية من الشرق، امتلأ ثوبه العريض المفتوح عند قدميه، بالهواء، ارتفع كبالون الى الأعلى، طار فوق ضفتي النهر العظيم، كان سرب من النوارس يحلق قريبا، صاخبا في خط أفقي نحو البحر، شاهد صيادي اسماك بملابس عسكرية، يرمون شباكهم في النهر العريض، ويدخنون السجائر الرخيصة، اثناء انتظار امتلاء شباكهم باسماك الصبور، قال مع نفسه، هؤلاء رفاقي، هجروا الجبهة، لا هربا من الحرب ليختبئوا في بيوتهم، ولكنهم اعتادوا كل سنة، في هذا الموسم، ان يصطادوا سمك الصبور، لوح لهم، ثم حلق فوق غابة نخيل، رآها محترقة، كأن جذوعها أعمدة سوداء، في خرائب معبد روماني، سمع أنينا وهمسا لها، لا يفهمه الا النهر والنوارس التي تحلق بعيدا نحو البحر.

هبط للضفة الاخرى، فرأى الجنود الصيادين يسحبون شباكا مليئة باسماك الصبور، تلمع حراشفها الفضية تحت الشمس.

كانت دورية عسكرية تجوب المنطقة، ألقت القبض عليه، حالما حط على الارض، وحينما حشروه في شاحنة عسكرية، مع امثاله من الفارين من جحيم الحرب، آذنت الشمس على المغيب، شعر بالراحة عند الاحتكاك برفاق السلاح، فقال في نفسه :

- نحن رفاق السلاح، اخوة في كل العالم، وعندما تندلع الحروب في كل مكان، نمتاز برائحة خاصة، ولهذا يعثرون علينا ويسوقننا للمسلخ.

سأله الرجل الذي بجانبه، إن كانت لديه سجائر، نظر اليه بحزن واعتذر.

كانت الشاحنة تؤرجحهم وتهدهدهم، فسقطوا من شدة التعب في احضان النوم، ولَم ينتبهوا حتى توقف هدير محركها، أنزلوهم من الشاحنة، بدأ الليل في تلك اللحظة يمارس لعبته، في اخفاء قبح الأشياء، أوقفوهم في صف واحد امام فرقة الإعدام، شعروا ان هواء النهر المنعش راح يتسلل الى ظهورهم، يربت على أكتافهم، يلطف حرارة اجسادهم، ساد صمت لا يعكره سوى خطوات الضابط الاستعراضية، قيدوا أيديهم للخلف، وغرزوا السجائر في افواههم، اشعلوها، تذكر أمه، رآها واقفة امام التنور الملتهب بالنار، وحبيبته بنفنوف وردي مطرز بأزهار بيض، ترتديه عادة، كلما يأتي في اجازة من الجبهة، تذكر أشياء كثيرة، كان قد نسيها سابقا، ولكن موت الأب المبكر، كان آخر شئ تذكره، دمعت عيناه، عندما اختنق بدخان السيجارة، سعل احد رفاقه عاليا، فتساءل، اخائف هو من الموت، أم ذاك من اثر الدخان وهواء الليل البارد، همس لرفيقه:

- تأمل كم هي هادئة هذه الليلة.

صرخ الضابط:

- خذوا نفسا عميقا جدا.

ثم صرخ عاليا:

- سددوا بنادقكم الى نار السجائر، أطلقوا النار.

انطلقت البنادق العشرة، دوت كالرعد في سكون الليل، كان هو الوحيد الحي من بين رفاقه، لم تصبه رصاصة، لانه رمى سجارته قبل انطلاق البنادق، كانت السماء صافية، بزرقة صيفية معتمة، احدثت فيها الرصاصات عشرة ثقوب بلون الدم، وعشرة نجوم بلون الدخان، ثم عاد الهدوء يلف ظلام الجبهة الخلفية الغارقة بليل القسوة والخوف.

 

قصة قصيرة

صالح البياتي

.....................

• نُشرت هذه القصة ضمن المجموعة القصصية ( ارشيف مدينة تحتضر) التي صدرت في ٢٠٠٨عن دار الحضارة العربية في القاهرة.

• بدلت العنوان من ( عشرة نجوم بلون الدخان) الى العنوان الجديد، وأجريت تعديلا بسيطا على القصة.

 

 

في نصوص اليوم