نصوص أدبية

الارشيف

صالح البياتياثار انتباهي من قبل ومايزال يثيره، رغم مرور الزمن.

في مدينة صغيرة كمدينتي، الاقرب للبلدة من حيث عدد الانفس، ليس هناك أدنى شك، بان جميع من فيها يعرفونه كما اعرفه، مركزها التجاري الوحيد، هو سوقها الكبير، اقدم سوق، بناه العثمانيون، وبنوا بجواره من جهة النهر، الجامع الكبير ذي المئذنة العالية، حيث تقام فيه حتى الآن، صلاة الجمعة.

كان يقف في مكان محدد، عند تقاطع السوق مع شارع التربية (سابقا شارع المعارف) في هذا المكان بالتحديد، يلتقي عادة الأصدقاء في أوقات الفراغ، وهو أيضا ملتقى العشاق المتأنقين دوما.

كان يقف هناك، كتمثال حي، لا يهتم بالناس الذين يزدحم بهم السوق في اكثر الأوقات، وهم أيضا لا يشعرون بوجوده، يضع نظارة سوداء تحجب عينيه، ويسد أذنيه ومنخريه بالقطن، فمه هوالمنفذ الوحيد المفتوح على العالم الخارجي، والفم أيضا مطبق تماما، وفوق ذلك يخفي رأسه بزنبيل كبير، مصنوع من سعف النخيل، ينتظر اجرة، ولو كان بدلها كلمة شكر، ورغم ذلك، لم يكن عند اي متسوق الاستعداد ليستأجره، ولغرابة أطواره، أطلقوا عليه الصندوق الأسود، ولقَّبه المتعلمون بالثقب الأسود، اما أصدقائي المثقفين، فأطلقوا عليه اسم الارشيف، وسبب هذه التسمية، ان واحدا من أفراد أسرته كان يسمى سكرتيرعزرائيل، (سأتناول سيرته ان اتيحت لي فرصة آخرى، بعد الانتهاء من هذه القصة القصيرة) عذرا، لقد الجأتني الضرورة ان اطيل قليلا في هذه المقدمة.

راح الناس في بلدتي ينسجون حوله حكايات عجيبة، بعضها مبالغ فيه، ولكنهم اتفقوا على انه مجنون خطر، قال البعض، انه كان طالبا يدرس الطب بجامعة بغداد، تعلق بفتاة بغدادية جميلة، من أسرة ثرية جدا،ولكن زميلته تزوجت بعد تخرجها حالا. وقال آخرون، انه من ضحايا حرب الثمان سنوات، ومنهم من ذهب بعيدا، فأكد انه مخبر، او جاسوس لدولة اجنبية، وهكذا صار الناس يتجنبونه، فارتفع بينهما جدار من الشك، يستحيل هدمه.

كنّا (أصدقائي وانا) نحاول فك ألغازه، فكرت بالاقتراب منه دون اثارة مخاوفه، فاذا مررت قريبا منه، احاول لفت انتباهه، اسلم عليه احيانا، دون ان أتوقع رد تحيتي، حاولت ذلك مرارا، دون جدوى، ولكن دون يأس أيضاً، خُيل اليّٓ سمعته يوماً يرد تحيتي، بصوت حزين خافت، حرصت ان اظهر أمامه بمظهر طبيعي، لا يثير شكوكه، تمنيت ان يكون مدخنا، لتكون السيجارة وسيلة لتعارفنا، ولكن لسوء الحظ لم يكن، شذ على قاعدة المجانين، بولعهم بالسجائر، يمتصون دخانها حتى النفس الأخير، بلذة مُلفتة للنظر، خطرعلى بال واحد منا ان نستدرجه، ندعوه لطعام ونسقيه خمرا، كانت الفكرة في غاية السذاجة، ومن وحي رواية راسپوتين، تخلينا عنها ، لنتفق على خطة اخرى، بعد ان عرفنا انه يؤدي خدمة لصاحب حانوت في السوق، إيصال طلبات الزبائن الى بيوتهم، اتفقنا مع الرجل، ودفعنا له ثمن كيلوغرام البقلاوة والزلابية، وأعطيناه العنوان، فقال ستستلمونها بعد الغروب.

طرق الباب في الموعد، قمت فتحته، رحبت به، مددت يدي لاصافحه، مدَّ يده ليسلمني كرتون الحلويات، لم أتناولها، قلت بهدوء:

- تفضل.. ادخل.

دخل، مشيت وراءه، اجتزنا الممر الضيق، الذي يفضي لباحة البيت، حيث جلس اثنان من أصدقائي، بدا عليهما التوتر، عندما شاهداه امامهما داخل البيت، لم يبدو عليه اَي اهتمام لرؤيتهما، قلت:

- من فضلك ضعها هنا، وتفضل اجلس، نحب ان نتحدث معك قليلاً.

- عن اي شئ، لا.. تأخرت، عَليَّ ان اذهب. أعدت رجائي بلطف، أشبه بالتوسل.

- صديقاي وانا نحب ان نتحدث معك.. طبعا اذا سمحت، قال بنبرة حزينة:

- لا.. يجب ان اذهب، الوقت متأخر.

تذكرت ان كلمة السر، التي بها نتغلب على رفضه، ان ننشاده بروح المرحومة أمه، كانت الكلمتين، هما المفتاح السحري لهذا المخلوق الغريب، ما ان سمعهما حتى اختفى رفضه فجأة، سألته عن اسمه، فأجابني، ولكنه لم يسألني عن اسمي، وبسرعة قبل ان ينقلب مزاجه، دعوته للمرة الثانية، للجلوس معنا، قلت:

- تفضل اجلس معنا، لا تخف، نحن أصدقاء.

- انا لست خائفاً، وأنتم لستم أصدقائي، انا لا أعرفكم..

- لنتعارف، نحن اعتبرناك صديقا لنا، فهل تقبل؟

- اقبل ان لم تفرض عليّٓ صداقتكم فرضاً.. قاطعته بلطف.

- نحن لا نريد ان نفرضها عليك، كررت عليه ترحيبي ودعوته للجلوس للمرة الثالثة، فجلس وحده، على كنبة تقابلنا، أزاح الزمبيل عن رأسه، فبان الشيب المبكر يغطي شعره، والشحوب الظاهر على وجهه، وهو لم يتخطى بعد الثلاثين من عمره. قلت:

- الوقت ليلا الآن، فلماذا لا تنزع نظارتك السوداء، لبى طلبي فورا، نزعها، واخرج القطن من فتحتي انفه، ومن أذنيه، وقال:

- هل تريدون شيئا اخر؟

- نحن لا نريد سوى الحديث معك. قدمت اليه شيئا من الحلوى، فرفض، وقال بهدوء:

- تفضل اسأل.

- هل لديك شفرة حلاقة، تهاجم بها من يزعجك كما يدعون؟ رد بسرعة

- تعال فتشني، لتتأكد بنفسك.

لم أجرأ ان أقوم من مكاني، لأفتشه كما دعاني، لقد سمعت قصصا عن عنفه، باستعمال شفرة يخفيها بين إصبعيه، فقلت في نفسي، ان فعلت، فقد يباغتني، ولن أستطيع الدفاع عن نفسي.

- لا داعٍ لذلك، نحن أصدقاء، نريد ان نعرف منك الحقيقة.

- هل تصدقوني لو قلت ليس عندي شفرة؟

- نعم نصدقك.. لماذا لا نصدقك.

قال وشبح ابتسامة ساخرة رفت على شفتيه:

- وإن قلت لكم عندي؟

- سنصدقك أيضاً.

اسرع بالجواب، كأنه يريد إنهاء المناقشة بيننا، وإعلان انتصاره علينا.

- ما الفرق إذن، الأفضل ان تفتشني لتعرف الحقيقة.

احترت بماذا اجيب، انسحبت امام طريقته في النقاش، أعلنت استسلامي.

- لننسى موضوع الشفرة، ولكن قل لي من فضلك، لماذا تسد انفك وأذنيك، وتحجب عينيك بنظارة سوداء؟ قال وكأنه يريد ان يسرد علينا حكاية لأول مرة.

- الم تروا القردة الثلاثة، الاول الذي لا يرى، والثاني الذي لا يتكلم والثالث الذي لا يسمع؟

ادهشني ذكرهم، رأيتهم مرة بمجلة مع شرح أسفل الصورة، يوضح المعنى الذي ترمز اليه، حاولت ان اختبره في مدى معرفته بها*.

- نعم رأيتهم انا في مجلة اجنبية، ثلاث قردة حكيمة، ولكنهم في الحقيقة يرمزون لتبرير الانسحاب.

- من اي شئ؟

- من المعركة الدائرة منذ القدم بين الخير والشر، لا ارى، لا أتكلم، ولا اسمع. اي انهم عمي بكم صُم.

- ليس صحيحاً، بل العكس هو الصحيح، فهم بهذه الرمزية الظاهرة في حركة الايدي، يقولون لنا، انا لا اريد ان ارى الشر، فيغطي عينيه وهكذا مع الآخرين، نفس المبدأ.

- تقصد ب (لا اريد) بمعنى (ارفض) أليس هذا ما قصدته!

- نعم.. وانا شخصيا ،أمثِّلهم جميعا، اختصرتهم بواحد.

- ولكن لم يسد واحد منهم انفه.

تجاهل سؤالي، كأنما أراد ان يستكمل توضيحه، بعبارة ذات أهمية لحسم الجدل الدائر بيننا نهائيا.

- هناك قرد رابع.

- لا وجود له، ربما هو من وحي خيالك.

- بل هو موجود ، وبدونه لا معنى أصلا للحكمة، صحيح انه غير ظاهر للعيان، ولكن بدهيا موجود، وبه استعادت الحكمة وضعها الصحيح، في استقباح الشر واستنكاره في ثلاث حالات، ولكن الأهم هو الرابع، عدم فعل الشر، وهو الأهم.

- هذا صحيح تماما، لم نفكر به أبدا.

- ولكنك تحاشيت الإجابة عن سؤالي، لماذا تغلق انت انفك بالقطن؟

- القردة الثلاثة لم تُقصف باسلحة كيميائية.

- لا افهم ماذا تقصد؟ ابتسم لأول مرة.

- الم تقصف مدينة حلبچة بالسلاح الكيميائي*؟

- نعم في أواخر الحرب تقريباً.

- ونحن.. الم يقصفوا مدينتنا؟

- نعم، بمادة بيضاء، أشبه بالطحين، ولكن تبين بعد القصف، انها ليست سامة، وذلك لبث الفزع في قلوب المتمردين على الحكومة. * (لم اقل المنتفضين على الرئيس) خوفا ان يكون مخبرا بالفعل. ابتسم للمرة الثانية، ولكن هذا المرة كانت ابتسامة استهزاء واحتقار.

- المرحومة والدتي قتلها السرطان، ولكن كانت تعالج منه بالكيمياوي املا بالشفاء، لذا تراني أسد انفي من باب الاحتياط، هذا هو جوابي على سؤالك السابق.

نظر إليّ نظرة ذات معنى، ابلغ من حديث فارغ، لا طا ئلة فيه، فهمت انه يريد ايصال رسالة بصريه للناس، ان يقول لهم : أنتم عمي، بكم، وطرش… شركاء في الجريمة. نحن ننسى بسرعة، اما هو فمختلف عنا، هو كما أطلقنا عليه، ارشيف المدينة. شعرت بتململه في مكانه، انتهزت الفرصه، فسألته قبل ان يذهب.

- هل تحتفظ بأسرار المدينة!

- لا بل الاعمال الحسنة والقبيحة.

- وأيهما الأكثر؟

- أنتم المصدر، فلماذا تسال!

افحمني جوابه، فلم اقل شيئا بعد ذلك، مكثت صامتا، انظر اليه، فرأيته يعيد إغلاق منافذه على العالم الخارجي، ثم بعد ان فرغ، رفع الزنبيل ذي العروتين، وغطى به رأسه، وغادر المنزل بهدوء، ودون كلمة وداع، ومنذ ذلك الحين، عرفت لماذا يتجنبه أبناء مدينتي.

 

قصة قصيرة

صالح البياتي

......................

هذه القصة نشرت ضمن مجموعتي القصصية (ارشيف مدينة تحتضر)، اجريت عليها بعض التعديل في صياغة العبارات، ولكن فكرتها لم تتغير.

• ثلاث قردة منحوتة على إفريز حجري في معبد ياباني، يرجع تاريخها الى القرن السابع عشر الميلادي.

• حدث ذلك اثناء انتفاضة آذار عام ١٩٩١، التي عرفت أيضا بالانتفاضة الشعبانية.

• حلبچة مدينة عراقية في اقليم كردستان.

                          

 

في نصوص اليوم